في عام 1979 صدر كتاب “الجين الأناني” للعالم البيولوجي ريتشارد دوكينز، طارحا فكرتين جديدتين إحداهما بيولوجية والأخرى ثقافية مع مقاربة شديدة الجدية والفرادة بينهما. الفكرة الأولى هي وضع الجين gene مركزا للاهتمام المحوري في عملية التطور وكيفية تأثير خاصية الأنانية الجينية في تفسير التطور في علم الأحياء. أما الفكرة الأخرى، الثقافية، الفريدة في حينها فهي صياغته لمفهوم الميم الثقافي.
الميم الثقافي
افترض داوكينز أن التطور الثقافي البشري يسير بآلية التطور البيولوجي نفسها. فكما يمتلك الفرد مجموعة من الجينات يمتلك كل مجتمع مجموعته من الميمات الثقافية (كأصغر مكون ثقافي). والميمات الثقافية من الممكن أن تكون فكرة، أسطورة، مشهد سينمائي، مثل شعبي وغير ذلك. وتتنافس الميمات الثقافية المتعارضة فيما بينها، كما تتنافس الجينات. مثال ذلك: فكرة الخلق المباشر ونظرية التطور، ذلك التنافس على حيازة الاهتمام البشري وضمان خلودها في الذاكرة الجمعية وانتقالها للأجيال الأخرى. وكما هي الحال مع الجين، يعتمد نجاح بقاء الميم الثقافي على بيئته.
العذرية كـ”ميم” ثقافي
لا يتفق الأنثروبولوجيون المعاصرون، حسب الموسوعة البريطانية، مع ما قالت به نظريات التطور الثقافي الاجتماعي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من أن المجتمعات البشرية مرت بمرحلتين متتاليتين هما مرحلة النظام الأمومي Matriarchy حيث للمرأة الدور الرئيس في إدارة النظام الاجتماعي تلتها مرحلة النظام الأبوي Patriarchy حيث سيادة وسلطة الذكر في المجتمع. رغم ذلك، لا تخلو فكرة فريدريك إنجلز من وجاهة عن نشأة المفهوم الثقافي للعذرية في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” وإن انطلق من تتالي المرحلتين الأمومية فالأبوية البطريركية، حيث أشار إلى أن مفهوم العذرية بدأ في الظهور وباتت له أهمية في ظل نظام اجتماعي بطريركي بعد أن عرفت الملكية الخاصة كمرحلة لاحقة لشيوعية الموارد. أراد الرجال أن يرثهم أبناء بيولوجيون من هنا ظهرت الحاجة للسيطرة على أرحام النساء وعلاقاتهم الجنسية لضمان الأبوة البيولوجية.
استمرت العذرية كميم ثقافي من وقتها وحتى الآن تقريبا في بعض المجتمعات الشرقية لتوافقها مع البيئة الثقافية. بناءً على هذا الميم الثقافي ظهرت أهمية غشاء البكارة كدليل مادي على العذرية كمفهوم ثقافي اجتماعي.
غشاء البكارة
قبل مناقشة غشاء البكارة كميم ثقافي مرتبط بالعذرية علينا أن نعرف بعض المعلومات البسيطة حوله:
– تعريف: غشاء البكارة هو طبقة من الجلد الرقيق الذي يحيط بفتحة المهبل أو يغطيها جزئيا، ويوجد غشاء البكارة على عمق 2 سم داخل قناة المهبل، يختلف شكل غشاء البكارة من فتاة إلى أخرى فقد يكون رقيقًا مطاطيا عند البعض وقد يكون سميكًا وأقل مطاطية عند الأخريات وقد لا تولد به الفتاة على الإطلاق وتقدر تلك النسبة بعشرين في المائة.
– الوظيفة: لا توجد لغشاء البكارة وظيفة فسيولوجية محددة غير أن بعض النظريات تميل إلى أنه يحمي المهبل من التلوث لاسيما في المرحلة المبكرة من الحياة.
– أنماط غشاء البكارة: ليس لغشاء البكارة شكل أو صورة واحدة فهناك على سبيل المثال:
- البكارة الرتقاء (Imperforate Hymen) يغطي غشاء البكارة فتحة المهبل بالكامل، ويلاحظ ذلك عند البلوغ؛ فلا يخرج دم الحيض وينحبس في المهبل وقد يعود إلى الرحم ممّا يسبب ألمًا في البطن، يتم علاجه جراحيًا بعمل ثقب صغير يسمح للدم بالخروج أثناء الدورة الشهرية.
- غشاء ذو فتحة صغيرة (Microperforate hymen) يغطي الغشاء فتحة المهبل بالكامل، لكن يسمح بتدفق دم الحيض أثناء الدورة الشهرية، ويمكن معالجته أيضًا بالتدخل الجراحي.
- غشاء بكارة ثنائي الفتحة (Septate hymen) هو غشاء ذو فتحتين في المهبل، ويسمح بتدفق دم الحيض من خلالهما.
- غشاء بكارة حلقي (annular hymen) ذو فتحة بيضوية الشكل مختلفة الاتساع تتموضع قرب المركز. ويأتي على ثلاثة أشكال.
- غشاء غربالي فيه عدة ثقوب تسمح بنزول دم الحيض من خلالها.
- غشاء عمودي تكون فوهته على شكل عمود مستطيل.
- غشاء هلالي بكارة فوهته في الأمام على شكل الهلال.
- غشاء بكارة ذو حافة غير منتظمة.
- غشاء بكارة ذو حافة مهدبة.
- غشاء بكارة مطاطي.
رغم كل تلك التباينات الفسيولوجية بين النساء نجد أن فكرة “الختم” كمكان مغلق و”الافتضاض” فقدان العذرية/غشاء البكارة نتيجة علاقة جنسية هي الميمات الثقافية المسيطرة في المجتمعات العربية حتى الآن. رغم حقيقة علمية جلية تقول إن الافتضاض التام لغشاء البكارة لا يحدث بصورة تامة إلا مع أول مولود من ولادة طبيعية وأن فض العذرية الذي يصاحبه قطرات دم غير ضروري الحدوث أو أن حدوثه نتيجة أسباب أخرى لا علاقة لها بغشاء البكارة كالعنف خلال العملية الجنسية أو نقص إفرازات السوائل المهبلية مما يؤدي لزيادة الاحتكاك ببطانة القناة المهبلية أو نتيجة مرض أو التهاب تناسلي.
الميم الثقافي والبيئة الاجتماعية
كما ذكرنا سابقا فإن استمرار الميم الثقافي أو اندثاره يعتمد على بيئته الاجتماعية الحاضنة للميم. فما الذي يدفع ميمات كالعذرية وغشاء البكارة في الاستمرار في مجتمعاتنا الشرقية الاسلامية؟ للإجابة على تساؤل كذلك علينا الرجوع للعامل الأهم في تشكيل ثقافة المجتمعات العربية الشرقية وهو الدين الإسلامي وتفكيك الرؤية الاسلامية لغريزة المرأة الجنسية، مفهوم الملكية، دون إغفال دور القبلية العربية وقت ظهور الإسلام.
بالرجوع للكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها “ما وراء الحجاب.. الجنس كهندسة اجتماعية” نجد أن الإسلام لم يغفل فعالية المرأة الجنسية كالمسيحية ولم يحرم المتعة الجنسية بل اهتم، وهي هنا تنقل عن الإمام الغزالي، بإدماج الغريزة الجنسية في النظام الإسلامي لتسخيرها في خدمة الله. وتنقل عن الغزالي قوله “إن الشهوة إذا ما غلبت ولم تقاومها قوة التقوى، جرّت إلى اقتحام الفواحش” أما إذا ما سخرت لخدمة الله والفرد في الدنيا والآخرة فإنها تسمو بالوجود على الأرض وفي السماء”.
وتضيف المرنيسي “الفرد لا يحيا إلا داخل نظام اجتماعي، وكل نظام اجتماعي يفترض مجموعة من القوانين التي تحدد ما إذا كان استخدام الغرائز قد أخذ وجهته الحسنة أم القبيحة، وبالتالي فإن طريقة استعمال الغرائز هي التي تفيد النظام الاجتماعي أو تضر به وليس الغرائز في حد ذاتها. ويترتب على ذلك أن الفرد في النظام الإسلامي غير مجبر على التخلص من غرائزه أو التحكم فيها مبدئيا، بل إن المطلوب منه هو ممارستها تبعا لما تفرضه الشريعة فحسب” وتوضح أن وظيفة الغريزة الجنسية في المجتمع الإسلامي محددة في هدفين. استمرار الجنس البشري وتذكير دائم بنعيم الجنة. عن طريق اللذة الوقتية المستولدة من الشهوة الجنسية.
بالانتقال للنقطة الثانية وهي مفهوم الملكية في التصور الإسلامي. نجد أن الإسلام قد أقر الملكية الفردية ووضع نظاما دقيقا للمواريث بناءً على ارتباطات القرابة البيولوجية بعدما حرّم التبني.
أما النقطة الثالثة، القبلية وقت ظهور الإسلام، نجد أن الإسلام قد نادى بالتقوى والتساوي بين بني البشر ولا أفضلية أمام الله إلا حسب التقوى. أما النظام الاجتماعي فاعتمد على التصورات القبلية في الزواج والمواريث واضعا قواعد واضحة لمنع اختلاط الأنساب.
كل تلك العوامل رسخت من مفهوم العذرية وغشاء البكارة كآليات كابحة للفعالية والعلاقات الجنسية حفاظا على نقاء النسل، وحماية للمجتمع من التفكك والتحلل طبقا لرؤية الغزالي.
خاتمة
يوضح ريتشارد دوكينز أن الثقافة بحكم كونها أمرًا بشريًّا ليست حتمية بالضرورة كحتمية آلية عمل الجين البيولوجي وأن بالإمكان بجهد عقلي ثقافي اجتماعي واعٍ التخلي عن خاصية الأنانية الجينية مع الميم الثقافي والتحلي بخصائص إيثارية تُعلي من قدر الميم الضد على الميم ذو الحظ الأوفر مع البيئة الاجتماعية لخلق واقع اجتماعي ثقافي جديد.
في ظل المعرفة الطبية الحالية عن تباينات مفهوم كغشاء البكارة ووجود معرفة علمية حديثة تمنع الخلط بين الأنساب كتحليل الحمض النووي. ومع مشاكل اجتماعية تعاني منها النساء ظلما باتهامات باطلة فقط بسبب تصورات مغلوطة وافتراضات غير حتمية تربط الشرف بالعذرية بغشاء البكارة. يمكننا نحن الأفراد، المكون الأولى، للمجتمعات، إيثار ميم ثقافي آخر، يعلي من قيمة الكلمة والصدق والصراحة كشرف. ويتمسك ويلتزم بـالمعيار الأوحد لاختبار عذرية المرأة من حيث تعريفها: إقامة علاقة جنسية مع طرف آخر.
هذا المعيار هو أن نسأل المرأة، إن أردنا التأكد من عذريتها، نسألها هل أنت عذراء؟ ونقبل إجابتها كإنسان حرّ. فالشرف الحقيقي هو كلمة تخرج من فم إنسان حرّ.