في عام 2000 يصدر كتاب لباحث ألماني في الدراسات القرآنية، اسم الكتاب (القراءة الآرامية السريانية للقرآن)، بينما الباحث قد ظهر تحت اسم مستعار “كريستوف لوكسنبرغ“. الكتاب يقدم أطروحة حول أن القرآن كتاب سرياني، وفي حال إزالة تنقيط الحروف يمكن فهم قراءة سريانية مغايرة، وبعد سبع سنوات تصدر مقالة مترجمة على موقع الحوار المتمدن، تشرح وتفسر منهجية السيد لوكسنبرغ. سنوات من تراشق أحاديث المدونات على شبكة الإنترنت حتى ظهور أوسع في العام 2013 على قناة دينية مسيحية، في برنامج يتناول الدراسات الإسلامية الاستشراقية، في الخلفية تصريح هادئ من د. يوسف زيدان: “العربية مكسور السريانية”. بمعنى أن اللغة العربية لهجة سريانية، وبعد تناول القناة المسيحية بثلاث سنوات، تظهر في برنامج على اليوتيوب يقدمه حامد عبد الصمد مع د. محمد المسيح حلقة بعنوان “كتاب لوكسنبرغ عن القراءة الآرامية للقرآن” من قبل تلك الحلقة بشهر تقريبا ناقش الموضوع نفسه الداعية الإسلامي د. عدنان إبراهيم في خطبة بعنوان “قبل أن تكفروا”. كل هذا النمط من الجدل حول أصل اللغة العربية، بين الأصالة الخام أم التطور السرياني.
ما المثير الذي قدمه كريستوف لوكسنبرغ في كتابه القراءة السريانية الآرامية للقرآن؟
حسب د. بسام الجمل دكتور الآداب واللغة بجامعة صفاقس بتونس، قد درس كريستوف لوكسنبرغ 75 حالة قرآنية تبني فيها فرضية وجود تعابير سريانية، وأن كريستوف لوكسنبرغ يضع نظرية عن قرآن أصلي كتب بلغة مزيج ما بين العربية والآرامية، ويذكر أن كريستوف لوكسنبرغ اعتمد في تحريه الفيلولوجي على الأربع خطوات التالية:
– تعيين الألفاظ القرآنية الغامضة في معانيها، سواء لدى الباحثين الغربيين (خاصة من تولى منهم ترجمة القرآن من العربية إلى لغة أخرى) أو لدى الباحثين المسلمين.
– البحث عن معنى الكلمة، موضوع الدرس، في تفسير الطبري بما أنه يلخص مجمل التأويلات التي احتفظ بها إلى آخر القرن الثالث الهجري/التاسع للميلاد.
– إذا لم تكن مختلف التأويلات الواردة في التفسير المذكور مقنعة، فإن معنى الكلمة يطلب من “لسان العرب” لابن منظور.
– إذا لم يتم الظفر بالمعنى بعد استيفاء المراحل الثلاث السابقة، فإنه يلتفت إلى الأصل السرياني الآرامي المحتمل للكلمة استنادا إلى معيار “المجانسة اللفظية” (Homonyme) بين الكلمة في القرآن والكلمة ذاتها في السريانية الآرامية.
فرضية القراءة السريانية الآرامية للقرآن بين مؤيد ومعارض
ضد الفرضية:
يرى د.عدنان إبراهيم دعوة كريستوف لوكسنبرغ بأن مكة مستعمرة آرامية، والقرآن كتاب سرياني والاعتماد على عدم معرفة الصحابة أبوبكر وعمر لمعنى كلمة أبا في القرآن دعوة متناقضة، فكيف تكون مكة مستعمرة آرامية تتحدث لغة مختلطة ما بين الآرامية والعربية؟ ثم يتم الاستدلال على عدم معرفة أهل مكة لبعض الكلمات بأن القرآن كتب بتلك اللغة المختلطة، كما أن ذلك الكتاب اتخذ جل أهميته بعد أحداث 11 سبتمبر.
ويتساءل كيف يمكن أن يقبل عقل بأن النبي محمد مبشر مسيحي، وأن مؤامرة تمت في القرن التاسع الميلادي، لتخفي تلك الحقيقة حول دعوة محمد المسيحية وكتاب الفصول الليتورجية الذي تم تعريبه فيما بعد على أنه القرآن، ويرى د.عدنان إبراهيم أن في كل تلك الادعاءات استبعاد تام للفهم السوسيولوجي والأنثروبولوجي، وكيف تتفق كل تلك الفرق الإسلامية بصراعاتها على تلك المؤامرة الكبرى دون ذكر أو أثر واحد؟ ثم يستعين برأي المستشرق فرنسوا دي بلوا أستاذ الساميات الذي يسخر من فكرة تخفي لوكسنبرغ صاحب الأصل المسيحي اللبناني، حيث لم يحدث قتل باحث أكاديمي من قبل المسلمين بسبب بحث علمي، وينقل رأي فرانسوا دي بلوا في جهل لوكسنبرغ بالسريانية حيث يصف معرفته بها على أنها تمكنه من فتح المعجم وحسب.
ويضيف عدنان إبراهيم أن المبهم من تفسير القرآن ما هو إلا مواضع يسيرة لا تحتاج السريانية في تفسيرها، ويشير إلى أن هناك العديد من الكلمات ذات الجذور العربية في اللغة الإنجليزية، فهل يعقل أن يخرج أحد ويقول إن الكتابات الإنجليزية عربية؟ كما أن عدد الكلمات التي أتى بها لوكسنبرغ من القرآن وأدعى أنها من أصول سريانية 75 كلمة لا تدل على أي شئ، وتفسير حور العين على أنها عنب أبيض أمر يتكامل مع نظرة غربية مسيحية تعتبر ضمنيا أن الاتصال الجنسي دنس، على عكس الإسلام الذي نظر للجنس نظرة طبيعية، ويتسائل ما مشكلة وجود نساء في الجنة؟ كما أنه صوتيا نجد أن قراءة كريستوف لوكسنبرغ لآية “وزوجناهم بحور عين” على أنها “وروحناهم بحور عنب” لا تستقيم على السمع، وينفي د.عدنان إبراهيم التأثيرات السريانية في اللغة العربية بعدد من الأسئلة حول أسبقية الكتابة العربية وعلماء اللغة العربية في وضع القواعد والتنقيط والإعجام قبل نحاة السريانية.
ويذكر د.بسام الجمل أن كريستوف لوكسنبرغ قام في مرات عديدة بتغيير حروف بعض الكلمات مع المحافظة على رسم الكلمة قبل الإعجام، وهو بذلك يستعيد صورة المصاحف الأولى، ويبدل أحيانا مواقع الحروف في الكلمة موضوع البحث الفيلولوجي، بل ويغير كلمات برمتها. وقد نقل عدة نقود موجهة لكريستوف لوكسنبرغ مختصرة في عدة نقاط كالتعويل على لسان العرب لابن منظور في فك غموض الكلمات القرآنية، ورده غموض بعض الكلمات القرآنيّة إلى أخطاء في الرسم، وفي ضبط القراءة المناسبة تعليل لا يمكن قبوله، إذ من المستبعد أن يذهل العلماء المسلمون عن أخطاء محتملة من هذا القبيل طيلة ما يزيد عن أربعة عشر قرنا، ومنها أيضا طغيان النزعة التخمينية على بحثه الفيلولوجي، فضلا عن عدم استفادته من حصيلة جهود قرنين في مجال الدراسات الفيلولوجية للقرآن حيث لا يبني عمله على الدراسات السابقة في هذا المجال.
مع الفرضية:
يعد حامد عبد الصمد -مدرس التاريخ الإسلامي بجامعة ميونخ- من أشهر مؤيدي فرضية كريستوف لوكسنبرغ، ويعتبر عبد الصمد أن أهمية لوكسنبرغ في فك غموض الكلمات القرآنية بنفس أهمية عمل شامبليون في فك رموز وألغاز اللغة الهيروغليفية، وأن فرضية القراءة السريانية الآرامية قد كانت بمثابة تسونامي في مجال الدراسات القرآنية وتحدى السردية التقليدية عن تاريخ القرآن.
كما صرح د. محمد المسيح صاحب كتاب مخطوطات القرآن والذي عمل كمساعد في عمل لوكسنبرغ، أن القرآن هو من اللفظ السرياني قران أو قرينا أي كتاب الصلوات المسيحية، بينما يرى د.إبراهيم مالك خبير اللغات الشرقية، أن اللغة السريانية والعربية لغات شقيقة تنتمي لمجموعة اللغات السامية، كما أن العربية الجنوبية “القحطانية” والعربية الشمالية “المعروفة اليوم” نشأت في إطار اللغة الآرامية السريانية المنتشرة في بلاد الشرق، وهناك كتابات سريانية قبل ألف سنة من الهجرة، والقرآن أول كتاب يدون فمن الطبيعي أن يدون بالآرامية السريانية المنتشرة آنذاك، كما يرجح د.إبراهيم مالك استخدام الخط الكرشوني في كتابة أول نسخة للقرآن، أي كتابة القرآن بحروف سريانية تنطق بالعربية.
فهل القرآن كله عربي؟
الجدير بالذكر أن فرضية لوكسنبرغ قد تمشي بالقرآن بعيدا، بطريقة تثير الجدل بين مؤيد ومعارض، ولكن إثارة ذلك الجدل ولو بطريقة مختلفة إلا أنها ليست جديدة، قد يبدو الأمر البعيد ظاهريا أن هناك اتفاقا حول عربية القرآن التامة في ألفاظه بين كتب التراث الإسلامية في مواجهة اتهامات استشراقية لا تقر بعربية كل ألفاظ القرآن، فما الذي يمكن أن تخبرنا به كتب التراث الإسلامية ليس عن فرضية لوكسنبرغ ولكن عن ألفاظ القرآن ومدى تمام عروبة تلك الألفاظ، فهل القرآن كله عربي؟ وكيف نقل لنا الإجابة ثلاثة من أكابر علماء التراث المسلمين، جلال الدين السيوطي صاحب الإتقان في علوم القرآن، ومحمد بن جرير الطبري صاحب جامع البيان في تأويل القرآن، وأبو محمد علي بن حزم الأندلسي صاحب الإحكام في أصول الأحكام.
المعرب في القرآن حسب كتب التراث الإسلامي
- الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي، يقسم فيه السيوطي آراء العلماء في وقوع المعرب في القرآن إلى ثلاثة فرق:
الفرقة الأولى: حسب وصف السيوطي الأكثرية ومنها الإمام الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس، وتقول تلك الفرقة بعدم وقوع كلمات معربة في القرآن، استنادا على الآيات: “قرآنا عربيا” [يوسف: 2] و”ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي” [فصلت: 44].
الفرقة الثانية: وبحسب تعبير السيوطي أقوى ما رأيته لوقوع المعرب في القرآن -وهو اختياري- أي رأي السيوطي نفسه، ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي ميسرة التابعي الجليل قال: في القرآن من كل لسان. وروي مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه، ومن القائلين بذلك: ابن عباس وابن النقيب وأبو ميسرة وابن أبي شيبة والثعالبي والجويني. وفلسفة هذا الرأي بوقوع المعرب في القرآن حسب السيوطي أن حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا للعرب. ويضيف السيوطي رواية أخرى تدعم الرأي نفسه بوقوع المعرب في القرآن، رأيت ابن النقيب صرح بذلك، فقال: من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، ولم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير.
الفرقة الثالثة:تقول بتصديق من قال بوقوع المعرب في القرآن ومن قال بعدم وقوع المعرب في القرآن، ومن القائلين بذلك الرأي، أبو عبيد القاسم بن سلام والجواليقي وابن الجوزي. قال أبو عبيد القاسم بن سلام، بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية: والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا؛ وتعتمد تلك الفرقة على رأي أبي عبيد القاسم بن سلام “أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية، فهو صادق، ومن قال: أعجمية فصادق”.
- جامع البيان في تأويل القرآن لمحمد بن جرير الطبري.
أورد الطبري في تفسيره (1/13) عن سعيد بن جبير قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا؟ فأنزل الله تعالى ذكره: (لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) [سورة فصلت: 44] فأنزل الله بعد هذه الآية في القرآن بكل لسان فيه. (حجارة من سجيل) [سورة هود: 82، وسورة الحجر: 74] قال: فارسية أعربت سنك وكل.
(إن ناشئة الليل) [سورة المزمل: 6]: بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل قالوا: نشأ. (يا جبال أوبي معه) قال: سبحي، بلسان الحبشة (فرت من قسورة) [سورة المدثر: 51] قال: هو بالعربية الأسد، وبالفارسية شار، وبالنبطية أريا، وبالحبشية قسورة وهكذا…
- أصول الإحكام في الأحكام لأبو محمد علي بن حزم الأندلسي.
كتب ابن حزم فيه أن السريانية أصل للعربية وللعبرانية معا، وقال بوقوع المعرب في القرآن واعتمد في رأيه على النقاط التالية:
1- البيت من الشعر بالفارسية يسمى فارسيا وإن كان مشتملا على كلمات يسيرة من العربية.
2- اشتمل القرآن على الحروف المعجمة في أوائل السور، فإنها ليست من لغة العرب في شيء.
3- القرآن قد اشتمل على عبادات غير معلومة للعرب، فلا يتصور التعبير عنها في لغتهم، فلا بد لها من أسماء تدل عليها غير عربية.
4- اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية، فأثبته ابن عباس وعكرمة، ونفاه الباقون.
5- احتج المثبتون لذلك بقولهم: القرآن مشتمل على: المشكاة وهي هندية، وإستبرق وسجيل بالفارسية، وطه بالنبطية، وقسطاس بالرومية، والأبّ وهي كلمة لا تعرفها العرب.
ولذلك روي عن عمر أنه لما تلا هذه الآية قال: هذه الفاكهة فما الأبّ قالوا: ولأن النبي عليه السلام مبعوث إلى أهل كل لسان كافة على ما قال تعالى: (كافة للناس بشيرا ونذيرا)، وقال عليه السلام: (بعثت إلى الأسود والأحمر).
6- فلا ينكر أن يكون كتابه جامعا للغة الكل؛ ليتحقق خطابه للكل إعجازا وبيانا. وأيضا فإن النبي عليه السلام لم يدع أنه كلامه بل كلام الله تعالى رب العالمين المحيط بجميع اللغات، فلا يكون تكلمه باللغات المختلفة منكرا.
خاتمة
في النهاية تبقى هناك مسافة بين المادة اللغوية حتى أصول الكلمات المعربة بالقرآن في كتاب التراث الإسلامي وحول الفرضية التي يطرحها كريستوف لوكسنبرغ، فوجود الكلمات المعربة بالقرآن لا يؤكد أو ينفي صحة فرضية لوكسنبرغ، إذ اختلاف كليهما في التناول البسيط حول فهم كلمة أو تحديد أصولها بكتابات علماء المسلمين، وطرح نظرية عامة تفترض أن الإسلام دين مسيحي النشأة والكتابة.