كيف دخل العرب مصر؟ سؤال تاريخي هام ومحاولة لوضع إجابة من بين صفحات الكتابات الأكاديمية والدينية، متمثلة في عمل ألفريد باتلر الكلاسيكي عن “غزو مصر“، وبحث جاك تاجر في كتاب أقباط ومسلمون، بينما تم الوضع في الاعتبار، فرد مساحة للمدونتين الإسلامية والمسيحية من كتابات ابن عبد الحكم وبعض تدوينات المؤرخين المسيحيين لإلقاء الظلال على مختلف الآراء، حول كيفية دخول العرب مصر ، في مخيال العرب ومخيال المسيحيين وسرديات الأكاديميين.
جاك تاجر – أقباط ومسلمون
يبدأ سرد جاك تاجر بصدفة تجعل عمرًا بن العاص ينتقل من فلسطين إلى مصر، تحديدا الإسكندرية. وهناك يحضر حفلا تقام في الحفلة لعبة تتلخص في إلقاء الكرة على الحاضرين، ومن تقع عليه يعتبر حاكم مصر القادم، وما كان من الكرة إلا أنها سقطت على الغريب الذي أحضرته الصدفة ألا وهو عمرو بن العاص. بعد دخول المسلمين فلسطين يطلب ابن العاص غزو مصر وقد رفض طلبه الخليفة عمر بن الخطاب، ومع إلحاح ابن العاص يوافق الخليفة على المسير لغزو مصر، إلا أنه يتلقى تحذيرًا بهلكة المسلمين في هذا الغزو من عثمان بن عفان، فيرسل لابن العاص “إن أدركك كتابي قبل أن تدخل مصر، فعد إلى موضعك، وأن كنت دخلت فامض لوجهك“
تسير العمليات العسكرية ببطء، وعمرو يسارع في طلب المدد من الخليفة، وكان تقدير جيش المسلمين في عملية غزو مصر ما بين 12 ألف رجل إلى 15 ألف رجل، واستمر القتال شهرا في الفرما، وسبعة أشهر حتى سقط حصن بابليون، وأربعة عشرا شهرًا حتى تسقط الإسكندرية، وفي مقابل جيش عمرو، كان الجيش البيزنطي في مصر حوالي 22 ألف رجل، إلا أن ذلك الجيش لا يمتلك قيادة مركزية موحدة، وإداريا كانت مصر مقسمة 5 دوقيات يحكمها 5 محافظين، وكان المحافظ يحمل كلا من السلطة العسكرية والسياسية، تلك التجزئة في السلطة الإدارية أدت لعدم وضع خطة دفاع مشترك، كما كانت القوات العسكرية مرهقة بالأعمال البوليسية وجمع الضرائب، والتدخل في الخلافات العقدية بين المذاهب المسيحية لصالح الإمبراطورية.
سار الأمر باتفاق بين عمرو بن العاص والبطرك قيرس “محافظ الإسكندرية“. على أن يدفع الثاني الجزية دون دخول العرب مصر وبقي في الحكم 3 سنوات، إلا أنه قد تمت إقالته بسبب شكوى المصريين للامبراطور بأنه يجمع أموالهم ويعطيها للعرب، وتم تعيين القائد مانويل، الذي رفض دفع الجزية ونشبت حرب، فدخل العرب المسلمون مصر إثر تلك المعارك، وخيروا الناس بين استئناف القتال أو الإسلام أو الجزية، ولعب المقوقس “قيرس“حسب المصادر الإسلامية دورا هاما في تقريب وجهات النظر وعقد الاتفاقات مع العرب المسلمين وتسهيل دخول حصن بابليون، بينما استقبل أقباط مصر العرب المسلمين بنوع من الغرابة، كما لم يرحبوا تماما بعروض المسلمين إما الإسلام وإما الجزية، فقد أعلنوا التمسك بالمسيحية، وشعروا بالهوان في قبول تقديم جزية للعرب المسلمين، كما تشير بعض الأخبار عن مساعدات بعض الأفراد في القتال ضد الروم بسبب طبيعة الخلاف المذهبي بين الإمبراطورية البيزنطية وقبط مصر، ويعد أفضل وصف لأحوال قبط مصر حيال دخول العرب المسلمين مصر أنهم كانوا في موقف المشاهد الذي يتتبع الاجتياح العسكري بعين من الفضول.
ألفريد باتلر – غزو العرب لمصر
بحسب بحث ألفريد باتلر في أواخر نوفمبر 641م كُتِب عقد تسليم الإسكندرية، وكان كبار الروم أحزابا وشيعا يغلب على علاقتها الصراع ويبعدها حتى عن قتال العرب المسلمين، وربما ما فعل المقوقس من تسهيل دخول العرب مصر، كان سببه رغبته أن يضعوه على رأس الكنيسة، وقد كانت أهم بنودعقد الصلح تسليم الإسكندرية:
1 ـ أن يدفع الجزية كل من دخل في العقد.
2 ـ أن تعقد هدنة لنحو أحد عشر شهرا تنتهي في أول شهر بابه القبطي، الموافق الثامن والعشرين من شهر سبتمبر من سنة 642م.
3 ـ أن يبقى العرب في مواضعهم في مدة هذه الهدنة على أن يعتزلوا وحدهم ولا يسعوا أي سعي لقتال الإسكندرية، وأن يكف الروم عن القتال.
4 ـ أن ترحل مسلحة الإسكندرية في البحر ويحمل جنودها معهم متاعهم وأموالهم جميعها، على أن من أراد الرحيل من جانب البر فله أن يفعل، مقابل أن يدفع كل شهر جزاء معلومًا ما بقي في أرض مصر في رحلته.
5 ـ ألا يعود جيش من الروم إلى مصر أو يسعى لردها.
6 ـ أن يكف المسلمون عن أخذ كنائس المسيحيين ولا يتدخلوا في أمورهم أي تدخل.
7 ـ أن يباح لليهود الإقامة في الإسكندرية.
8 ـ أن يبعث الروم رهائن من قبلهم، مئة وخمسون من جنودهم وخمسون من غير الجند ضمانا لإنفاذ العقد.
وفي سبتمبر 641م تفاجئ أهل الإسكندرية بوفد عربي أتى للمدينة ليس للحرب بل من أجل طلب الجزية، هاج أهل المدينة وتجمعوا وذهبوا إلى بطرك المدينة، الذي أخبرهم أن ذلك فقط حقنا لدمائهم، وأن من يريد العيش في أراضي مسيحية فليغادر الإسكندرية، وبكى البطرك من تأثره بالوضع وانتهى الأمر بتجميع الجزية وتسليمها للعرب.
وفي يوليو 642م بدأ قتال العرب وأهل الدلتا، وقد قاوم المصريون أشد مقاومة حتى أن تلك المعارك استمرت مدة سنة، وقد رفض عمرو بن العاص طلب قيرس بعودة المصريين الذين أتوا للمدينة إثر الحرب، خوفا من مشاركتهم في القتال الدائر بأرجاء مصر، وفي 644م أطلق عمرو بن العاص عهد الأمان للبابا بنيامين، الذي ظل هاربا لمدة 13 عام، 10 أعوام من حكم الرومان، و3 أعوام من حكم العرب.
وكانت العلاقة قد توترت بين الخليفة عمر وعمرو بن العاص بسبب تأخره في إرسال الخراج، مما جعل الخليفة يأخذ قرارات تقلل من سلطان عمرو على مصر، حيث أرسل لمصر محمد بن سلمة ليجمع من المال ما استطاع فوق جزية عمرو، ثم أرسل عبدالله بن أبي السرح وتولى حكم الصعيد والفيوم وجباية الخراج.ومع قتل الخليفة عمر بن الخطاب عُزل عمرو بن العاص من قبل الخليفة عثمان، وتم تعيين عبدالله بن أبي السرح واليًا على مصر.
وفي سنة 645م يرسل الإمبراطور قسطانز أسطولًا إلى الإسكندرية بقيادة مانويل، ويستطيع استعادة الإسكندرية وطرد الحامية العربية منها، ولما بلغ الخليفة عثمان بن عفان عن انتصار الروم، أعاد عمرو بن العاص إلى مصر، وانتهى القتال بين الروم والعرب بإعادة دخول العرب للإسكندرية في عام 646م عن طريق بواب ساعد العرب في دخول المدينة، مثلما ساعد ابن العاص قيرس من قبل، ويدخل العرب الإسكندرية بالقتل وأخذ الغنائم وإشعال الحرائق، وقد هرب الكثير من جنود الروم عبر البحر،وأخذ العرب النساء والذراري فجعلوهم فيئا، وبعد إخماد حركة التمرد إثر خلاف بين عمرو بن العاص والخليفة عثمان يغادر عمرو البلاد مرة أخرى.
ابن عبد الحكم فتوح مصر وأخبارها
يخبرنا ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر وأخبارها، أن البابا بنيامين كتب للقبط في الفرما أن يكونوا أعوانا للعرب، ومن ثم تقدم عمرو إلى بلبيس واستمر قتاله فيها شهرًا، ولكنه في أم دنين تعرض لقتالشديد جعله يرسل إلى الخليفة طالبا المدد، وهو ما تكرر أيضا أيام حصار بابليون وقد طالب عمرو أيضا بالمدد والرجال، وبعد اجتياح الحصن خاف المقوقس على حياته وحياة من معه فذهب وطلب عقد صلح، وحين عارض الإمبراطور البيزنطي الصلح مع العرب ذهب المقوقس إلى عمرو بن العاص يطلب منه ثلاث خصال:أولا ألا ينقض بالقبط، وثانيا عدم صلح الروم، وثالثا إن مات يدفنه بأبي يحنس “دير يوحنا القصير” في الإسكندرية، ووافق له عمرو بن العاص، وقد تكرر موقف المقوقس في التفاوض مع عمرو بن العاص حول مصير أهل الإسكندرية مثلما تفاوض حول مصير قبط مصر في بابليون، وحاصر عمرو الإسكندرية 9 أشهر حتى دخل المدينة للمرة الثانية، عن طريق بواب يدعى ابن بسامة عرض على عمرو أن يدخله المدينة في مقابل أن يأخذ الأمان على نفسه وأهله وأرضه، وبدخول عمرو بن العاص الإسكندرية ترحل منها 70 ألف يهودي خوفا من العرب، وكانت سياسة التعامل مع المصريين حسب طلب الخليفة عمر بن الخطاب بعيدة عن السبي في حال دخول الإسلام أو دفع الجزية.
وينقل لنا ابن عبد الحكم خلافًا حول دخول مصر بالصلح أم عنوة أم أن دخول مصر كلها كان صلحا بينما الإسكندرية عنوة، فيروي عهدة من 5 شروط مع أهل مصر: ألا يؤخذ من أنفسهم شيء، ولا نسائهم، ولا من أولادهم، ولا يزاد عليهم، ويدفع عنهم موضع الخوف من عدوهم، في مقابل روايات عن الدخول عنوة وأن أهل مصر بمثابة العبيد لا عهد لهم في رقبة العرب المسلمين، وأن الجزية فرضت حتى على أموات الأقباط.
دخول العرب مصر في كتابات المؤرخين المسيحيين
طبقا لمخائيل السرياني سلمت مصر إثر الصراع القبطي البيزنطي، وأن البابا بنيامين هو من ساعد العرب على دخول مصر بسبب اضطهاد أصحاب العقيدة الخلقدونية لقبط مصر، واحتل من بعدها الأقباط الكنائس والأديرة، ولم يعد يوجد من الخلقدونيين سوى عدد قليل، ويسرد ساويرس بن المقفع منامًا للإمبراطور هرقل، رأى فيه أمة مختونة تهزمه وتحكم الأرض، فظن أن تلك الأمة هي اليهود. فأمر الإمبراطور بتعميد جميع اليهود والسامرة في الأراضي التي تقع تحت سلطانه، ومن بعده بأيام يسيرة ثار رجل من العرب اسمه محمد؛ فردّ عبادة الأوثان إلى الله الواحد الأحد، وكانت أمة مختونة بالجسد لا الناموس، وملك محمد دمشق والشام وعبر الأردن وسادها، وكان الرب يخذل جند الروم أمامه بسبب أمانتهم الفاسدة والحرمات التي أحلوها في خلقدونية، وبعد 10سنوات من هروب البابا بنيامين من حكم هرقل والمقوقس، ظهر جيش المسلمين، وبعد انتصار بابليون يقع عهد مع الأقباط، أعطاهم إياه رئيسهم محمد ويقول فيه. “قرى مصر ومدنها تستقر متى دفع أهلها الخراج، وإن تعهدوا لسلطانكم فعاهدوهم ولا تظلموهم، وإن لم يرضوا بذلك فانهبوهم واسلبوهم“. ويكمل أنه بعد ملك العرب مصر 3 سنوات دخل عمرو بن العاص الإسكندرية، وهدم سور المدينة وحرق بيعًا كثيرة وبيعة ماري مرقس التى هي على البحر.
بينما يخبرنا يوحنا النقيوسي عن أخبار أشد عنفا:ومع دخول الإسماعيليين مصر ذبحوا القائد البيزنطي ثيودوسيوس وجنوده بلا رحمة، ومع توغل العرب تصاعدت المجازر في مصر بالأخص في الفيوم، ودب الذعر بين المصريين فهرب من استطاع إلى الإسكندرية، وتابع المسلمون سيرهم يحرقون المدن ويقتلون الناس، وقد هزم البيزنطيون بسبب تخليهم عن الله، وقد عذبوا المصريين السجناء يوم عيد الفصح لأنهم أرثوذكس، وقد هرب الروم والأثرياء.وفي النهاية، دخل عمرو بن العاص الإسكندرية، ولم يسلب الكنائس فيها إلا أنه ضاعف الضرائب بكثرة لدرجة بيع الناس أولادهم لدفع الجزية، وانضمت أعداد من المصريين إلى الدين الجديد منهم رئيس دير سيناء الخلقيدوني الذي قام باضطهاد المسيحيين بعد إسلامه.
حقيقة واحدة
بعد تلك الرحلة في سرديات مختلفة ما بين الديني والأكاديمي، نعرف أن هناك العديد من الخلافات التاريخية حول الترتيب التاريخي لأحداث دخول العرب مصر وحول الأسباب، بالإضافة إلى دور المقوقس أو قيرس في تسيير دخول العرب، ومساعدة البابا بنيامين، وهل دخل العرب مصر صلحا أم عنوة؟ وهل كان دخول العرب إلى مصر غزوا أم فتح؟ وهل ترفق الجنود بأهل مصر عقب الانتصار العسكري أم لا؟ وهل كان دخول الإسكندرية مرة واحدة أم مرتين؟ كلها تساؤلات تبقى مفتوحة حول وجهات نظر أبحاث المؤرخين فجاك تاجر يخبرنا عن دفع قيرس الجزية 3 سنوات دون دخول العرب مصر عسكريا، وألفريد باتلر ينفي ترحيب القبط بدخول العرب بلادهم ولا ينفي مساعدات البعض لهم، بينما يأتي ابن عبد الحكم ليخبرنا أن البابا بنيامين ساعد عمرًا بن العاص في دخول مصر من البداية، بينما يقول ساويرس بن المقفع بأن تلك الأحداث وقعت في حياة النبي محمد.