في صدد الحديث عن عوائق التفكير العلمي نحتاج في بلادنا العربية إلى المزيد من العلم والتفكير العلمي والنقد، بتنا في أمس الحاجة لتلك النوعية من التفكير، حتى نرتقي ونتقدم. فكل ما نراه في أيامنا من اختراعات كأجهزة الحاسب الآلي، و التلفونات النقالة، وجميع الأجهزة التي ننظر إليها اليوم على أنها جزء من حياتنا اليومية، مما أصبح وجودها في أيامنا أمرا اعتياديا، إلا أن مثل تلك الأجهزة، نتجت عن معاناة العديد من العلماء عبر الزمن، قد كان لهم جهود ضخمة من أجل المدنية التى نحياها الآن.
ما العلم؟
هو مجموعة المعارف المنتظمة في دراسة ظاهرة معينة، وهناك مجموعة من العلوم الطبيعية والإنسانية قسمت على أساس ظواهر البحث، وكانت بنات العلم الطبيعي أو العلوم الأساسية هن: الفيزياء التي تبحث من الذرة للمجرة، والأحياء التي تدرس الخلية بينما الكيمياء تختص بدراسة الجزيئات، وإذا كان العلم الطبيعي قد بدأ مع أرسطو، فتلك البداية كانت نتاج معرفة تراكمية عند علماء الإغريق قبل أرسطو، ومن قبلهم علماء قدماء المصريين، فكل ما يصل لنا علميا هو نتاج خبرة معرفية متراكمة تسهم في كل تقدم حياتي نحياه، وهذا ينطبق على الانتخاب الطبيعي ونظريات اينشتاين، وحتى ابن الهيثم ومن معه من علماء العالم القديم، ولكن يبقى أهم ما قدمته المعرفة البشرية، المنهج العلمي الذي يعمل على الاستفادة القصوى من فهم ظواهر معينة عن طريق ثلاث آليات، التوصيف والتفسير والتنبؤ، وكلما كانت المرحلة الأولى دقيقة، كانت المعرفة أكثر وأفيد من الناحية العلمية، بينما تتيح لنا المرحلة الثانية الفهم، الذي يقودنا إلى التنبؤ واختراع التكنولوجيا، وتطوير أدوات التعاطي مع الحياة، ويعد التفكير النقدي من أهم مقومات التفكير، وقد بدأت إرهاصات العلم التجريبي مع الحسن بن الهيثم.
أنواع المعارف الإنسانية
تتكون المعرفية الإنسانية من ثلاثة أهرامات رئيسية:
- العلم
- الفنون والآداب
- الدين والأساطير
وتعتمد المعرفة الدينية في أي دين سواء كان البوذية أو الهندوسية أو المسيحية أو الإسلام على اليقين، بينما تعتمد المعرفة الفنية على الشعور البشري داخل الإنسان، أما المعرفة العلمية تنطلق عكس المعرفة الدينية من الشك وعلى عكس المعرفة الفنية من تحييد المشاعر، تمتاز المعرفة العلمية بالموضوعية والتجرد، حيث يقف العالم حاكما على الظاهرة دون تحيز، ويحاول الباحث التزام النزاهة وعزل آرائه القبلية في الحكم على الظاهرة التي يقوم بدراستها.
عوائق التفكير العلمي
ويبقى التفكير الديني تاريخيا من أهم عوائق التفكير العلمي، وكلنا نعلم قصة صراع الكنيسة في العصور الوسطى مع العلم والأفكار العلمية، ضد نيوتن وجاليليو و داروين، ونظريات التطور والجاذبية وكروية الأرض وغيرها، وكانت الأساطير والخرافات في العصور الوسطى أكبر عوائق التفكير العلمي ، كأن الأرض مسطحة، وكل الأشياء تدور حول الأرض كونها مركز الكون، وكان انحياز رجال الدين لتلك الأفكار يقيد حرية التفكير العلمي.
وهناك سمة أساسية حول تطور التفكير البشري بالعالم القديم؛ فهناك قصص دينية شائعة صدق فيها ملايين البشر عن قصة خلق تحكي، أن إله هذا العالم كان بيضة، أخذت تتمدد حتى انفجرت ومن ذلك البيضة نشأ العالم، فالله هو العلم والعلم هو الله، والله داخل العالم والعالم داخله، وتلك أفكار بعض ديانات شرق آسيا، ومثل تلك القصص تبدو منطقية لأصحابها جدا، ومعرفة تمثل يقين، وحتى في مصر القديمة، وعلى الرغم من التقدم العلمي للحضارة الفرعونية، إلا أننا عندما نذهب لقصة الخلق الفرعونية، نجد أن العالم نشأ من تزاوج جيب ونوت، تزاوج إله الأرض بألهة السماء، وبسبب كثرة التواجد وبعض الازدحام يضطر رع لاستخدام شو إله السماء في الفصل بينهما، ولذلك وجد الناس تلك المسافة بين الأرض والسماء، لأن اختلاطهما القديم قد تسبب في زيادة العالم وتمدده، وهناك الكثير من الصور اللطيفة التي تعبر عن تلك القصة عند قدماء المصريين، وإذا لم تسرد مثل تلك القصص بخشوع ويقين قد تعرض للعقاب بسبب ازدراء الدين.
- سلطة العادي والشائع
الإنسان في الحياة لم يختر أشياء كاللون والدين والجنس، تلك أشياء يوجد الناس عليها، بمفاهيم وأفكار وثقافة محددة، ويتبنى الناس تلك الثقافة دون النظر لمدى صحة وصواب الأفكار الشائعة والتفسيرات البسيطة عن ظواهر الحياة بينهم، فمثلا ظاهرة احولال العين عند بعض الأطفال العرب، كان يتم تفسيرها بسبب ممارسة جنسية أو طريقة في ممارسة الجنس، بالقطع مثل تلك الأفكار خاطئة، إلا أنها بسبب الرواج بين الناس، تملك سلطة تجعل من المعنى دحضها وتصحيحها.
- سلطة المشهور
ظل أرسطو قرابة الـ2000 عام يعد بنظرياته في العلم إلها، لا يمكن نقد آرائه إلى أن أتى فرنسيس بيكون، وكان الأمر ملتبسا مع أرسطور بالأخص لأنه يملك سلطة المشهور الذي تبنت أراءه الكنيسة فقد أصبح جزءا من الدين الغربي، ونقد تلك الأفكار لم يعد نقدا لأرسطو بل نقدا مباشرا للدين ذاته، وسقطت تلك السلطة بصعوبة خصوصا بعد الانتقال من مركزية الأرض المسطحة التي تمثل مركز الكون، إلى الأرض الكروية التي تدور مع كواكب مجموعتها حول الشمس.
- سلطة اتهام العقل
يوجه البعض تهما للعقل الذي نملكه على أنه ناقص غير كافي أو مؤهل لعملية المعرفة، ولكن السؤال هناك، كيف يعرف الإنسان أن العقل غير كاف؟ مثل تلك الأمور تكون لأسباب معينة وأهداف، كفرض سلطة معرفية خارج العقل، وكل مثل تلك الحالات وقفت دائما في وجه التطور.
أمام تلك العوائق، وبحثا عن انطلاقة جديدة للعقلية العربية نحو الحداثة والمعرفة العلمية ليس علينا سوى أن نتبنى المنهج العلمي في الرؤية والتفكير، وأن نخلق حياة علمية في مدارسنا وجامعاتنا لتمتد حتى تشمل كل أطياف المجتمع أو معظمه. ما هي تلك الحياة العلمية وما المنهج العلمي؟
المنهج العلمي:
هو دراسة الظواهر بشكل معقول بعيد عن عوائق وسلطة كل من الدين والعادي والمشهور والاعتقاد بقصور العقل البشري وقدرته المعرفية، وبعد تلك الدراسة الحرة، نقوم بوضع فرضيات التفسير، ثم تخضع جميع تلك الفرضيات للتجريب، وعكس ما هو شائع أن المنهج العلمي مختص بدراسة الظواهر المادية، فالعلم مختص أيضا بالظواهر الإنسانية ولها منهجها الخاص.
خصائص المعرفة العلمية
- الموضوعية: تحييد الباحث أهواءه وآراءه أثناء رصد ودراسة الظواهر.
- الوضعية: الاشتغال بالمواضيع و المسائل والقضايا التي يمكن أن نصل إليها مباشرة والتي هي موجودة إما كواقع عيني أو كواقع ذهني.
- التفسير: فهم الظواهر من خلال الدراسة وتقديم روابط العلاقات بين الظواهر المختلفة
- الواقعية: وهي التي تقوم على استقراء الظواهر والخبرات التي نعيشها واقعيا، لا التي تدخل في نطاق الخيال و التصورات.
- الدقة: تعتبر من أهم الدعائم التي يقوم عليها الفكر العلمي، حيث تتميز المعرفة العلمية بالدقة سواء في المفاهيم أو التساؤلات، أو دقة الفروض والتجارب والاستنتاجات والتعميمات.
- الشمول: هناك مثال الحديد الشهير أن كل الحديد يتمدد بالحرارة، إذًا لن يكون هناك حديد لا يتمدد بالحرارة، وعن طريق المنهج الاستقرائي نأتي بالعينة الدالة التي تصنع التعميم. أما العلوم الزائفة تتخذ شكل العلم في الحديث عبر تفسير الأحلام وقراءة الطالع إلا أنها لغة فارغة لا تتسم بالمعرفة العلمية التي يجب أن تنتج دائما تحت كل الظروف.
- التنبؤ: يبقى التنبؤ من أهم الظواهر التي تنتج من خلال العلم لأنها تفيدنا في صناعة الاختراعات ووسائل التكنولوجيا والتقدم.
- التراكم: يبقى التراكم البشري المعرفي على مستوى العلم والمنهج العلمي من أهم الإسهامات البشرية المتصلة عبر التاريخ.
خاتمة
نعود فنقول إن منطقتنا العربية لابد أن تتبنى نهج الحداثة والتفكير العلمي وإلا تدهور حالنا أكثر فأكثر، هناك دائما عدة طرق خاطئة وطريق صحيح واحد، الخط المستقيم أقرب طريق بين نقطتين. الطريق للحداثة هو المنهج العلمي والتفكير العلمي، وعلينا الاختيار، وإن كان اختيارا متأخرا ولكن قبل قوات الأوان.