قبل الحديث عن الوحي يجب أن نشير إلى أن الدين شكّل النقلة الأولى الكبرى في تاريخ الإنسانية، في طريق تطورها وتحضرها، وشكلت الكتب المقدسة الأطر المرجعية، في فترات طويلة في تاريخ الإنسان، وربما حتى الآن، للكثير من تصورات الإنسان عن الكون والحياة والقواعد والضوابط الاجتماعية والأخلاقية.
من الصعوبة وضع تعريف جامع مانع لمفهوم الدين؛ لتعدد وتنوع منطلقات التفكير في نشأته، لكن يمكننا استلهام بعض التعريفات، فمثلا يقول الفيلسوف اللاهوتي الألماني فريدريك شلايرماخر (1768-1834): إن الدين هو شعور اللانهائي واختبار له. وما نعنيه بـ اللانهائي هنا، هو وحدة وتكامل العالم المدرك. وهذه الوحدة لا تواجه الحواس كموضوع، وإنما تنبي عن نفسها للمشاعر الداخلية. وعندما تنتقل هذه المشاعر إلى حيز التأملات، فإنها تخلف في الذهن فكرة الله. وإن الخيال الفردي هو الذي يسير بفكرة الله إما نحو المفارقة والتوحيد وإما نحو نوع غير مشخص للألوهة يتسم بوحدة الوجود.
وأما ماكس مولر (1822-1900) الفيلسوف ومؤرخ الأديان الألماني فيعتقد أن: الدين هو كدح من أجل تصور ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه؛ إنه توق إلى اللانهائي. والفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر (1820-1903) فيرى أن الدين هو: “الاعتقاد بالحضور الفائق لشيء غامض وعصي على الفهم” كما يرى “أن الأديان على قدر اختلافها في عقائدها المعلنة، تتفق ضمنيا في إيمانها بأن وجود الكون هو سر يتطلب التفسير”.
وسواء انطلقنا من فكرة الألوهة في نشأة الدين كما يرى شلايرماخر، أو فكرة ” فوق الطبيعي” supernatural كما يرى سبنسر ومولر تبقى هناك إشكالية كبرى وهي كيف يتجلى اللامتناهي اللامحدود “الله/الآلهة/ما فوق الطبيعي” في المتناهي المحدود ” الإنسان “؟ من هنا تأتي أهمية مفهوم الوحي في الأديان الإنسانية الكبرى، فتأسيس أي دين لابد أن يتم عبر كتاب مقدس. والكتب المقدسة تحتاج للوحي كي تتجلى من اللامتناهي اللامحدود إلى الإنسان المتناهي المحدود.
يستعرض المقال بشكل بانورمي مفهوم الوحي لغة واصطلاحا، طبيعة الوحي وتجلياته، تقنياته وطرقه المتعددة في الأديان الإنسانية الكبرى من خلال كتابي “للوحي معان أخرى” و”دين الإنسان”، وكذلك المعجم الوجيز ومعجم ابن فارس.
ما الوحي؟
الوحي لغة: بالرجوع إلى المصادر اللغوية، مادة (و ح ي) جاءت بمعنى الكتابة، وحي، يوحى، وحيًا، أي كتب، يكتب، كتبًا، والوحي، والإلهام والإشارة والإيحاء والسرعة. وقال ابن فارس (و ح ي): “أصل يدل على إلقاء علم في إخفاء أو غيره، والوحي، الاشارة، والوحي الكتابة والرسالة وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى عَلَمَه فهو وحي كيف كان”. وأصل الوحي، الإشارة السريعة وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة بعض الجوارح وبالكتاب. وبالجملة فإن معاني الوحي اللغوية تشتمل على أنه بمعنى الكتابة، والإشارة، والإعلام، والرسالة، والرسل، والخفاء.
أما الوحي في الاصطلاح فقد عُرف بتعاريف متعددة منها. أن يُعلِم الله من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم لكن بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر. ومنهم من قال هو حلول روح الله في روح الكتاب المُلهَمين لإطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب بالوحي شيئًا من شخصياتهم فلكل منهم نمطه في التأليف، وأسلوبه في التفسير.
طبيعة الوحي
تتعدد طبائع الوحي ووسائله من دين لآخر، كما تظهر أيضا أشكالا متنوعة للوحي، يمكن تقسيم تلك الأشكال إلى أسلوبين متباينين :
- أسلوب الوحي في التقليد اليهودي/الإسلامي/المسيحي
- أسلوب الوحي في التقليد الهندي فيديه/برهمانية/هندوسية
ففي التقليد الإبراهيمي (يهودية/مسيحية/إسلام) الإله، إله محدد له سمات وصفات محددة، يتصل عن طريق وسيط بأشخاص يختارهم ليكونوا ناطقين بكلامه. وفي التقليد الهندوسي لا وجود “لمُرسِل ومٌستقبِل ووسيط” كالأديان الإبراهيمية وإنما يتم الوحي عن طريق استقبال الحقيقة الأساسية للوجود بواسطة الحكماء.
تجليات الوحي في الأديان البشرية الكبرى
الفيدية
الفيدا وحي ليس عن طريق مرسل-مستقبل-وسيط وإنما على شكل استقبال روحي للحقيقة الكونية من قبل الحكماء الملهمين. كما يختلف مفهوم براهمان عن مفهوم الإله في الأديان الإبراهيمية فهو إله غير مميز، محايد، لا يمكن وصفه بصفات إيجابية أو سلبية، وليس له مفهوم محدد. تعتبر الفيدا واحدة من أقدم الكتب المقدسة التي عرفها الإنسان، يُختلف على زمن تدوين الفيدا بين رأي قائل بـ 6000 سنة وألف سنة قبل الميلاد، وبين رأي آخر يقول إنه من 1500 سنة إلى 600 سنة قبل الميلاد.
أغلب الظن أن أسفار الفيدا الأربعة (ريج فيدا، ياجورا فيدا، سامافيدا،أتهارفا فيدا) لم تدون في وقت واحد وإن كانت انتشرت شفاهة على نطاق واسع قبل بدء زمن التدوين.
البراهمانية
الأوبانيشاد، وهي كلمة سنسكريتية مكونة من مقطعين upaوتعني “بالقرب من”، وni-shadوتعني “يجلس”. والمقصود يجلس بالقرب من المُعلِّم. الأوبانيشاد هي مجموعة من المحاورات تجمع بين الفلسفة والدين والأسطورة. وأغلب الظن أنها دونت بين سنة 800 و500 قبل الميلاد وهي وحي كالفيدا عن طريق استقبال روحي للحقيقة الكلية عن طريق الحكماء الملهمين وإنْ ظهر فيها بعض الشبه بالوحي في التقليد المسيحي الإسلامي اليهودي؛ فنجد مثلا في الأوبانيشاد ما يُخبِر به أحد الآلهة إلى شخص أو أشخاص مختارين.
البوذية
ربما هي الديانة الكبرى الوحيدة التي لا تعترف بالوحي، بل تنطلق من نقطة قيام بشرية محضة، هي إلهام الحكيم بوذا.
الزرادشتية
لا تنتمي الزرادشتية للأديان الإبراهيمية، وإن كانت تشترك معها في مفهوم النبوة واصطفاء الإله أهورا مازدا لزرادشت وتبليغه الوحي، كلام الله، في كتاب مقدس هو “جاثات” وهي الترانيم التي تنسب لزرادشت نفسه دون غيرها من الأناشيد التي تحتويها الأفستا. ويغلب الظن أن عصر زرادشت يرجع للقرنين السابع والسادس قبل الميلاد، أما عن تدوين الأفستا فيرجع للقرن الرابع قبل الميلاد.
اليهودية
أقدم الأديان الابراهيمية الثلاثة، لا تستند كتب أنبياء بني اسرائيل على نبي مؤسس واحد بعينه، بل ينمو نموا مطردا خلال قرون. والنبوة كما تظهر في أنبياء بني إسرائيل هي موهبة روحية تٌعلِّم الإنسان ما لا يمكن أن يصل إليه بقواه الخاصة وحدها وهدف هذه الموهبة هو الخلاص. وللوحي في اليهودية وسائل تقنية قديمة، أقدم من النبوة، مثل العرافة والفأل والأحلام والتنجيم وغيرها من الوسائل. فكل تلك الوسائل التقنية هي استنطاق للقدر أو الإله أو القوى الماورائية بأمور يجهلها الإنسان في المستقبل أو الماضي أو الحاضر. أما الأنبياء فيعبرون عن اختبار الوحي بطريقتين هما الرؤى وسماع الكلمة الإلهية. فالنبي موسى اختبر الوحي عن طريق الكلام المباشر من الله له. والنبي صموئيل اختبر الوحي عن طريق حلول الله فيه وتقمص روح الله روحه والنطق على لسانه.
مراحل النبوة داخل العهد القديم
مرت النبوة في العهد القديم بعدة مراحل هي:
- طبيعة نبوية (إبراهيم وإسحق ويعقوب: أصحاب رؤى سماوية وإعلانات إلهية)،
- طبيعة نبوية: قيادي، مخلص (موسى كقائد ومتلقي للشرائع الإلهية ومخلص للعبرانيين)،
- فترة القضاة (منذ زمن موسى لم ينقطع الوحي، لكن اتخذ صورة أخرى، روح الله يعمل في الأبطال الذين اختارهم لقيادة الشعب، أكثر مما يكلمهم)،
- مدارس الأنبياء (بداية من عصر صموئيل، حيث يجتمع بعض الشباب الراغبين في التعلم من نبيهم حوله، والإقامة في مستعمرات هم وأسرهم مع نبيهم المختار)،
- عصر الملوك (ظهور العديد من الأنبياء الذين طالبوا الملوك بطاعة كلمة الله)،
- عاموس وهوشع والأنبياء الصغار (ازدهار المملكة الشمالية كان سببا في تدهور الحالة الروحية فأقام الرب هوشع وعاموس لإعلان انهيار المملكة الوشيك أمام قوة عالمية عظيمة)،
- الأنبياء في يهوذا،
- زمن السبي (الوحي تشكل في صور ورؤى أكثر من الكلمة، لخص فيها النبي حزقيال تاريخ العالم السياسي إلى مجيء المسيح ثانية)،
- بعد السبي (مرحلة التشجيع على إعادة بناء الهيكل، الأنبياء حجي وزكريا)،
- انقطاع النبوة (ملاخي آخر أنبياء العهد القديم وبه ختمت أسفار العهد القديم وانقطعت النبوة حتى مجيء يوحنا المعمدان).
المسيحية
في المسيحية يسوع الناصري ذو طبيعة إلهية، وعلاقته بالله علاقة متميزة، متجاوزة مفهوم النبوة اليهودي، علاقته بالله علاقة بنوة، علاقة باطنية فعالة مع الإله الأب. يقول يسوع الناصري عن نفسه “أنا هو، وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء”، “من رآني فقد رأى أبي”، “إن الذي أرسلني هو معي”، “ما أتيت من نفسي، ولكن الذي أرسلني ينطق بالحق وأنتم لا تعرفونه. فيما أنا أعرفه لأني منه أتيت وهو الذي أرسلني”.
الوحي في المسيحية ليس فقط الكلمات التي ينطق بها يسوع، بل الوحي هو يسوع نفسه، فهو كلمة الله. لذلك فالأناجيل ما هي إلا سيرة لحياة يسوع وأقواله. وكأن يسوع تحول إلى كتاب مقدس مقروء، مما كشف عن أهمية وجود نص مقدس لاستمرارية الدين، فكما قال المسيح “إن الروح القدس سوف يعلمكم كل شيء”، “ويرشدكم إلى جميع الحق” لذلك فقد أوحى الروح القدس لكُتَّاب الأسفار المقدسة ما كتبوا ويرشدهم فيما كتبوا، لكن لم تمح الروح القدس شخصياتهم بل كتب كل منهم بأسلوبه الخاص.
الإسلام
لم يقبل الإسلام التصور المسيحي عن بنوة يسوع، لأن الله يتنزه بشكل مطلق عن التداخل مع الطبيعة البشرية “قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد” (قرآن كريم). ومعنى الوحي في القرآن، له علاقة بأصله في اللغة العربية من حيث هو الإعلام في الخفاء، والإشارة السريعة، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة. والوحي في القرآن له أقسام متعددة مرتبطة بتلك المعاني، يمكن تصنيفها على النحو التالي:
- ما يبلغه الله إلى أنبيائه (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)،
- وحى بمعنى إرسال جبريل ألى الرسل (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه)،
- وحي إلى الأمم بواسطة الرسل (وأوحينا إليهم فعل الخيرات)،
- الأمر (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي)،
- التسخير (بأن ربك أوحى لها) أي سخرها في قول بعض المفسرين،
- الإشارة (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) أي أشار لهم أن سبحوا في قول بعض المفسرين،
- الكتابة (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) أي كتب لهم على الأرض في قول بعض المفسرين،
- الإلهام (وأوحى ربك إلى النحل) أي ألهمهم،
- القذف في القلب (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) ومعناها هدينا قلبها لذلك،
- يُسِرّ، يوسوس (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول)،
- الإبلاغ (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أي إبلاغه.
التقنيات والطرق المتعددة للوحي إلى الأنبياء في الإسلام:
- كلام جبريل المباشر إلى الرسول، قد يأتي على صورته بستمئة جناح كما ورد في الأحاديث أو في صورة أخرى غير صورته، في صورة أعرابي وغيرها من الصور،
- الاتصال الخفي باندماج الملك بكيفية مجهولة ودرجة غير معلومة مع الرسول، كقول الرسول (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال)،
- سماع كلام الله من غير روية الله (من وراء حجاب)،
- إنزال الكلام الإلهي على قلب الرسول،
- الرؤيا في المنام.
خاتمة
سؤال الدين، من الأسئلة الكبرى في حياة البشر، هي مغامرة العقل الأولى كما يصفها فراس السواح، فقد لعب الدين دورا كبيرا في تاريخ البشر وفي مسار تطورهم الفكري والروحي. والتساؤل حول الحقيقة المطلقة اللانهائية يظل عالقا دائما أبدا في قلوب وعقول البشر بلا جواب حاسم، وكل محاولة للفهم والتقرب لا تعدو كونها خطوة صغيرة في الإحاطة بالحقيقة المطلقة اللانهائية. يقول جلال الدين الرومي: الحقيقة كانت مرآه بيد الله وقعت وتشظت، كل فرد أخذ قطعة منها، نظر إليها وخال أنه يملكها كاملة. ويقول سلطان العارفين محيي الدين ابن عربي:
“لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلًا كلَ صُـورةٍ .. فـمرعًى لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني”
هل ممكن المصادر والمراجع التي تم الإستناد عليها في بناء معلومات هذا المقال