يعد فريدريك نيتشه من أهم فلاسفة العصر الحديث، رغم كونه لم يقدم نظرية في المعرفة، ولا في الوجود، إلا أنه يبقى لنيتشه انتباهات هامة في مجالات الأخلاق والإبداع والسيكولوجي ونقد التاريخ والدين. لقد توقع نيتشه أن يرتبط اسمه بنذير شؤم على البشرية، بكارثة كبرى. كما عبر عن استيائه من هؤلاء الخنازير بحسب وصفه الذين يعجبون جدا بما يكتب مع أنهم لا يفهموه. لقد كان نيتشه شخصا مثيرا للجدل، صاحب دعوات حادة وهرطقات تعد كريهة للكثيرين. إن إرث فريدريك نيتشه توغل بين أيدي علماء السيكولوجي ونقاد الفن وكتاب الأدب وباحثي الأنثروبولوجي والفيلولوجي وفي بعض دوائر السياسيين، فقد لا يقل نيتشه أهمية عن أفلاطون التاريخية بالنسبة للفلسفة وتاريخ الفكر بالعصر الحديث، ولكي نفهم تلك الظاهرة النتشيوية فنحن دوما بحاجة إلى الجهد الذهني، لما علق بتلك الظاهرة من شوائب حول بعض الأفكار، كعلاقة نيتشه بالدين، وعلاقته شديدة الاضطراب بالنساء وآرائه حولهن، وذلك الغموض عن ارتباط نيتشه بأفكار هتلر النازية. لقد شاع دوما بين قراء نيتشه بالعربية الحديث عن احتمالية كونه مسلما أو أقرب إلى الإسلام من المسيحية، وتأطيره داخل مضمار عداوة المرأة، وشمشون الأفكار النازية؛ فكيف كانت علاقة نيتشه بتلك الأفكار هو ما سنحاول الوقوف عليه في “مواطن”.
نيتشه والدين
لقد تركزت هوامش فيلكس فارس مترجم (هكذا تكلم زرادشت)، النسخة الأشهر في عام 1938، على فهم نيتشه من منطلقات سياقاته الغربية حول تصور الإله في المسيحية والموقف من الغريزة ومفهوم الدولة وشكلها في العالم الغربي، إلا أنه في مساحة أخري يذكر: “إن كفر نيتشه فيما يقول عن هذه المرحلة من الإيمان إنما هو كفر بالصورة المشوهة التى عرضت عليه، لا بالمسيح” ويضيف أيضا أن علماء لغة الضاد سيجدون الكثير من حكم الآيات والأحاديث في كلام فريدريك”. أعتقد أن الفهم في سياق وإطار محدد لنيتشه أمر منهجي جدا وتام في رصانته، فمثلا صحيح جدا كون كفر نيتشه حول تصور محدد للمسيح، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة اعتبار احتمالية إيمان نيتشه بتصور آخر يعتقد الكاتب أنه أكثر صحة عن السيد المسيح، كما أن فكرة المقاربات الأخلاقية بين كلمات نيتشه وأنبياء الشرق، لا تعني أن لكل منهما القيم والأفكار نفسها.
إن فهم فلسفة فريدريك نيتشه تحتاج لدقة شد فتائل القنابل الموقوتة، فحين نرصد مواقف نيتشه من الأديان المختلفة في كتابه (عدو المسيح)، نجد أن نيتشه يفرق بين إله العهد القديم، وإله العهد الجديد، يمدح عنفوان الأول دفاعا عن قبيلته الصغيرة، بينما يذم ديمقراطية وعدالة وعالمية الثاني، داخل المسيحية نفسها يفرق بين المسيح والمسيحية، ويضع دورا محددا ومخالفا لبوليس الرسول في تشكيل المسيحية، أما في الإسلام فنجد أن نيتشه معجب جدا بالإسلام الحضاري كممارسة أنثروبولوجية في أوج عطائها، إلا أنه يرفض مفهوم وأيقونة النبوة في الإسلامية، هكذا هو نيتشه الذي كتب مكررا: “إن البوذية أفضل مائة مائة مرة من المسيحية” -ولكنه عاد إلى التنويه بأن الديانتين عدميتان متساويتان فى عكس مركز صقل الحياة إلى خارجها، كما أيد تراتبية مانو وعاد ليضعه ضمن أصحاب الصوت العالي فيما يسميه بالكذب المقدس؛ إن فردريك يطرح مفاهيم مركبة تفصل ما هو ديني وما هو أنثربولوجي.
نيتشه والمرأة
عند ذكر علاقة فريدريك نيتشه بالنساء أول ما يخطر في البال جملته الأكثر شهرة عن النساء “أذاهب أنت إلى المرأة، لا تنس إذن سوطك” في (هكذا تكلم زرادشت)، أولًا لم تكن الجملة على لسان النبي النيتشيوي “زرادشت”، ثانيا الجملة كانت حكمة على لسان امرأة عجوز، ثالثا سجل نيتشه آراء أكثر إيجابية، أقرب لموقف محايد تجاه النساء فى كتابه (إنسان مفرط الإنسانية) 1878، إلا أن هذا الموقف شهد تحولا جذريا في كتابات (ما وراء الخير والشر) 1886 و(غسقالأوثان) 1888، وغيرها من مؤلفات لاحقة، ولقد فتح الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل في كتاب (تاريخ الفلسفة الغربية) النار على نيتشه بقوله “إن نيتشه عرف عشر نساء، تسعة أخذن السوط منه”.
ربما كانت اللحظة الفارقة في موقف نيتشه من النساء في سنة 1882 حين التقى بالسيدة لو سالومي في كنيسة القديس بولس، كان نيتشه يرى أن المرأة الدواء الأكثر نجاعة لعلاج المرض الذكوري بحسب تعبيراته -احتقار الذات- وما كان من ذلك العلاج إلا سم يأكل في عقل نيتشه ويفتته، ومن تركز الألم بعد حب من طرف أوحد، يتلفت انتباه نيتشه لأفكار أشد تعقيدا عن المرأة، إذ المرأة صناعة الرجل خرجت أولا من ضلعه وثانيا أضفي عليها كل شاعريته، وثالثا وبسبب الحب تتخذ النساء، بصفة نهائية، الشكل الذى تحيا به في خيال الرجال الذين يحبونهم – يمكننا أن نبدل الجزء الأخير من الجملة بـ”خيال الرجال الذين يكرهونهم”. فالحب والكراهية أشكال مختلفة من الاهتمام، وبقي نيتشه مهتما بالمرأة لكن بشكل سلبي ويائس خال من أيّة آمال.
يروي غافارني فى (يوميات غونكور): سألنا مرة نيتشه إن كان حصل مرة له أن فهم امرأة؟ رد: ” امرأة! إنما المرأة شيء لا يمكن سبر أعماقه. لا لأنه عميق، بل لأنه خاو”. يمكن فهم موقف نيتشه من المرأة من إطار تأمل حاد ناتج عن تجربة ألم وخيبة أمل كبرى، بعد أن تعلق بقلب امرأة خذلته بل وخاضت العلاقات مع أغلب مشاهير عصره كسيجموند فرويد وريلكه، وفاجنر وآخرين، كانت سالومي كالماء الذي أمسكه نيتشه بين قبضة يده، ولكن حين فتح قبضته بقي أثار البلل، ورحل الماء عنها، بقي الجفاء داخله أشد ظمأ بعد أن منّى روحه بالارتواء التام، إن محاولة نيتشه لعقاب المرأة والقسوة عليها هي محاولة التخلص من شاعريته التي يضفيها عليها، إذ وجد نيتشه في المرأة التي أحب الخواء الذي لم يتوقع أو ينتظر، لقد كان رجلا وحيدا يبحث عن علاج للوحدة فى امرأة، وبدل من أن يجد في المرأة علاجه أصبح أشد وحدة، أصبح رجلا مصابا بامرأة.
نيتشه والنازية
إن موقف نيتشه من النازية معقد جدا، فقد ارتبط اسم فردريك كأب روحي للحركة النازية بقيادة هتلر عالميا، ومع كل ذلك الارتباط على المستوى الإعلامي والشعبوي، إلا أننا نجد الكاتب والفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل ينفي علاقة نيتشه بالنازية، إذ يرى أن نيتشه لم يكن وطنيا، ولم يبدِ إعجابا بألمانيا، لم يكن مقدسا للدولة، وكان فرديا خالصا، وبحسب كاتب إنجليزي آخر وهو كولن ولسن في كتاب (أصول الدافع الجنسي) فقد اعتبر نيتشه إرادة القوة كأسمى الإرادات التي يمكن للبشر أن يمتلكوها، وأن النزوع الخارجي نحو السيطرة الاجتماعية أو السياسية، أقل مظاهر هذه الإرادة أهمية وأكثرها غباءا، والرجل الذى يحول هذه الإرادة إلى سعي خارجي للسيطرة هو مذنب بتهمة التغرير بالنفس وخيانة الذات، ويفسر ولسن أن القوة الإرادية الحقيقة هى اسم آخر لما وصفه وايتهد (الكلية المطلقة للمتعة الذاتية).
ويطرح كولن قراءة صوفية تعتبر أن عدو نيتشه ودعوات الحرب توجه في كتاباته إلى الإرادة الهزيلة داخل الإنسان، وأن وإرادة القوة النيتشيوية هى تلك اللهفة إلى الوعي الكامل؛ وأنها سعى دائم نحو التغلب على ميكانيكية التكرار في الحياة، بينما يخبرنا الكاتب والفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في كتاب (نيتشه والفلسفة) برؤية أكثر إثارة إذ يرى أن هتلر هو عبد نيتشه الذي نبذه في أفكاره، حيث سعى إلى السيطرة والتدمير، إنه العبد الذي يعتقد أنه تحرّر لكنه في الواقع لم يقترب من الحرية؛ بينما أكد سلفادور دالي في مذكراته (يوميات عبقري) بسياق مقارب على كون هتلر الشخصية العدمية المازوخية التي تبحث عن نهاية مشرفة لوجودها الحياتي.
نيتشه ومعاداة السامية
وقد كتب نيتشه في رسالة وجهها إلى تيودور فريتش صاحب مراسلات معادية للسامية: “أي شعور مقلق يكون لدي عندما يأتي ذكر زرادشت على ألسنة مُعادِي السامية” وبحسب علي مصباح مترجم كتاب (غسق الأوثان – فريدريك نيتشه) فإن مفهوم الآرية في كتابات نيتشه (في هذا هو الإنسان) وعلى لسان زرادشت مختلف عن مفهوم الآرية المستخدم بين مُعادِي السامية، بينما يؤكد برتراند راسل بأنه على الرغم من اعتقاد نيتشه أن ألمانيا كانت تضم أكثر مما تستوعب من اليهود، واعتقاده بضرورة عدم السماح بتدفق المزيد من اليهود لألمانيا، إلا أن نيتشه لم يكن معاديا للسامية، وكان يكره العهد الجديد، بينما عبر عن إعجابه بالعهد القديم.
خاتمة
بعد قراءة عن قرب من أفكار نيتشه نستخلص منها كونها أفكارا متطورة عبر الزمان، عصية الفهم أحيانا لما تحمل من مفاهيم ومواقف مركبة، فإن أخطر ما يمكن قراءة نيتشه به هو القراءة الإيديولوجية، التي تسعى لوضع داخل أطر محددة، لقد لجأ النازي إلى تفسير كتابات نيتشه بما يعرف أسباب الكتابة، ليضع قراءة سياسية تخدم أفكار النازية، إن أفكار نيتشه كالأفكار الدينية، كلما وضعت في إطار السياسة سوف تنتج لها الكوارث، كما أن نبش نيتشه فيما يعرف بروح الدين أهم كثيرا من محاولة طلاء الرجل بأي دين، حتى موقفه من المرأة لا يجب اختزاله في كونه عدوًّا لها بل يجب أن يفهم كتفسير سيكولوجي على أثر تجربة كانت دوما قريبة من نساء عدة. إن أهم ما يجب قراءة نيتشه به العقل الحر، العقل القادر على التعاطي مع أفكار نيتشه من دون قولبة سابقة تمنح تفسيرا من بعيد، إن الأمر يحتاج القرب الشديد ومحاولة اختبار الفهم، من أفكار كتبت بدم رجل عاش ما بين 1844 و1900 محاولا دغدغة كل دروب وسبل السابقين في تاريخ الفكر والغوص داخل سيكولوجية الإنسان وتتبع مسارات مدونة تاريخ القيم والأخلاق.