حين أكتب عن أحمد الغندور “الدحيح”. فأنا انطلق نحو عدة مسارات كالنجاح في منصة يوتيوب، وصناعة ما يعرف بالـ personal branding. بخلاف جدلية العلم والدين، والمقارنة بتجربة قديمة وأولى رفضت من قبل طه حسين، انتقالا لمحتوى متلفز “علمي إيماني” مع د.مصطفي محمود مرورا إلى حقبة الاعجاز العلمي مع د.زغلول النجار، وصولا لنماذج دينية تهاجم تجربة الدحيح كالدكتور قنيبي، مما يجعل أحمد الغندور تجربة نجاح ثرية تشغل عدة فضاءات جدلية وفضاء آخر حول تنمية الذات وإلهام التجربة الناجحة، ويبقى سؤالنا الأهم: حول كيف أصبح أحمد الغندور دحيحا؟
كيف بدأ أحمد الغندور على منصة يوتيوب؟
لقد كانت بداية أحمد الغندور تنطلق من الشغف حول المعرفة، نهم موجه لقراءة المقالات العلمية، اطلاع على قنوات غربية عبر منصة يوتيوب تعرض ما يسمى بالـpop science. مما حفز داخله خوض تجربة بث الحلقات عبر منصة يوتيوب، بعد توافر المتطلبات اللازمة لإنشاء قناة على المنصة، فلسفة اليوتيوب عامة تدور حول تقديم المعلومة أولا، وطريقة العرض والمعالجة ثانيا، والاستمرارية ثالثا، ممكن يجعل النجاح حتما رابعا، وقد بدأ الغندور في تسجيل أولى حلقاته، ورغم تميز ما يقدمه برنامج الدحيح بالنسبة للمحتوى العربي، لم يحقق أول فيديو عدد مشاهدات يزيد عن 150 مشاهدة وربما كان ثاني فيديوهاته نصف عدد المشاهدات تقريبا، وعدد المشتركين في ثلثيه من الأصدقاء والمعارف فقط، وهذا ما يقودنا إلى سؤالنا الرئيسي.
كيف أصبح أحمد الغندور دحيحا؟
لا يمكن النظر لتجربة أي يوتيوبر مصري بعيدا عن تجربة باسم يوسف، حيث يعد صاحب السبق الملهم حقا في اختراق المجال العام من خلال منصة يوتيوب، وقد صرح الغندور نفسه أثناء التحضير لبدء عمله على منصة اليوتيوب، إنه قام بمتابعة عدة يوتيوبرز مصريين للاستفادة من تجاربهم، وكان من ضمن هؤلاء باسم يوسف، ولعل ما يجمع بين كل من أحمد الغندور وباسم يوسف، الخلفية العلمية فالأول خريج كلية العلوم والثاني طبيب جراح، كما يجيد كلاهما اللغة الإنجليزية التي كانت بوابة الاطلاع على برامج وأعمال تتشابه فيما بعد مع ما سيقدمون إلى محتوى اللغة العربية على يوتيوب، بالإضافة إلى القدرة على التعلم الذاتي البسيط لاستخدام أدوات التصوير والإضاءة والمونتاج وتحرير الصوت، بخلاف الحس الكوميدي لدى كل من باسم يوسف والغندور، ربما انفجر باسم يوسف منذ البداية محققا ملايين المشاهدات من خلال فيديو ساخر مصور من المنزل، على عكس تجربة الدحيح التي احتاجت فترة من العمل دون نتائج حتى تنفجر، وربما ذلك كان نتيجة الوضع والسياق الذي بدأ فيه كل منها، حيث إن باسم يوسف محسوب على نتائج التغيير الذي لحق بمصر على أثر تبعات يناير 2011، وعطش الساحة والمجال العام للأصوات الحرة والتجارب الإعلامية المختلفة، بينما لم يكن هناك داع أو حاجة تنقل الدحيح من العدم إلى الوجود بنفس سرعة باسم يوسف، إلا أن كون الناس لا تشاهد النجاح إلى حين أن يصبح نجاحا بالأخص عبر مجالات عمل جديدة يجعلها تتشكك في طبيعة الأشخاص، حيث ذهب البعض إلى اعتبار باسم يوسف شخصية ماسونية تم تسهيل نجاحها كجزء من مؤامرة عالمية، بينما ينظر البعض إلى أن أحمد الغندور أيضا جزء من مؤامرة إلا أن تلك المؤامرة مخصصة تحديدا على الدين.
هل يمثل أحمد الغندور وبرنامج الدحيح خطرا على الدين؟
ربما الإجابة على مثل هذا السؤال تحتاج منا العودة إلى ماذا يقدم الدحيح؟ وكيف نفهم الدين؟ فأولا كل ما يقدم من خلال الميديا بشكلها التلفزيوني القديم أو شكلها اليوتيوبي الحديث لابد أن يهدف إلى الربح وتحقيق الانتشار، حتى البرامج والقنوات الدينية الخالصة تذهب إلى فواصل إعلانية، وتجني أرباحا من مداخلات الجمهور عبر التليفونات والرسائل، كما يقف خلف تلك المواد الإعلامية مجموعة من الممولين، والأمر الذي ينطبق على ما هو ديني خالص، ينطبق على ما يقدم من خلال قنوات المنوعات أو القنوات الرسمية قديما للتلفزيون المصري، مع الشيخ الشعراوي والدكتور مصطفى محمود والدكتور زغلول النجار، الأمر بسيط جدا فالدعوة العلمية الخالصة لوجه العلم تكون بحثية بين جدران الأكاديميا، كذلك الدعوة الدينية الخالصة تكن بين جدران المساجد والجامعات الدينية، أما في حال الخروج للمجال العام عبر وسائل الاتصال الحديث، فنحن هنا نتعامل مع محتوى يهدف إلى الربح والانتشار، حتى وإن كانت ذات طابع دعوي مؤدلج، وفهمنا لذلك الطابع يفسر جزءا كبيرا جدا من صورة الهجوم المشوشة دائما في مهاجمة أحمد الغندور وبرنامج الدحيح، أولا يقدم الدحيح محتوى علميا في شكل ساخر بأهداف الربح والانتشار وتقديم معرفة بسيطة بالعلوم المختلفة حيث أن المحتوى يغلب على طابعه السخرية والإثارة بدرجات أكبر من القيمة العلمية، فنحن هنا نتعامل مع محتوى ترفيهي في المقام الأول، وهذا هو ظاهر محتوى برنامج الدحيح ومن خلال تصريحات الغندور نفسه، بينما في المقابل يهاجم الدحيح من يوتيوبرز آخرين، يدعون تقديم القيمة على أهداف أخرى كالربح والانتشار، إلا أنه مهما كانت الادعاءات، فالممارسات النهائية تهدف لنفس الأفكار الطبيعية وحتى مهاجمة برنامج الدحيح، عامل هام في مسألة تحقيق الربح والانتشار، يمكنك ببساطة ومن خلال مهاجمة كثيفة لإحدى حلقات الدحيح، من جني مليون مشاهدة على منصة يوتيوب.
الأمر الآخر يتعلق بفهم الدين، على الأقل يجب أن ننطلق من كل مجموعة تفهم الدين بشكل ما، تعتبر كل من يفهم الدين بغير هذا الشكل خاطئ، وهنا رفض نسبي بين طوائف التدين الاجتماعي عامة، غالبية المصريين يحتفلون بمولد النبي، ويذهبون إلى أضرحة الأولياء، وتجد أن هذا مرفوض بين التيارات السلفية، كما تقوم التيارات السلفية ببعض الأفكار التي لا تلقى رواجا بين غالبية المصريين مثل ارتداء القفاطين البيضاء واستخدام السواك أو تحريم عيد الأم والاحتفال بشم النسيم، كما يذهب بعض السلفيين إلى تكفير وتحذير من كل مخالف ولهم العديد من مواقف مضادة تجاه المشايخ كمحمد عبده ومحمد متولي الشعراوي وعدنان إبراهيم وعمرو خالد وحتى د.مصطفى محمود، ومع النظر من تلك الزاوية نجد أن الاعتراض على إيمان الناس والتشكيك فيه يعد سمة سلفية، تنفي عن الدين كل ما لا يوافقها وكل ما لا تعتقد فيه.
وعندما نستعرض تاريخ الفكر الإسلامي، لا نجد مواقف ضد العلم، حتى ربما تكفير العلماء في التاريخ الإسلامي نتج من جدل فلسفي حول طبيعة الله والقرآن، لم يكن هناك لدى منظومة الفقه الإسلامي رؤية علمية قوية تدافع عنها أو تهاجم من يخترقها، مثلما كان اللاهوت المسيحي لدى الغربيين يقر بحقائق حول طبيعة الأرض كجسم مسطح وأن الشمس تدور حول الأرض، لأن الأرض مركز الكون، وما يفعله المشايخ هو محاولة استدعاء صراع مسيحي علمي في محيط الغرب، حتى أنك تجد أنهم يردون على الدحيح كما يرد رجال الدين المسيحي في أوروبا على دوكنز وهوكينج، مع أن هؤلاء مبشرون بأفكار إلحادية تنسب نفسها للعلم إلا أنها ليست علمية قطعا، بينما يقدم الدحيح محتوى ترفيهيا علميا بأفكار مثيرة لا تحمل أي دعوات مع أو ضد الدين.
برنامج الدحيح بين العلم والمادة الترفيهية
كان هناك صراع شهير حول كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، حاول طه حسين استخلاص أن الحقيقة الدينية لا تعد بمثابة الحقيقة التاريخية، ويجب الفصل معرفيا بين ما هو ديني وما هو تاريخي، قامت الدنيا ولم تقعد، وذهب الأمر للقضاء المصري، وفي تحقيق النيابة حصل طه حسين على براءة فيما هو منسب إليه لهدم ثوابت الأمة المصرية والدين، واعتبر قاضي التحقيق أن ما أثير في كتاب الشعر الجاهلي هو رأي علمي لا يمس الدين، وأن ما فعله طه حسين لا يرتقى لفعل الجريمة، بل هو مجرد تعبير عن رأي، ذهب طه حسين إلى كتابه وحذف ما يثير الجدل، ورغم عدم الإدانة القانونية، إلا أنه كانت هناك إدانة شعبية بقيادة التيارات المحافظة، قيل وقتها إن طه حسين فضل التنازل عن المواجهة، لأنه -وعلى كل حال- سيأتي على مصر جيل من الشباب يقدر قيم التفكير العلمي ويفهمها، وأن ذلك الجيل هو من سيقوم بالتغيير في وجه تلك التيارات المحافظة، يرى البعض أن هزيمة 67 العسكرية أمام الجيش المصري على يد الجيش الإسرائيلي، ضربة قوية للحداثة في شكلها الاشتراكي مع عبدالناصر، وحتى وإن لم تكن تلك التجربة أصيلة أو عميقة على مستوى العقل الجمعي وتنفيذها، إلا أن هناك اتفاقا كبيرا أن تلك الهزيمة، سمحت بصعود التيارات الإسلامية. ومع تلك المجموعات الصاعدة، اكتسب د.مصطفى محمود قيمة كبرى وقدم برنامجه المعبر تماما عن تلك الحقبة، برنامج العلم والإيمان، حيث يتم طرح العمل وظيفيا ولسبب واحد ألا وهو تأكيد الإيمان، أو كما كان يكرر د.مصطفى محمود في برنامجه دوما “سبحان الله .. سبحان الله” واستمر ذلك الاستخدام الوظيفي مع د. زغلول النجار، وربما ذلك هو الشكل العلمي المقبول تماما لدى التيارات المحافظة، لقد قام الدحيح بتناول المواد العلمية كمواد علمية بعيدا عن استخدامها الوظيفي لصالح أو لمهاجمة الدين، ربما كل ما يشغل بال الدحيح هو المعلومة المثيرة، وطريقة المعالجة المثيرة في التقديم.
الدحيح أيقونة الميديا
ربما مصير كل من يتصدر ترند وسائل التواصل الاجتماعي هو التأويل والتأطير لصالح فئة، يعتبر البعض الدحيح فأسا علمانيا يحطم أصنام الأصولية، يرى البعض الدحيح جزءا من مؤامرة عالمية إلحادية بقيادة ريتشارد دوكنز، يطالبه بعض المشايخ بتديين محتوى البرنامج، حيث يقوم بحذف ما يخالف الشريعة ويعتذر عنه، بينما الدحيح نفسه خارج عن كل تلك السياقات، كل ما يقدم هو محتوى ترفيهي بالأساس يحتوي على جذور علمية بدرجة ما، إلا أنه ليس برنامجا علميا، كما أنه ليس برنامجا لادينيا، وقد صرح الدحيح منذ سنوات: “أن كل همي أن أفتح للناس مجالات أحاديث مشتركة بخلاف الكرة والدين والسياسية، أحاديث عن العلم”. وربما ذلك الجدل الدائر حول الدحيح جزء من نجاحه وتحقيق رسالته.
وبعيدا كل ذلك تبقى الخطوة الأهم في صناعة أحمد الغندور كدحيح، هو التعاقد مع إحدى القنوات، وزيادة عدد الحلقات شهريا، وتنوع الموضوعات، بخلاف رسم الشخصية التي تحب الخيار، ولا تبدل الـ”تي-شيرت”، وتظهر دوما بشعر غير مصفوف، تطالب دوما مشاهديها بإلقاء نظرة على المصادر، ومشاهدة الحلقات الفائتة، ومتابعة الحلقات القادمة.