وفي صدد الحديث عن النسوية والقومية في دول العالم الثالث ، كثرت موجات المطالبة بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل، وقد تزامن ذلك مع تصاعد أحداث كبرى في منطقة الشرق الأوسط، وفي وجود مثل هذه الحركات تنشط بالضرورة كنوع من الرد على حالات النساء اللواتي يقدمن يوميا قرابين على مسامط الذبح الذكوري، ولكن لازال يعتقد البعض بأن هذه الحركة النسائية غريبة باعتبارها أيديولوجية أجنبية مستوردة “تقليعة جديدة” وكأن للنسوية هوية إثنية معينة، وكأن مقاومة البنية البطريركية خاصية منفردة بقطر من العالم دون سواه، و من هذا التفكير الضحل أتت فكرة نبذ النسوية، مع أن تاريخها يضرب في العالم الثالث منذ عقود حيث حظيت بدعم من الإصلاحيين رجالا و نساء على حد سواء ولكن جهلنا بتاريخ بلداننا التي اختزلها تعليمنا البدائي بأرطغرل والمجازر العثمانية وعدة قصص متفرقة من هنا وهناك عن مواقع ومعارك بين العرب والفرس جعلنا نتوهم بأنها حركة حديثة أصدرتها لنا نسويات الغرب عبر الانفتاح التكنولوجي الحاصل وتم ضمها الى نظرية المؤامرة التي تقتات عليها العقول الرافضة للتغيير.
و لكني لا أنكر بأن الاحتكاك بالغرب قد أعطى لهذه الحركات زخما لكن هذا لا ينفي أصالتها في قطري الشرق الأدنى والأقصى، والنسوية في كليهما مرتبطة بالقومية والوطنية، فلا تجد حركات إصلاح نادت بالحرية وحفظ الحقوق إلا وجاءت مطالبةً بحقوق المرأة معها وسأقتبس هنا من توفيق حكمت (كاتب وناشط تركي) ما يلي: عندما يحط من مكانة المرأة، يحط من قدر الإنسانية.
قسمت (كوماري جياوارينا) صاحبة كتاب النسوية والقومية في العالم الثالث دول الشرق إلى قسمين حسب الأيديولوجية السائدة فجمعت تركيا ومصر وإيران في حراكها النسوي لسيادة الديانة الإسلامية في هذه البلدان ثم جمعت الهند وسيريلانكا ضمن البوذية والهندوسية بتقاطعاتهما مع كل ما يتعلق بالمرأة، ثم انتقلت إلى الشرق الأقصى كالصين واليابان وكوريا باعتبار الكونفوشيوسية هي السائدة في ذلك الحين، أما فيتنام والفلبين وإندونيسيا فقد تبعت الدول الأقوى من حيث التقسيم كالهند والصين.
جياواردينا نسوية وأكاديمية ولدت في سريلانكا عام 1931 وتنقلت من لندن إلى باريس بعد إنهاء تعليمها الثانوي حتى حصلت على الدكتوراه عن أطروحتها في الحركة العمالية في (سيلان) من مدرسة لندن للاقتصاد، و قد ركزت في كتابها على تركيا ومصر وإيران وتطرقت قليلا إلى أفغانستان سريلانكا وباقي دول الشرق الأقصى، معززة بذلك فكرة ارتباط الحراك النسوي بالحراك القومي ومؤكدة على فكرة أصالة هذا الحراك الذي قد عززه الاحتكاك بالغرب.
وهذا الربط في طرحها لم يأت من فراغ فمع قدوم الرأسمالية تغير نظام المرأة الاجتماعي وصارت المرأة بذلك عاملة أرخص من وجهة نظر الرأسماليين وهذا الذي أدى الى الحراك النسوي المرتبط بالحركات الاجتماعية ككل، وقد كان للأدب النسوي نشاط قديم في هذه البلدان كلها وقد نشرت إصدارات كثيرة ابتدأها بالكاتبة التركية (فاطمة توبوز) أو كما تعرف بفاطمة علياء، إذ إنها كانت من أوائل النساء اللاتي كتبن دفاعا عن حقوق المرأة وكان ذلك في عام 1888، وهي روائية تتحدث في تلك الحقبة عن النسوية في منطقية إسلامية منتقدة التقاليد القديمة التي تتعارض مع التطور والحداثة والتي تهمش دور المرأة في نهضة مجتمعها.
وأظن بأني لو تحدثت بإسهاب عن الأعمال النسوية الأدبية المبكرة سأحتاج كتابا وربما كتبا لعرض هذه الأعمال ومناقشتها إلا أنها في أغلبها ركزت على مفهوم (المرأة الجديدة) وقد حمل كتاب قاسم أمين في مصر هذا العنوان إضافة الى جمعية المرأة الجديدة التي تشكلت على أيدي نساء مصريات عام 1919.
وإذا أردنا ذكر الأسماء على سبيل المثال لا الحصر من الشرق أقصاه وأدناه وببحث بسيط عبر المصادر الموثوقة ستظهر لنا أسماء كثيرة الا أنها لم تحظ بالاعترافات الكافية ومع ذلك كان لها التأثير الكبير في وقتها كخانم آزامودة في ايران وجيوجين من الصين، هدى الشعراوي من مصر ولا ننسى مي زيادة ودفاعها عن حقوق المرأة، فالذات النسائية حاضرة منذ ما يقارب 60 الى 80 عام سابقة وهذه ليست موجة جديدة مستحدثة من نسويات الغرب.
أما عن تأثرها بالغرب فهذا ومما لا شك فيه طبيعي، فقد ناقشت كوماري موضوع الغرب والشرق في كتابها والارتباطات بينهما ومسألة الاستعمار وسنجد بالتالي بأن الأمور متشابكة ولا يمكن الفصل بينها ومن الطبيعي بأن تأثير الغرب العقلاني والوضعي مع ظهور العلمانية قد أثر في هذه المنطقة ككل، ولا يمكن فصل الكيان الغربي من ناحية الجذور عن هذا الكيان الشرقي، حتى أن اللغات الاوروبية كانت مرتبطة بالسنسكريتية كما ذكرت كوماري في كتابها محاولة توضيع فكرة أن البناء المعرفي للأمم مرتبط بشكل أو بآخر و بأن هذا التشابك لا يمكن فصله بأي شكل من الأشكال و لكن هذه الدول التي تقع في الشرق كانت فريسة الاعتداءات الأجنبية من أجل مواردها الضخمة، و كان ينظر لها دائما نظرة دونية وعندما تم استعمارها نهضت الحركات القومية جنباً إلى جنب مع النسوية كردة فعل طبيعية، إلا أن الاصلاحات السطحية لم تفِ بالغرض فقبل الاستعمار هناك سلالات حاكمة و معتقدات دينية تحكمت في المرأة على مدى قرون طويلة.
وخلال القرن الـ 19 بدأت المطالبة بإعادة تفسير النصوص الدينية والحد من نفوذ رجال الدين وهذا الشيء يتكرر في وقتنا الحالي مرة أخرى فما كان يعتبر مقبولا كحرق الأرملة بعد وفاة زوجها مثلا صار عملا لاإنسانيا ومنافيا للأخلاق وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، ولكن تبقى النساء حتى وقتنا هذا أهدافا للعنف الجسدي ما إن حاولن تجاهل العادات والتقاليد والمطالبة بحقوقهن الإنسانية، فقد شهدنا قبل قرابة عام من الآن مظاهرة نسائية في هوليوود تطالب بها أهم الممثلات العالميات بحقوقهن ورفض الابتزاز الجنسي والمساواة في الأجور وهذا إن دل فيدل على شيء واحد فقط أن العقل الجمعي لازال يرى المرأة شيئا منذ تحول المجتمعات من أمومية إلى أبوية.
قد نستطيع أن نتبع خطى من أعادوا تفسير حرق الارملة من جعلوا النصوص تعمل عملا جديدا وهذا على أقل تقدير، فالجميع اليوم يتحدث عن التمكين ويسلط الضوء على بهرجة إعلامية توحي للغرب بأن حال المرأة قد تغير ولكننا نعلم يقينا بأنها لا تزال أسيرة عادة ومجتمع تحمل في جسدها شرف قبيلة وتقوض حريتها في التعليم إلى يومنا هذا بدافع عيب وحرام.
لأكن أقل تشاؤمية فهناك بصيص أمل جيد وجديد عبر الحراك الإلكتروني الذي يتزايد مع كل ضحية تعنيف وجريمة شرف وزواج قاصرة في دول العالم الثالث، ولكن هذا لا يكفي مادام القانون ينكمش أمام حكم العشيرة وسطوة العادات والتقاليد، فمن عروض الجمباز عام 1929 في مصر ومن لطيفة النادي كأول امرأة تطير منفردة في عام 1934 إلى ضحايا الشرف عام 2019.
في النهاية أود ذكر الدكتورة العظيمة نوال السعداوي التي أشعلت أول شرارة للنسوية في حياتي والتي أعتز بها كامرأة شرقية واجهت رجال الدين والسلطة بكل جسارة واحترام، واجهتهم بعقلها وأدبها وكتبها لا بالصراخ والهيمنية والبلطجة، هي التي غيرت مفهوم الشرف لدي في وقت مبكر جدا في حياتي فعلمتني أن كلمة المرأة شرف وعملها شرف واستقلالها المادي هو الشرف الحقيقي الذي ينبغي أن تسعى له، فقد عالجت السعداوي جيلا كاملا بالصدمة وتم توجيه اتهامات تكفيرية كثيرة لها عندما تعارضت مصالح الذكورية الضاربة في مجتمعاتنا مع أفكارها النيرة التي طالبت بالإصلاح الداخلي وأتمنى أن نطالب جميعنا بذلك قبل المطالبة بالقشور.