يعد الاستشراق من أكثر القضايا الشائكة في الساحة الثقافية العربية، وعلى مدار عديد السنوات تواجد الاستشراق بمفاهيم مختلفة ومواقف متباينة بين مؤيد ومعارض واتجاهات تحليلية ونقدية. لقد تمت دراسة الاستشراق من قبل الباحثين الأكاديميين في البلدان العربية الإسلامية كما تمت دراسته من قبل رجال الدين الإسلامي، وبين كل تلك الدراسات قد يبدو الاستشراق ضائعا كمفهوم وكتطور حدث عبر التاريخ، يقف حيث نقطة ثابتة تبنى عليها الكثير من الأحكام، ولهذا سنحاول أن نفهم. ما الاستشراق؟ وكيف تطور؟ وما مواقف المفكرين العرب من مواد الاستشراق؟ كما أننا سوف نلتزم بالبحث فيما يعرف بالاستشراق الكلاسيكي الذي امتد زمنيا إلى نهاية الستينات من القرن العشرين، كما سوف نلتزم بمفهوم محدد حول الاستشراق لا يلتفت إلى ما تمت دراسته حول الصين أو اليابان، بقدر الانطلاق من مفهوم محدد، حول استشراق الإسلاميات، وكيف دار في سجالات المفكرين العرب.
تعريف الاستشراق
طبقا للسيد محمد شاهين، فإن الاستشراق هو دراسة علوم الشرق والكلمة مكونة من مقطعين، وهما (ا–س–ت) و (ش–ر–ق)، والـ (ا–س–ت) تعبر عن الطلب، فكلمة استأذن: تعني طلب الإذن، استبيان: تعني طلب البيان، مما يجعل المعنى اللفظي لكلمة استشراق: هو طلب الشرق، كما يجب أن يقتصر وصف المستشرق وهو العالم الدارس لتلك العلوم على الغربيين من العلماء.
وكلمة استشراق ما هي إلا ترجمة لكلمة “orientalism” من اللغة الإنجليزية، ولا تعد الدلالة اللفظية لكلمة الشرق، ما يقصد بها جغرافيًا، لأن الاستشراق لا يهتم مثلا بدراسة أوروبا الشرقية، وجغرافيًا يتناول الاستشراق المنطقة الواقعة من جنوب أوروبا إلى الجنوب الشرقي منها، بينما تشير كلمة استشراق إلى دراسة حضارات الشرق القديم، طبقا للترجمة الألمانية morgenland أي أرض الصباح أو أرض شروق الشمس، وهي البلدان التي وقع فيها ظهور الأديان الإبراهيمية، ومثل فيها علماء الحضارة الإسلامية نقلة نوعية معرفية للأوروبين، كما أنها أيضا منطقة حضارات قديمة شملت علمًا واسعًا.
جذور الاستشراق
حسب د. زكاري لوكمان فإن رؤية المستشرقين تمت وراثتها من اليونان القديم، حيث كانت كل الشعوب الأخرى تعد برابرة، خاصة وأن تلك المقارنات ظهرت في عصور ضعف مصر القديمة وفارس، ومن بعد ذلك أتت روما التي انتشرت فيها المسيحية التى أتت من الشرق، ثم انقسمت الإمبراطورية شرقا وغربا، وكان التفوق شرقا لصالح القسطنطينية، وقد كان تمسك العالم المسيحي الغربي برمزية بابوية الفاتيكان مقاومة ضد إعلان القسطنطينية سيطرتها على كل العالم المسيحي، وفي النهاية أصبح الغربيون كاثوليك والشرقيون أرثوذكس. والتصور المسيحي الغربي للعالم، اعتبر أن كل العالم من نسل نوح، وأن أبناء يافث في أوروبا، وأبناء سام هم الآسيويون، وأبناء حام هم الأفارقة. ورؤية تفوق أوروبا ترجع إلى أفضلية يافث على سام وحام.
ومع ظهور الإسلام اعتبر شرًّا شرقيًّا جديدًا يهاجم العالم الغربي المسيحي، وقد مال الأوروبيون إلى تصنيف العرب عرقيا لا مذهبيا بإطلاق وصف ” السراسنة” الاسم الذي كان يطلق من قبل الإغريق على سكان منطقة أرابيا، ومن ثم ظهرت تسميات الهاجريين والإسماعيليين. ويجب التنبيه على أن الأوروبيين لم يعوا أن المورو سكان شمال أفريقيا، والسراسنة سكان منقطة أرابيا، من جماعات المسلمين، واعتبروا أن كلا منهما جماعة منفصلة عرقيا وثقافيا بسبب عدم معرفتهم بطبيعة الإسلام كدين جديد،قد يكون الأمر مختلفًا نوعا ما بين الكتاب الأسبان بسبب الاحتكاك المباشر بالعرب المسلمين. ومع قرابة القرن الثاني عشر الميلادي نجد كتابات أكثر دقة عن الإسلام، كان هدفها الفهم لوقف تحول المسيحيين في الأراضي المهزومة عسكريا إلى الإسلام، وتبشير المسلمين بالإسلام، وبدأت تنهال القصص الخرافية عن الإسلام بين الناس وعن محمد وعن دموية الإسلام. وقد حملت الكتب في العصور الوسطى احترامًا هائلًا للعرب وعلومهم أمثال ابن سينا وابن رشد، وفي مرحلة لاحقة سيطر الإعجاب نوعا ما بقوة العثمانيين في أوروبا، مع القرن السادس عشر بدأت تظهر دراسات جامعية متخصصة في الإسلام واللغة العربية. ومع تجربة الإصلاح الديني اختلفت النظرة للعثمانين حيث اعتبرت نموذجا لا يقوم في حكمه على مبادئ الحرية وسيادة القانون، مما بدأ يؤسس بالعقل الأوروبي لفكرة الاستبداد الشرقي التي كانت قد بدأت من عند أرسطو عن أن أهل الشرق عبيد لا يدافعون عن حرياتهم، ومن ثم قامت أوروبا بالسيطرة على طرق التجارة العالمية، وقوت الحركة التنويرية التى اعتبرت من الإسلام مناقضا قيميًّا لها يدعو إلى الكسل والخرافة والعنف.
مدارس الاستشراق
حسب د. محمد فاروق النبهان، والعديد من الباحثين، يمكننا تقسيم مدارس الاستشراق إلى ثلاث مدارس كبرى، تنتمي لكل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا.
المدرسة الفرنسية:
كانت لفرنسا علاقات وثيقة بالخلافة العباسية، من أيام هارون الرشيد وشارلمان، وشاركت بالحروب الصليبية، وغزا نابليون مصر، واحتلت فرنسا أجزاء من البلاد المسلمة مع حركة الاستعمار الغربي، مما جعل لفرنسا السبق والتقدم في الدراسات العربية والإسلامية، وأنشأت مراكز دراسية، كما أوفدت طلابها للدراسة بالأندلس، ومن أشهر رواد الاستشراق الفرنسي العالم ماسينيون، صاحب بحث آلام الحلاج في التراث الإسلامي، وقد كتب عنه د. عبد الرحمن بدوي في موسوعة المستشرقين: “وهو من بين المستشرقين في مكانة لا يضارعه فيها إلا نولدكه ونيلينو وجولدتسيهر“.
المدرسة الإنجليزية:
وكانت المدرسة الإنجليزية وثيقة الصلة بمنطقة الخليج وفلسطين ومصر والهند، على عكس المدرسة الفرنسية التي تمركزت في شمال أفريقيا، كانت الدراسات الإنجليزية من خلال آسيا في (الهند والصين وفلسطين والعراق). وكانت مدرسة ذات أحكام رصينة غير مندفعة مثل حالة الاستشراق الفرنسي، ومن أشهر المستشرقين الإنجليز: هاملتون جيب الذي انشغل بالاتجاهات الحديثة للإسلام والحضارة الإسلامية وتوسعات العرب في آسيا الوسطى والحملات الصليبية، والنظرية الإسلامية عند ابن خلدون ونظرية الماوردي في الخلافة.
المدرسة الألمانية:
بدأ اهتمام الغرب المسيحي عامة بالشرق الإسلامي مع الحروب الصليبية، وقد كانت علاقة الألمان قوية بسبب السياسة والمصالح الاقتصادية، ولما شعرت ألمانيا بأهمية الدراسات الشرقية أنشأت في جامعاتها معاهد اللغات الشرقية. وتتميز المدرسة الألمانية بالعمق والدقة، رغم بداياتها المتأخرة نسبيا عن الاستشراق الفرنسي والانجليزي، وبحسب أحمد سعد زايد يمكن تقسيم الاستشراق من خلال الألمان إلى أربع مدارس كبرى، الأولى مدرسة الفيلولوجيا: التي على رأسها كارل بروكلمان صاحب كتاب “تاريخ الأدب العربي“، وتلميذه تيودور نولدكه صاحب كتاب “تاريخ القرآن“. وهي مدرسة تهتم بدراسات الأدب وعلوم اللغة. أما الثانية فمدرسة التاريخ، وعلى رأسها يوليوس فلهاوزن صاحب كتاب “تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى سقوط الدولة الأموية“، وهي المدرسة التي تنطلق من الدراسات التاريخية حول الإسلام والنشأة والتطور. وأما الثالثة فهي مدرسة النظرية العامة: محاولة وضع نظرية عامة عن الإسلام من خلال الفقه والتراث، ومن أشهر رواد تلك المدرسة: إيجناس جولدتسهير صاحب كتاب “مذاهب التفسير الإسلامي“. وأما الرابعة فمدرسة اللانظرية: وكانت تدرس الإسلام من خلال الفقه والتراث ووصفها د. عبد الرحمن بدوي بأنها أكثر علمية وأثرًا عن مدرسة أصحاب النظريات العامة، ومن أهم رواد تلك المدرسة جوزيف شاخت صاحب كتاب “المدخل للفقه الإسلامي“.
الاستشراق ومواقف المفكرين العرب
ويشير الباحث عمر كوش أن بداية المناقشات العربية حول الأعمال الاستشراقية بدأت مع مقال أنور عبد الملك “الاستشراق مأزومًا” الذي نشر بمجلة “ديوجين“عام 1963م. ويأتي من بعده، في العام 1978م، كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق“. وانقسمت آراء المثقفين العرب إزاء الاستشراق بين التأييد التبريري وبين الهجوم المتحامل. وحسب دراسة د. محمد سعيد النبهان قسم المفكرين العرب إلى تيار رافض للاستشراق وتيار ناقد تحليلي.
مفكرون ضد الاستشراق:
1- محمد عبده: الذي قام بالرد على المستشرق “هانوتو“. ويعتبر محمد عبده امتدادا لجمال الدين الأفغاني في محاولات الإصلاح والتجديد، ومقاومة الجمود الفكري والرد على المستشرقين من خلال فهم إسلام خال من الخرافات.
2- محمد حسين هيكل: صاحب كتاب حياة محمد والذي قام بالرد على نقد المستشرقين لحياة النبي، وكتب مقدمة الكتاب الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر في الثلاثينات.
3- مصطفى عبد الرازق: الذي ألقى عدة محاضرات في جامعة القاهرة، يحاول الرد على ادعاءات المستشرقين عن أن القرآن عائق في وجه تطور الفلسفة العربية.
4- محمود شاكر: أصدر مجموعة من الكتابات التى يهاجم فيها الاستشراق، ويرد على لويس عوض المتأثر بالمستشرقين.
مفكرو نقد وتحليل الاستشراق:
1- إدوارد سعيد: الذي يرى أن الاستشراق حالة عدوانية، تنطلق من أن الشرق وجد من أجل الغرب، وأن أطروحات التخلف والانحطاط والتفاوت بين الشرق والغرب أفكار معتمدة على أساس عرقي وقد ساوى في نقده بين المدارس الرأسمالية والاشتراكية.
2-محمد أركون: يخبرنا هشام صالح من خلال تحليل مقال أركون عن الإسلام الحديث لغرونباوم ، وفهم الإسلام لسميث، أن أركون يأخذ منحى التعامل الموضوعي مع الاستشراق، على نحو يبرز إيجابياته، وينتقد سلبياته.
3- أنور عبدالملك: قسم الاستشراق إلى وجهين: أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية، فقام بتقسيمه على أساس الرأسمالية والاشتراكية، إذ يرى أن الدول الاشتراكية تقف موقف المدافع والمنصف عكس الدول الرأسمالية الاستعمارية.
مفكرون في صف الاستشراق:
يخبرنا عبد المنعم العجب الفيا عن الاتهامات التى وجهت لكل من طه حسين وعلى عبدالرازق ولويس عوض وتوفيق الحكيم، ووصفهم بصبيان المستشرقين، ويعد عبدالمنعم العجب من ناقدي أطروحة إدوارد سعيد، كما فعل أيضا صادق جلال العظم في كتابه الاستشراق والاستشراق معكوسا.
ما وراء الاستشراق
يبقى الاستشراق ما بين التآمر ومحاولات الفهم الطبيعية يشغل مساحة كبيرة حيث تختلف الرؤية، حسب فهم الاستشراق ومضامينه وسياقات ظهوره، وربما تقف الرؤية الدينية موقفا حذرا جدا، وربما تقف الرؤية الأكاديمية في مساحة أكثر تفهما وأقل تحفظا، حيث يقسم محمد حمدي زقزوق شيخ الأزهر السابق أهداف الاستشراق إلى أربعة أهداف: دينية وعلمية وتجارية وسياسية. وتتلخص الأهداف الدينية في محاربة الإسلام، والدفاع عن المسيحية في وجه الدعوة الإسلامية، وأخيرًا الرغبة في التبشير المسيحي بين المسلمين، بينما الأهداف العلمية حسب زقزوق فهي في فهم القلة بقيمة الإسلام وأنه رسالة سماوية كجزء من حركة التنوير، والأهداف الاقتصادية قامت على فهم الدين واللغة من أجل تعميق حركة التجارة، بينما الأهداف السياسية تمثل في التوسع الغربي الاستعماري.
ينقل لنا عمر كوش في بحثه الاستشراق بين دعاته ومعارضيه رأي المستشرق رودنسون في عدة نقاط تتلخص في أنه: “لا يوجد علم استشراق ولا إيرانيات ولا صينيات، بل هناك علوم موضوعية مختصة بدراسة تلك المجتمعات، كما أنه ليس هناك شرق مأخوذ كتلة واحدة، فهناك تباينات في الحضارات والثقافات، وبالفعل قد يعاب على الباحث الاستشراقي أنه لا يستطيع التعامل مع المشكلات العلمية إلا بحصرها داخل حقل اختصاصه والتعامل معها طبقا للقواعد المألوفة، وتتزايد النزعة المحافظة في الاستشراق وقد يقلب البعض التاريخ والوقائع من أجل الخروج بنظرية خارقة، ولكن تلك الانتقادات الموجهة للاستشراق لا يجب أن تنسينا أهمية الاستشراق، فماذا يهمنا في رأي شامبليون عن المجتمع، إذا كان قد فك لنا رموز اللغة الهيروغليفية، وارتماء المستشرقين في أحضان إيديولوجيات المجتمع البرجوازي لا يعنى الارتماء إلى الأيدلوجيات المضادة والمتخصصون المحليون بالبلدان أنفسهم قد لا يكونوا أكثر تحررًا من الأيدلوجيات من المستشرقين أنفسهم“. يبقى الاستشراق مسألة مثيرة للجدل، ومن الصعب أن تحسم، حيث تتداخل خيوط علاقات الانفتاح ما بين الأنا والآخر بشكل معقد وأحيانا ضبابي، بسبب عدم كون الغرب ولا الاستشراق كتلة واحدة يمكن اختزالها.