طوال عشر سنوات، هي عمر الانتفاضات العربية منذ الثورة التونسية ديسمبر 2010 وحتى الآن، مرورا بكل ما عاشته المنطقة العربية من ثورات وانتفاضات وحروب أهلية، احتلت قضية العلمانية موقع الصدارة في نقاشات السياسيين والمفكرين والمثقفين والثوار في المنطقة. لم تكن قضية جديدة في انشغالات المفكرين العرب، فمنذ السنوات الأولى من القرن التاسع عشر وظهور الرعيل الأول من المنادين بالنهضة أو الحداثة العربية، احتلت قضية العلمانية جوهر النضال. ولم تكن الأقليات العربية بمنأى عن تلك القضية، ويشهد تاريخ النضال من أجل حداثة عربية إسهامات جليلة من تلك الأقليات. كانت الأقليات العربية دوما في قلب المجتمعات العربية تتمتع بما تحققه من مكاسب وانتصارات وتعاني ربما بشكل مضاعف من خسائرها وانتكاساتها.
للوقوف على واقع حال الأقليات العربية ودورها في نضالات الحداثة العربية والعلمانية وما تعانيه ومآلات مستقبل المنطقة ومستقبل تلك الأقليات التقت “مواطن” بالناشط في الشأن الثقافي المصري والمهتم بالقضايا القبطية الأستاذ إرنست وليم. وكان معه هذا الحوار.
- العلمانية في أبسط تعريفاتها هي فصل الدين، مؤسساته ورجاله، عن إدارة شؤون البلاد والمجتمع وآلياته لتنظيم نفسه.
- الأقليات العربية كانت في القلب من مشروع الحداثة العربية.
- مصطلح حضارة شرقية مصطلح أكثر دقة من مصطلح الحضارة العربية الإسلامية.
- هناك وهم شائع بوجود علمانيات مختلفة.
- كلما خرج تيار علماني لديه رؤية ومشروع للمنطقة في مناهضة الاستعمار وإنشاء دولة علمانية على أسس قومية عربية خرج تيار إسلامي تقليدي ينادي بدولة دينية وإعادة إحياء الخلافة.
حاوره: محمد هلال
١- ما تعريفك للعلمانية؟
يمكن أن نقول إن العلمانية في أبسط تعريفاتها هي فصل الدين، مؤسساته ورجاله، عن إدارة شؤون البلاد والمجتمع وآلياته لتنظيم نفسه، أي السياسة. والفصل بينهما لا يعني عداء أحدهما للآخر، وإن كان هذا هو التشويه الذي تتعرض له العلمانية، وبالطبع كل صاحب دين أيا كان يظن أنها مؤامرة على دينه وثقافته وهويته. ويجب التأكيد على أن العلمانية لا يمكن أن تكون إيديولوجيا بديلة عن الدين.
يكفي أن نقول إن العلمانية تقول لرجال الدين، يا رجال الدين أنتم أحرار كبشر أن تتبنوا أي فكر وأن يكون لكم مؤسساتكم وتنظيماتكم الداخلية ولكن أي أمر بعيد عن الدين بمفهومه الروحاني والطقسى لابد أن يتم فصله عن شؤون السياسة والشأن العام وشؤون المجتمع. فلا يمكن أن تأتي بعقيدة ما أو طقس ما لتفرضه على المشترك العام المليء بأصحاب ديانات وعقائد أخرى أو حتى ملحدين.
٢- ألا تعتقد أن السياق الثقافي الاجتماعي الحاضن لنشأة العلمانية في الغرب يختلف عن السياق الثقافي العربي الإسلامي؟
بالتأكيد، الحال في العصور الوسطى في المنطقة العربية الإسلامية كان أفضل حالا من نظيره الأوروبي. فلم تكن السلطة الدينية يوما ما منذ تأسيس الدولة الإسلامية بدءا من العصر الأموي تفوق السلطة السياسية، بل كانت على الدوام تحت سيادة السلطة السياسية وتابعة لها. حتى وضع الأقليات الدينية كان أفضل حالا من نظيرة الأوروبي فمفاهيم كأهل الذمة، يهود ومسيحيون وامتد حتى ليشمل الزرادشتيين أو كما أطلق عليهم المجوس، كانت توفر لهم حماية النفس والمال وحماية لممارستهم وشعائرهم، حتى بعض المفاهيم المستخدمة حاليا علي سبيل الذم لم تكن شيئا جديدا ولا مستنكرا في تلك العصور كالجزية والسبي والحق لمن ملك الأرض بالسيف، كل تلك المفاهيم والتنظيمات السياسية الاجتماعية عرفها الرومان والفرس قبل العرب وطبقوها.. لذلك أعتقد أن مصطلح حضارة شرقية مصطلح أكثر دقة من مصطلح الحضارة العربية الإسلامية فالحكم العربي كان جزءا من حكم حضارات تبادلت السلطة في المنطقة ولم تغير من آليات الحكم تغييرا جذريا. لكن ذلك تاريخ قديم ولا يعني عدم احتياجنا في الواقع الحالي للعلمانية، فقد جرت في نهر التاريخ مياها كثيرة.
٣- لماذا في رأيك تعتقد أن المنطقة العربية تحتاج للعلمانية؟
بعد ثلاثمئة عام من الحكم التركي، أكثر فترة مظلمة في تاريخ الشرق الأوسط. تقدمت أوروبا تقدما هائلا، وجدنا أنفسنا نحن أبناء المنطقة الناطقة بالعربية متأخرين كثيرا. وكان لابد من اللحاق بركب الحداثة، فكما حاول بعض الحكام التقدميين كمحمد علي وخير الدين التونسي إنشاء دول حديثة حاول المفكرون المسيحيون وباقي الأقليات الأخرى في بلاد الشام إنشاء فكرة قومية اقتداءا بالدول القومية الأوروبية، من هنا ظهرت فكرة القومية العربية كفكرة تحررية ضد الأتراك وضد المستعمر الغربي، في الوقت نفسه نتيجة وجود فراغ لعدم قدرتنا على مواكبة الغرب وبسبب الاستعمار كوجه قبيح من أوجه الحداثة الغربية ظهرت الفكرة الضد، فكما خرج تيار علماني لديه رؤية ومشروع للمنطقة في مناهضة الاستعمار وإنشاء دولة علمانية على أسس قومية عربية خرج تيار إسلامي تقليدي ينادي بدولة دينية وإعادة إحياء الخلافة بعد سقوط الخلافة العثمانية وتأسيس حكم مبني على القواعد الدينية. هنا تبدأ الأزمة والحاجة للعلمانية فكما يقول جورج طرابيشي، طالما يلعب رجل الدين أي دور مع الحاكم أو ضد الحاكم فنحن نحتاج للعلمانية. من المهم الإشارة أيضا إلى أن العلمانية هي مفهوم وتطبيق، تتشابه المفاهيم في كل التجارب بينما يختلف التطبيق من مجتمع لآخر، من هنا نبدأ، فليس علينا أن نعيد إنتاج أي تجربة أخرى بل علينا أن نتفق على المبادئ ونصنع تطبيقنا الخاص للعلمانية.
٤- بالحديث عن التطبيقات العلمانية، ما الفروقات بين العلمانية الفرنسية والأمريكية من حيث النشأة والواقع الحالي؟
عكس ما هو شائع، الفروقات طفيفة جدا إلي حد أنها لا تستحق الذكر إلا في عمل أكاديمي. أما في الحديث عن العموم فهناك وهم شائع بعلمانيات مختلفة. فبالرجوع لأول تعريف وضع للعلمانية 1851 للفيلسوف الإنجليزي جورج هوليوك، وهو آخر شخص في أوروبا حكم عليه في قضية هرطقة بستة أشهر سجنا، قال:
بأن العلمانية لا تعادي المسيحية إنما منفصلة عنها. فهو لم ينادِ باستبدال المسيحية بدين جديد أو أيديولوجيا. وإنما المسيحية لها حقلها والعلمانية لها حقلها وهو تنظيم المجتمع لأمور نفسه. فالعلمانية ليست إيديولوجيا بل هي مجموعة من القوانين أو المبادئ والتي من الممكن أن تتغير على اختلاف المجتمعات بشرط أن تصل بنا إلى نتيجة وهي أن رجل الدين والمؤسسة الدينية والضمير الديني الشخصي لا يخرج مما هو خاص إلى ما هو عام. في تلك الحالة قد تتعدد الممارسات والآليات من مجتمع لآخر لكن الفكرة نفسها واحدة. بالتأكيد في فرنسا كان نقد الكنيسة والنضال ضد سطوتها كان أعلى مما حدث في أمريكا، لكن هذا فصل صغير جدا من رؤية أعم وأشمل وهي المبادئ العلمانية. الآباء المؤسسون لأمريكا تأثروا بالأفكار الأوروبية عن العلمانية والحداثة. جيفرسون كان قنصلا في باريس، وكان على علاقات صداقة بكثير من المفكرين الفرنسيين في وقته.
أما عن الوقت الراهن يكفيك النظر إلى احترامهم لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ودرجة الرقي الأخلاقي واحترام التعددية الثقافية والدينية في أوروبا والغرب عموما لتدرك مآل ما وصلت إليه الممارسات العلمانية هناك.
٥- في رأيك ما موقف الأقليات في المنطقة العربية من العلمانية وما دورهم؟
تاريخيا، كما قلنا، ظهرت الأفكار الحداثية من قومية وعلمانية على أيدي مفكرين من الأقليات، أغلبهم من مسيحيي أهل الشام، نالوا قدرا من التعليم في مدارس الإرساليات الأوروبية والأمريكية في الشام إضافة لتعرضهم للاضطهاد من الدولة العثمانية، بالتأكيد ضم أنصار الحداثة والتقدم علمانيين مسلمين.
القصد أن الأقليات العربية كانت في القلب من مشروع الحداثة العربية؛ فنجد مثلا فرح أنطون من أشد المدافعين عن العلمانية، يمكننا الرجوع إلى مناظرته مع الإمام محمد عبده مثلا لنجده مدافعا شرسا عن العلمانية كضرورة عربية.
وفي النضال من أجل الاستقلال عن الاحتلال الأوروبي لعب الأقباط على سبيل المثال دورا هاما في مصر في ثورة 19 وما تلاها من نضال من أجل الاستقلال. كانت الفترة الليبرالية تتيح مجالا كبيرا لدمج الأقلية المسيحية لتلعب دورها الوطني في النضال الوطني والسياسة الوطنية.
أما عن الوضع الراهن، فيمكننا أن نقول إن الواقع لم يعد كالماضي، فمع وصول الانقلابات العسكرية بأيدي مجموعة من العسكر قليلي التعليم، قليلي الثقافة، قليلي الخبرة السياسية، آتون من مؤسسة بعيدة كل البعد عن المجتمع المدني تقوم على السمع والطاعة، تم إهدار رصيد ضخم من مسار العلمانية والليبرالية، لكن تظل الأزمة أن تلك الأنظمة تحالفت مع رجال الدين الرسميين، فتم إكساب نظام الحكم صبغة دينية وبالتالي لا يمكن مقاومته إلا بصبغة دينية مضادة، كتنظيمات الجهاد الإسلامي وغيرها من جماعات العنف الديني المسلح، من هنا وجدت الأقليات نفسها في مأزق، لا يمكنها الانفتاح على المجتمع، وبالطبع مضطرة للتحالف مع السلطة التي توفر لها الحماية لأن الخيار صار بين حكم عسكري وحكم إسلامي راديكالي، بالتأكيد خيار المواطنة الكاملة لم يعد موجودا، وتلك هي الأزمة والمشكلة الحالية.
٦- هل ترى الأقليات حاليا أن المجتمع غير آمن لذلك تحتاج حماية خارجية أو داخلية كسلطة عسكرية؟
لو أن اللغة هي لغة القوة، فالأقليات حينها تحتاج إلي شخص أو نظام قوي تعيش في حماه (مفهوم أهل الذمة مثلا) حتى لو اعتبرهم، هذا الحامي، مواطنين من الدرجة الثانية إلا أنه يحميهم من خطر الفناء. وهنا نجد أن الأقلية إن أعطيت الفرصة، كحالة محمد علي في مصر مثلا، تحاول التفوق بالاجتهاد والأمانة لتحقيق وضع نسبي أفضل حالا في ظل السلطة.
المأزق هو تخيير الأقلية بين سلطة مستبدة أو بديل آخر يعرضهم للفناء كالإسلام السياسي مثلا.
٧- كيف ترى دور الأقليات مستقبلا في الصراع من أجل الحرية والحداثة والعلمانية؟
يجب الخروج من تلك الثنائية البغيضة بين الاختيار بين نظام استبدادي أو الإسلام السياسي. الأقليات جزء من المجتمعات العربية ينالها ما ينال المجتمع من تقدم أو تخلف. المنطقة العربية تسعى حاليا بدءا من ثورات الربيع العربي في تونس ومصر مرورا بالسودان والعراق والجزائر ولبنان، تسعى للحرية والعدالة الاجتماعية، تسعى لدولة القانون والمواطنة، وعلى كل فرد ينتمي لأقلية عرقية أو دينية أن يتحلى بالشجاعة وينكر تلك الطائفية البغيضة والمصالح الضيقة ويدافع عن حقه في مجتمع حر ديمقراطي.