المشهد الحالي
برنامج على منصة يوتيوب يهتم بما يعرف تبسيط العلوم، أشخاص على نطاق واسع ممن ينتمون لتيار محافظ، يبحثون عن أي ثغرة يهاجمون بها مقدم البرنامج أحمد الغندور، على أساس أنه يروج لأفكار إلحادية تعادي الدين، مهاجمة لمحتوى برنامج الدحيح من قبل أشخاص داخل التيار الإسلامي، أبرزهم هيثم طلعت وإياد قنيبي، ولكن من داخل نفس التيار يخرج صوت أحمد بحيري الذي يدافع عن الدحيح ويرفض التشكيك في إيمانه، ويطالب من يعترضون على مخالفة منظومة العلم للإسلام بسبب كون أغلبية العلماء ملحدين، بالتفوق على المنظومة العلمية الحالية بدلا من مهاجمة برنامج الدحيح، وتبدأ حرب على منصات يوتيوب وفيسبوك حول مدى علمية برنامج الدحيح وإيمان مقدمه أحمد الغندور، لم يخرج الغندور بأي رد على أي طرف، ومع تصريح المشايخ بأنهم يكفرون كلام الغندور لا الغندور، وفي ظل هذا التلاعب بالأحكام يسرب الغندور صورة أثناء شعائر الحج، ليوقف كل ما يواجهه من هجوم على الأقل بين الرأي العام المحايد، بينما بقي أبناء التيار الإسلامي، يعتبرون أن حج أبي جهل لبيت الله لم ينفِ كبرته، وخرجت مؤامرة كونية كبرى من بينهم تكشف عن منظمة إلحادية تربط ما بين شخصيات معروفة من منصة يوتيوب كأحمد سعد زايد وأحمد سامي بأحمد الغندور ويتم ربط الثلاثي، بدولة قطر وعزمي بشارة عربيا، وغربيا بريتشارد دوكنز من أجل نشر الإلحاد في بلاد الإسلام، فهل حقا العلم الحديث مؤامرة ضد الدين.
نشأة وتاريخ حقل دراسة العلم والدين
حسب موسوعة ستانفورد للفلسفة فإن بدايات الدراسة المنهجية حول جدلية العلم والدين بدأت منذ الستينات، وأصبحت تخصصا ومجالا دراسيا معترفا به، وأضحت هناك دوريات متخصصة مثل مجلة زايجون، وكراسي علمية مثل كرسي ندرياس إدريوس للعلم والدين في جامعة أكسفورد، بخلاف المؤتمرات الدورية التي تنعقد حول تلك الجدلية ما بين العلم والدين، وقد تحدت بعض الآراء كون العلاقة بين العلم والدين علاقة حرب بالأساس، ومن الثمانينات إلى أواخر التسعينات وبدايات الألفية الثانية خرجت وجهات نظر تمارس نفس التحدى حيث اعتبرت المفاهيم اللاهوتية المسيحية هي ما أسهمت في ظهور العلم في القرن السابع عشر، كما كانت هناك حركة واسعة بين المسيحيين الليبراليين والتطورين خلال القرنين التاسع عشر والعشرين يهدفون إلى التوفيق بين نظرية التطور ومعتقدات الدين، وحتى في تسعينيات القرن العشرين فقد رعى مرصد الفاتيكان في إيطاليا، ومركز اللاهوت والعلوم الطبيعية في كاليفورنيا سلسلة من خمسة مؤتمرات في حضور رجال نطاق العلم والفلسفة، لفهم الفعل الإلهي في ضوء معارف العلم الحديث.
جدلية العلم والدين في المجال العام المعاصر
بينما في المجال العام المعاصر يعد التفاعل الأبرز بين حقلي العقل والدين حول نظرية الخليقة والنظرية التطورية مثل محاكمة كيتسيملر مقابل دوفر عام 2005، وتشير تلك المعارك القانونية حول تدريس نظرية الخلق والتطور في المدارس إلى وجود صراع بين الدين والعلم، في النهاية تبقى العلاقة بين العلم والدين علاقة معقدة ومتشابكة، ومن الصعب فيها حسم الأمر، ففي محاكمة سكوباس 1925 شهدت أمريكا عداء دينيا شعبيا ضد نظرية التطور، كما أننا من وجهة أخرى نجد الكنيسة قد أصدرت موقفا أكثر مرونة وبيانات تصالحية مع نظرية التطور، واعتذرت أيضا الكنيسة عن الرفض الأول لنظرية داروين.
تاريخ الإسلام والعلم
تعد علاقة الإسلام بالعلم علاقة معقدة حسب موسوعة ستانفورد للفلسفة تتمتع دولة مثل الإمارات العربية المتحدة بالتوسع الحضاري والتكنولوجي إلا أنها تبقى ضعيفة جدا على مستوى البحث العلمي، كما تعد الدول الإسلامية بؤرًا للأفكار الزائفة الخرافية، بينما تاريخيا تفوق العالم الإسلامي في فترات القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر على العالم الغربي في مجال الرياضيات وعلم الفلك والبصريات والطب ويشار إلى تلك العلوم باسم العلوم العربية لتمييزها عن العلوم التي نشأت في الغرب، وتميز العلماء العرب بتميز المواهب وموسوعية المعرفة، فمثلا عمر الخيام حقق شهرة واسعة في مجالات متباينة مثل الشعر والفلك والجغرافيا والمعادن، بينما الفارابي قام بدراسة الموسيقى والفلسفة والرياضيات، وكتب ابن رشد في الطب والفيزياء والفقه والفلك وعلم النفس والجغرافيا والموسيقى والفلسفة، وربما كان الحافز الأكبر رعاية الخلفاء العباسيين وحركة الترجمة القوية لأعمال أرسطو وجالينوس والعديد من علماء اليونان وفارس، وكانت المكتبات ملحقة بالمساجد تعلم الناس العلوم العربية والفلسفة، في ظل سيطرة لغة واحدة في عصر يغلب عليه قوة حركة التجارة والرخاء الاقتصادي، مما وسع من حركة المراسلات الفكرية بين العلماء داخل أراضي الإمبراطورية العربية.
ويرى البعض أن ما أدى لركود عملية تصاعد المعرفة العلمية العربية هو انهيار الدولة العباسية وتوجيه ضربة لاهوتية قتلت البحث العلمي والتفكير الفلسفي الحر من الشيخ أبو حامد الغزالي، بعد أن كفر الفلاسفة ونقل الفكر داخل عالم الفقه وحسب، وهو ما يجادل فيه البعض بأن معرفة العلوم الإسلامية كانت موجودة من قبل أبي حامد الغزالي وظلت مستمرة من بعده لفترة، وشهد القرن الحادي عشر تغييرات جذرية على روح الفكر الإسلامي، واعتبر كل ما هو تفكير خارج عن الأصولية زندقة تقود إلى قتل صاحبها، وبعد أن كانت الردة التى توجب القتل تحتاج إلى إعلان صريح من صاحبها، وضعت أسسا لا يسمح باختراقها، وبحسب أبي حامد الغزالي فهناك ثلاثة مبادئ رئيسية غير مسموح المساس بها: التوحيد والنبوة والحياة الآخرة، مما جمد آلية عمل العقل العربي خوفا من الاتهام بالزندقة.
وما بعد ذلك من نظريات كنظرية التطور مثلا فقد ظهرت في فترة ضعف واستعمار، جعل المسلمين يعتبرونها على أنها نظرية استعمارية يجب الشك وعدم الثقة فيها، وعلى الرغم من الرؤية السلبية للحداثة الغربية من نظرة إسلامية إلا أننا نجد كتابات ناشئة عن التناغم بين العلم والدين، واستعادة لمفاهيم إبن رشد حول أن كلمة الله وطريقة عمل الله أمور لا تتعارض، وإذا حدث تعارض فإذا النص المؤسس لم يفسر بشكل صحيح، ولذلك فتأكيد القرآن لخلق الكون في ستة أيام مثل الكتاب المقدس في العبرية، جعل البعض يفسر أن اليوم مدة طويلة ليست 24 ساعة كما نعرفها، ويبقى ذكر القرآن الصريح لعملية خلق آدم من طين سببا في رفض المسلمين نظرية التطور.
التفكير الإيماني والحر في التاريخ الإسلامي
بحسب محسن مهدي قد انطلق ذلك النوع من التفكير حول التسليم بآراء المجتمع أولا ثم محاولة التوفيق مع العلم، ومثال على ذلك الشيخ أبو حامد محمد الغزالي فقد استعرض العلوم الدينية وغير الدينية فيما يمكن تسميته بسيرته الذاتية -المنقذ من الضلال- وقال في هذا الصدد أن الفلسفة قد تكون مفيدة بشكل عام، لكن الأمر يختلف من مجال لآخر، فالمنطق مفيد كأداة للتفكير، ولا شيء خطأ في كلٍ من العلوم الطبيعية والرياضية شريطة قبول فكرة أن الله خالق كل شيء، وحدد الغزالي النتائج الميتافيزيقية التي تتعارض مع الدين وأكد على ضرورة رفضها.
بينما هناك منطلق أخر من العلم يحاول توفيق وتأويل الرؤية الدينية، وفي إحصاء العلوم للفارابي قسمت العلوم إلى اللغة والمنطق والرياضيات والميتافيزيقيا وعلم السياسة أو الفلسفة السياسية، بينما اعتبر الفقه العلم التطبيقي للقوانين الإلهية، واللاهوت العلم المحامي عن القوانين الإلهية، ويجد الدين مكانته من العلم الفلسفي، كما يجب أن يفهم الدين من منظور الفلسفة والعلم، ويقف ابن رشد قريبا من موقف الفارابي ويعارض رأي أبي حامد الغزالي ويطالب بتأمل القرآن والشريعة الإلهية وأقوال المتكلمين، وفحص تأويل هذه المصادر والسؤال عن أحقية الغزالي بتلك التأويلات التي خرج بها، ويعتبر ابن رشد أن جدلية العلم والدين أمر قائم على سوء فهم وأخطاء تأويل بالأساس، ونجد على الهامش مجموعة مفكرين راديكاليين مثل أبي بكر الرازي لا يكترثون بالدين على الإطلاق، ويصرحون بأن الدين مجرد كذبة وخداع وبإمكان المرء أن يحيا جيدا بعيدا عن الدين، وقد سبق أبا بكر الرازي إلى تلك الآراء آخرون قيل منهم السرخسي تلميذ الكندي، وقد كتب الفارابي يفند موقف الرازي وأمثاله.
محاولات التوفيق بين العلم والإسلام في العصر الحديث والفكر المعاصر
لقد كان محمد عبده مهموما بالتوفيق بين العلم والدين وكان له العديد من التفسيرات التي تحاول مجاراة العقل والحداثة، وقد ورد في الجزء الأول من تفسير المنار حول قصة خلق آدم وحواء: “إن القرآن كثيرا ما يُصوّر المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب أو بأسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير فهو يدعو بها الأذهان إلى ما ورائها من المعاني”. وكان محمد عبده يرمي إلى أن قصة خلق آدم تحمل من المجاز أكثر مما تحمل من الحقيقة، كما يعتقد محمد شحرور أن آدم اسم جنس عام ونظرية التطور توافق نص القرآن، وقد صرح يوسف زيدان في لقاء مع عمرو أديب أن التطور حقيقة علمية ويجب تأويل النص الديني لصالح النظرية، كما يرى عدنان إبراهيم أن المشكلة في فهم اللاهوتيين على أن خلق الله مستقل ولحظي بينما خلق الله طبقا للنص القرآني مستمر ومنظم، فخلق عيسى مثلا احتاج لتسعة أشهر طبيعية وهكذا طبيعة عمل الله، ويرى أن خلق الله تطوير وليس تطورا، كما أنه خلق ترقية وليس ارتقاء، وتبقى نظرية التطور جذابة مقارنة بالنظرية الخلقية السائدة، ولكن ما يختلف فيه مع التطور كون أداة عمله هي الطبيعة العمياء حيث يرى عدنان إبراهيم التطور أداة خلق إلهي، بينما يرى أحمد ديدات أن النص القرآني يتفق مع نظرية النشوء والارتقاء، حيث إن القرآن أعلن خلق كل الكائنات من الماء، كما يعتقد أن النص القرآني أيضا يؤيد نظرية الانفجار الكبير حيث آية “أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما”. وعلى جانب آخر يقف مشايخ مثل محمد العريفي والداعية ذاكر نايك وهيثم طلعت وإياد قنيبي موقف الرفض من نظرية التطور.
الخاتمة
ربما ما يظهر من بعيد أن للإسلام موقفا صارما ضد العلم، مع أن ذلك تراثيا وحديثا ليس أبدا بالأمر الدقيق، كما أن مقارنة أصوات رفض نظريات العلم الحديث مع أصوات التوفيق بين العلم والدين، نجد أن تيار الرفض يغلب عليه الطابع الإيديولوجي المغلق، ولا يمكن اعتبار تيار التوفيق مؤدلج ضد الدين بالأخص إن كان على رأسه الشيخ محمد عبده مؤسس إسلام النهضة وتيارات العصر الحديث، وداعية كأحمد ديدات يفترض إنه أستاذ أو مثل أعلى للداعية ذاكر نايك، حتى شعبيا لم تخرج حملات ضد يوسف زيدان الذي خرج يؤيد التطور بفضائية مصرية مفتوحة ويشرحه للجماهير، كذلك أحمد الغندور ذاته لم يتعرض للنقد من خارج دائرة السلفيين، ربما كان العقل الإسلامي أكثر مرونة مما يبدو لتقبل نظريات العلم، وربما كل ما ينقصه هو التأسيس لمنهج علمي حقيقي بعيدا عن المعارف الزائفة والدجل والشعوذة.