عند النظر لحقيقة المعتقدات بتجرد عن النفاق التجميلي وتسمية الأشياء بمسمياتها سنرى الصورة الأوضح للحقيقة التي يجب أن نتقبلها على الكذبة التي نعيشها، ولعل أهم القضايا الايديولوجية في طريق الانفتاح الحضاري وتلاقح الحضارات هي قضية التكفير الديني والتي قاسى العالم منها الكثير قديماً وبرزت هذه المعاناة بشكلٍ أكثر تأثيراً وإيلاماً على السطح في العقد الثاني من هذا القرن وما زالت تشكل تهديداً كبيراً على الحضارة الإنسانية مستقبلاً.
تاريخياً التكفير ليس وليد اللحظة أو العصر أو أنه صنيعة المخابرات كما يقول أنصار نظرية المؤامرة، وليس كذلك أمراً خاصاً بصراع الفكر الإسلامي مع بقية الديانات أو حتى داخل المنظومة الإسلامية نفسها، تشكيلة الوعي الجمعي الإسلامي في هذا العصر أصبحت تنفر وتمتعض من قضية التكفير والإرهاب والتطرف ولكنها لا تتحرج البتة من إطلاق التكفير على بقية الأديان وكل المنكرين على الإسلام ووسمهم بالكفر والظلال وتتحرج من ذلك حين تشاهد الآثار الدموية للتكفير في الداخل الإسلامي، وهذا بالطبع تناقضية عجيبة.
تاريخياً كان أعداء الإسلام منذ نشأته هم الكفار، وبمعنى أدق كل من لا ينتمي للإسلام هم الكفار والمنعوتون بالكفر وبمرور الوقت شمل المصطلح المسلمين جميعهم وفق تصنيف كل فئة وجماعة إسلامية لأخرى، أما في العصور الوسطى فكان الكفار هم كذلك أعداء الدين المسيحي مثالاً وكل من يعارض أفكاره أو نصوصه أو يأتي بجديد يشذ عنه، قد تكون الحرية يوماً كفراً أو قد تكون العلوم يوماً آخر .
النظر في قضية التكفير ومحاولة فهمها هو السبيل لإيجاد حلول للقضية ومعالجات آثارها السلبية، وبالطبع فليس خافياً المواجهات الايديولوجية الدينية المذهبية في هذا العصر التي تحاول الخروج بمظهرٍ أكثر تحضراً في موارات سوءات تاريخ التكفير الديني وإلقاء اللوم على التيارات والأيديولوجيات المنافسة لها في الساحة الفكرية، ولعل أبرز مواجهتها للتكفير كان متمثلاً في استنكاره ومواجهته المسلحة للقضاء على وجوده العسكري والمواجهة الفكرية في المنابر الأخرى، ولكن هل في الحقيقة نجد أن هذه الوسائل مثلت حلولاً لمشاكل التكفير؟!، جزماً، لا لم تفعل ذلك وإنما خلفت مشاكل كثيرة وجديدة في خلق تناقضات وتيارات داخل هذه التيارات وتناقضاً مع موروثها ومعتقداتها.
عند وقوف المتدين أو المعتقِد مع نفسه ومع نصوصه وعقائده سيجد أنه هو الوحيد المؤمن بما يعتقده هو وأبناء طائفته وكل من ينكر ما يعتقدونه فهو بتعبيرٍ آخر يكفر به وبالنتيجة هو كافر وكذلك كما هو هذا الكافر من وجهة نظره بإيمانه وكفر الآخر المنكر عليه ما يعتقده فالشيعي كافر من وجهة نظر السني والسني كافر من وجهة نظر الشيعي كما هو المسيحي كافر من وجهة نظر المسلم والمسلم كافر من وجهة نظر المسيحية، وهذا كل ما ستجده في كل منظومة فكرية أو اعتقادية مع اختلاف المصطلحات في إطلاق الأحكام إلا انها تظل قاصدةً هذا المعنى.
التكفير ليس وليد اللحظة ولا صاحب عمقٍ تاريخي وليس حكراً على فئة دون أخرى بل هو صاحب عمقٍ وجودي منطقي من ناحية التفكير وإطلاق الأحكام فهو لم يُصنع في حقبة تاريخية معينة أو ايديولوجية ما، فبالطبيعة أمر وضعية التكفير هو أمر ذهنيٌ منطقي متصل بقضيةٍ ذهنية تختلف فيها إطلاق المصطلحات والألفاظ ولكنها تعني في الأخير حقيقةً ذهنيةً واحدة وهي صفة منكر الادعاء من وجهة نظر المدعي، من المتعمد إطلاق لفظ الفوبيا على الرهاب الحاصل في هذا العصر أمام جدلية التكفير بين الكفر والإيمان، حيث أنه في الحقيقة أمر لا داعي للخوف منه .
مشكلة التكفير ليست فيه، لأن إنكاره هو مواراة الحقيقة والعيش مع الوهم والكذبة وهذا بالتأكيد لن يثمر حلاً. مشكلة التكفير ليست في التكفير نفسه وإنما في قبول الآخر ومسألة التعايش من حيث آثار العنف والإرهاب والأحكام المترتبة على التكفير في كل ايديولوجيا والتي تنتهي في الأغلبية العظمى من صورها بمسائل العنف والإرهاب.
التكفير حقيقة قائمة تفسر علاقات التناقض والتنافر بين الفرق المختلفة وما رفضه أو إخفائه إلا عملية كبت ستولد انفجارا أضخم في أي لحظة قد تخرجه في هيئةٍ قذرة تلتهم العالم وتزيد من معاناته، وتقبل حقيقة التكفير برحابة ومعرفة سذاجتها وبساطتها أمام التعقيدات الشرائعية للأديان هو الخطوة الأولى لتجنب دموية التعايش والانفتاح الحضاري في تشكيل وعيٍ جمعيٍ جديد قائم على حرية التعبير والمعتقد والتعايش السلمي.
مشاكل العصر تبعات التكفير أم الشريعة
يتأثر العالم والشرق الأوسط والمنطقة العربية على وجه الخصوص تأثيرا مباشراً من تبعات التكفير قبل غيرهم من مناطق العالم في هذا العصر نظراً لاحتدام الصراع الايديولوجي في الداخل الإسلامي، وفي حقيقة الأمر فإن الاشارة إلى المشكلة بأنها تبعات الشريعة وليس التكفير هو التوجه إلى مركز المشكلة ورؤيتها على هيئتها الحقيقية التي قد تسمح بمواجهتها والوقوف أمامها في إيجاد حلول جذرية سواءً كانت توعوية ثقافية أو قانونية صارمة.
استمرار الصراع في الداخل الإسلامي والمنطقة العربية منذ خمسة عشر قرناً واستباحته للدماء كان ينطلق من موقف تكفيري للطرف الآخر يترتب رسمه في الوعي الجمعي للجمهور في سبيل مواقف وغايات سياسية في الصراع على السلطة حتى تصبح مع مرور الزمن مواقف فكرية تعمق صراعاً طائفياً يزداد اتساعاً بتباعد زمنيٍ، ولكن بالطبع إنه لا بد من محرك وعامل أساسي قوي يسهم في تشكيل هذا الوعي الجمعي للجمهور. واستقراءً لتاريخ الصراع فإن الملاحظ بأن هذا العامل المؤثر في تشكيل الوعي الجمعي إن لم يكن هو المشكل بحد ذاته هو سيف الفتوى الشرعية التي تحرك الجمهور تحركاً عقائدياً مبنياً على استعدادات مقدماتية لدى هذا الجمهور مثلت الأرضية لخلق مشكلة العنف كتراتبية مرحلية لقضية التكفير وبالأصح الشريعة.
الفتوى هي ما حركت جيوش الصحراء الطامعين لغزو الأرض شرقاً وغرباً باسم الله وهي الفتوى التي أسست لصراع منذ ولادة إمبراطورية الصحراء الممتدة على هيكل الفرس والفرعونية والأمازيغية، هي شرارة تقسم هذه الإمبراطورية وتشرذمها لدويلات أصغر وأصغر تتناحر مع بعضها وهي الفتوى من حركت جيوش الصليب الأوروبي تجاه هذه المنطقة.
إرادةٌ سياسية توعز للمعبد -إن لم يكن المعبد هو الارادة السياسية في بعض الاشكال بلا واسطة- إصدار الفتوى التي ستبدأ في تجييش الشارع ودفعه للعنف أو الرضى بما تفعله الحكومة، وفي كل الحالات سيكون العنف مُبَرَّراً، إذاً الصراع ليس صراع تكفير وإنما صراع فتاوى وشرائع والشريعة هي من ترتب أحكاماً بناءً على حقيقة الكفرية التي هي أمر واقع وتفسيرٌ لإحدى صور التناقض الطبيعي في الوسط الفكري الإنساني، امّا المشكلة فهي مشكلة الفتوى والشريعة التي ترتب أحكاماً وتجعل من كل ظاهرة توازٍ أو تناظرٍ قضية صراع على البقاء ولا تقف على حقيقة استحالة التوافق الدائم واستحالة القضاء على التناقض والتحديث،حين تؤسس الشرائع للمواقف المصيرية وتبدأ بإطلاق أحكام البقاء والفناء فهي بذلك تريد إخلاء الساحة من أي تناقض يواجهها أو يرفضها وبهذا نجد أن كل شريعة تعتبر عدوةً للحرية بكافة صورها.
الخوف من أي حركة تجديدٍ حتى على الفكر الشرائعي نفسه يحرك الشريعة لإصدار هذه الأحكام المصيرية حول موقف الآخر الإنكاري منها، وبهذا فالشريعة كذلك تعتبر حركة التجدد خصماً لها وأما إن حدثت أي عملية تجديد في أي شريعة فهي بالطبع مؤلمة ولا تنتج إلا بنفس تلك الطريقة التي تستغلها الشريعة في خلق الصراع الدموي للقضاء على الخصوم وهي الفتوى.
مجرد شعور الشريعة بالقلق حول مصيرها أو تناقص أعداد مريديها ومؤيديها وخسارتها لأفرادها يبرز الوجه الأقبح والأكثر شراً، فهي لا يمكن أن تسمح بتسلل أفرادها من بين أيديها أو دخول منافس جديد لها في الساحة ودوام الحال محال وبالخصوص أحوال الميدان الفكري.
خلاصةً قد يكون إنتاج الشريعة للعنف التكفيري هو في سعيها لتحقيق أحلامها العقائدية لبناء دولتها وحكومتها وفرض مشروعها السياسي على معارضيها والجماعات والأفراد الذين لا توجد لديهم قناعات بجدوى مشروعها، فتسعى لفرضه فرضاً عليهم حيث يمكن إيقافهم بطريقةٍ قمعيةٍ تتجسد في العنف الناتج عن حكم التكفير.
استهداف حقيقة التكفير وكبت الحريات الفكرية والعقائدية التي يعتبر التكفير أحد جنبات هذه الحرية لا يحل مشاكل العنف الحاصلة في المنطقة والمؤثرة على العالم، فالتكفير ظاهرة طبيعية والمشكلة الحقيقية تكمن في الشريعة وسلاح الفتوى في إنتاج العنف والإرهاب عندما تتبناه الجماعات الدينية وتبني عليه تبريرات عنفها تجاه كل مخالفيها.