تعيش المنطقة العربية منذ بدايات الربيع العربي في العام 2011 وحتى الآن مخاضا هوياتيا عنيفا. فمع انتهاء أو قرب انتهاء، حقبة التحرر الوطني من الاستعمار والحكومات العسكرية، والمشيخات القبلية، والصراعات القديمة بين الجمهوريات والملكيات العربية التي بدأت في خمسينيات القرن العشرين. يدور السؤال حاليا حول الهوية العربية في أغلب الأقطار الناطقة بالعربية، خاصة في بلاد الهلال الخصيب والمغرب العربي والتي تحتوي بين مكونات سكانها أعراقا وقوميات مختلفة، حيث ترتفع أصوات منادية لنبذ فكرة القومية العربية واستحضار فكرة تبني قوميات بديلة.
لم يكن سؤال الهوية سؤالا جديدا على شعوب منطقتنا الناطقة بالعربية، ففي بدايات القرن التاسع عشر طُرح السؤال نفسه، ربما للمرة الأولى، وإن كانت الظروف مغايرة نوعا ما عن الآن. إن أي محاولة لاستشراف المستقبل تستدعي البحث في جذور الماضي، بحثا عن منطلقات، معوقات، وخصائص قد تسهم سلبا أو إيجابا في تشكيل مستقبل المنطقة، استعرض في هذا المقال بصورة بانورامية تاريخية جذور فكرة القومية العربية وتشكل الدول القومية العربية.
المنطقة العربية تاريخيا
تمتلك المنطقة “العربية” ميراثا حضاريا كبيرا، فعلى أرضها ظهرت أقدم الحضارات البشرية، المصرية القديمة، حضارات ما بين النهرين، آكد، سومر، فينيقيا، حضارات اليمن وغيرها. عرفوا الزراعة والعمارة والمدن المليونية، كما دانت تلك الأراضي وسكانها لأغلب الحضارات والإمبراطوريات الكبرى، فارسية، يونانية، رومانية حتى ظهور الإسلام. مع خروج وانتشار الإسلام من الجزيرة العربية للشام ومصر وباقي الأراضي في الشرق والغرب، بدأت الشعوب المغلوبة في تعلم العربية واعتناق الإسلام. رغم تداول السلطة غير السلمي بين الحواضر المختلفة دمشق، بغداد، القاهرة وتعدد القبائل والأسر الحاكمة من أموية وعباسية وفاطمية وأيوبية ومملوكية حتى استولى العثمانيون الأتراك على السلطة وانتقلت الخلافة خارج المنطقة العربية إلى الأستانة.
كانت اللغة والدين يعضدان فكرة الوحدة والتكامل بين شعوب المنطقة، لكن مع استيلاء الأتراك على الأراضي العربية في القرن السادس عشر وقرون من التبعية والاستغلال الاقتصادي للموارد البشرية والاقتصادية العربية، ومع ظهور فكرة القوميات الأوروبية وليدة الحداثة والتنوير بدأت تظهر فكرة القومية العربية كوسيلة في البداية للتحرر من المستعمر التركي ومقاومته.
ظهور فكرة الهوية العربية
في بدايات القرن التاسع عشر بدأت فكرة الهوية العربية في التبلور والظهور، خاصة لدى مسيحيي الشام، في الفترة نفسها شهدت مصر بناء محمد علي دولة قوية ذات جيش، ومن خلفه اقتصاد، قائمَيْن على أسس وقواعد أوروبية في مجملها. وكما حدث في النهضة الأوروبية التي عادت إلى التراث اليوناني السابق للمسيحية واستلهمته كمحور انطلاق جديد في عصري النهضة والتنوير الأوروبيين، فإن النهضة العربية رجعت إلى التراث اللغوي والأدبي العربي مع إحياء العربية الفصحى على حساب العاميات المحكية. لم يظهر مصطلح القومية العربية في البداية، استخدمت بديلا عنه مصطلحات قريبة كالنهضة العربية، يقظة العرب، التنوير للدلالة على التطورات التي تشهدها الأقاليم العربية مثل تونس، مصر، ولبنان. وظهور كيانات سياسية في تلك الأقاليم تعتمد الحداثة الأوروبية في بناء جيوشها واقتصادها إضافة لأسس قومية جديدة غير معتادة تنبذ الأساس الديني وتتمسك بالأساس القومي العربي ضد العثماني بالضرورة.
بحسب فيليب مانسيل في كتابه (القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم)، لم يكن واقع الحال في الإمبراطورية العثمانية طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر جيدا. كانت أوروبا تحرز انتصارات كبرى في مجالي الصناعة والعلوم، والدول القومية في أوروبا قد تشكلت، وبدأ التنافس الاستعماري الأوربي يتسارع حتى وصل إلى أركان العالم الأربعة، في الوقت الذي كانت فيه نظم الحكم والإدارة في الإمبراطورية العثمانية تثبت عدم قدرتها على مواكبة العصر، حتى المحاولات التحديثية التي تبناها السلطان محمود الثاني (1808-1839) وعصر التنظيمات بعد ذلك لم تنجح في الحفاظ على وحدة الأراضي العثمانية من المخاطر والتهديدات الداخلية والخارجية.
وعلى صعيد المجتمعات العربية داخل الإمبراطورية العثمانية، حسب ما أورد خالد زيادة في كتابه (لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب) سارت إرهاصات الحداثة وبدايات تشكل هوية عربية في مسارين متوازيين. فبينما عرفت مصر الحداثة وبدايات خلق الهوية المستقلة عن الإمبراطورية العثمانية عن طريق الدولة الجديدة التي بناها الوالي العثماني محمد علي. وإن كان هو نفسه يعتقد أنه يقدم نموذجا تحديثيا يجب أن يُحتذى به في الدولة العثمانية، كما يرى خالد فهمي في كتابه (كل رجال الباشا) إلا أن فكرة استقلال مصر وهويتها المتمايزة عن الدولة العثمانية دارت في ذهن ابنه وقائد جيشه “ابراهيم باشا”، حتى تجلت بوضوح بعد قرابة القرن في ثورة 1919 بقيادة الزعيم الشعبي سعد زغلول ومن بعده مصطفى النحاس باشا صاحب فكرة إنشاء جامعة الدول العربية 1942. أما بلاد الشام التي لم تعرف نظاما إداريا مركزيا كالذي عرفته مصر فقد أسهم مفكروها بجهد وافر في بلورة فكرة القومية العربية كهوية بديلة للفكاك من أسر الدولة العثمانية.
شاركت الحركة الأدبية بشكل رئيس في تلك النهضة العربية، وشكلت أعمال بطرس البستاني ورفاعة الطهطاوي حجر الأساس في بناء النهضة العربية إضافة للإصلاحيين الإسلاميين كمحمد عبده، رشيد رضا، جنبا إلى جنب مع العلمانيين كفرح أنطون وشبلي شميل، والجيل التالي كطه حسين وسلامة موسى. يمكن القول أيضا، إن مع وصول الاستعمار للبلاد الناطقة بالعربية، باتت الحاجة إلى القومية العربية والتمسك بها حاجة ملحة كسلاح حداثي في مواجهة الحداثة الأوروبية بنفس آلياتها الفكرية وأساليبها.
ظهور الدول القومية في الأراضي الناطقة بالعربية
في 19 نوفمبر 1914 انضمت الدولة العثمانية لدول المركز، ألمانيا والنمسا المجر، في الحرب العالمية الأولى وذلك بعد ثلاثة أشهر من بداية الحرب. حسب فيليب مانسيل في الكتاب سابق الذكر، رأت الدولة العثمانية التي كانت تشهد اضطرابات داخلية جمّة في تلك السنوات كالمناداة بالدستور وتحديث الدولة وصعود الروح القومية التركية وسيطرة جماعة الاتحاد والترقي على الحكم، أن دخول الحرب هو الضمانة الوحيدة لعدم تفتيت الدولة العثمانية، لكنها كانت بداية الانهيار التام للإمبراطورية.
لم يكن خافيا على دول الوفاق، روسيا وفرنسا والمملكة المتحدة، قرب انهيار الإمبراطورية العثمانية التي طالما تدخلت القوى الأوروبية لحمايتها حفاظا على توازن القوى داخل أوروبا. فبحسب صلح وستفاليا 1648، أول اتفاق سياسي داخل أوروبا يعترف بمبدأ سيادة الدول والذي أنهى حرب الثلاثين عاما في الامبراطورية الرومانية المقدسة وحرب الثمانين عاما بين إسبانيا و مملكة الأراضي المنخفضة المتحدة، والذي اعتبر الأساس السياسي لاستقرار الأوضاع داخل أوروبا. عملت الدول الأوروبية على حماية الدولة العثمانية من الانهيار حفاظا على توازن القوى داخل أوروبا،كانت آخر تلك التدخلات من قبل الدول الأوروبية لحماية الدولة العثمانية من أي تهديد عام 1940 حين تصدت لأطماع محمد علي والي مصر الذي تمكن من احتلال الشام وهزيمة الجيش العثماني في الأناضول قرب القسطنطينية.
وكما جرت العادة في الصراعات الدولية أن يرسم الطرف المنتصر الواقع الجيوسياسي لمنطقة الصراع ويفرض قواعده على الدول والإمبراطوريات المنهزمة، بدأت دول الوفاق في التشاور حول مستقبل الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى في القاهرة خريف 1915 (التي عرفت باتفاقية القاهرة السرية) ثم استُئنف التشاور في ربيع 1916 في سان بطرسبرج والذي كان نتيجته “اتفاقية سايكس-بيكو”، تلك الاتفاقية التي شكلت بنودها أغلب النقاط المتعلقة بالدولة العثمانية في معاهدة سيفر التي وقعتها دول المركز ومن بينها الدولة العثمانية، في أغسطس 1920، إقرارا بالهزيمة وتقبلا للواقع الجيوسياسي الجديد.
شكلت سنوات الحرب العالمية الأولى والسنين التي تلتها الفرصة الحقيقية -رغم الصعوبات وتعنت الدول الاستعمارية- لتشكيل كيانات سياسية جديدة أو تأكيدها والحفاظ عليها في العالم أجمع. في تلك السنوات نفسها نشطت الصهيونية في تثبيت أقدامها في الأراضي الفلسطينية في محاولة خلق دولة يهودية. كما كانت محاولة الشريف حسين، في الثورة العربية الكبرى 1916 المدعومة من بريطانيا لتأسيس دولة عربية في الشام والعراق هي المحاولة الأولى لخلق كيان سياسي ذي هوية عربية. كانت اتفاقية “فيصل – وايزمان” (بين ممثل المملكة العربية الحجازية الأمير فيصل وممثل المنظمة اليهودية حاييم وايزمان” التي تمت على هامش مؤتمر باريس للسلام 1919، هي أول إطار تفاهمي بين كيان عربي سياسي وكيان يهودي يتم فيه ضمنيا قبول قيام دولة يهودية في الأراضي العربية.
لم تكن الفكرة الديمقراطية كمكون من مكونات الحداثة العربية الوليدة قد ترسخت في وجدان كل الشعوب العربية الساعية للاستقلال بعد، فمن الملاحظ في مؤتمر باريس أن الوفد الممثل للشريف حسين بقيادة ابنه فيصل لم ينقل مطالب أهل الشام على العكس من الوفد المصري والذي واجه تعنت السلطة الاستعمارية البريطانية في مصر، كان وفدا بظهير شعبي ومطالب محددة والذي نال استقلال مصر عام 1922 وإن كان استقلالا منقوصا. وأيضا حاييم وايزمان ممثل يهود فلسطين في المؤتمر كان يحظى بظهير شعبي وينقل مطالب محددة.
احترمت كل من إنجلترا وفرنسا فيما بينهما مناطق نفوذهم في الأراضي العربية المتفق عليها في اتفاقية “سايكس- بيكو”. وبدأت من العام 1920 مرحلة جديدة في التعامل مع الواقع العربي في بلاد الشام والعراق الذي لم يسفر في سنوات الصراع والاضطراب السابقة عن كيان سياسي يعبّر عنه. أعلنت فرنسا الانتداب على أغلب بلاد الشام وطردت الأمير فيصل من دمشق بعد معركة صغيرة مع جيش من المتطوعين السوريين. لتبدأ فرنسا عملية تجريب جيوسياسي في المنطقة لمدة خمس سنوات. في البداية عام 1920 فصلت جبل لبنان والساحل وبعض المناطق المحيطة به عن باقي بلاد الشام مشكّلة لبنان الكبير كوحدة مستقلة. كما قسّمت باقي الأراضي السورية إلى دويلات صغيرة كدولة دمشق ودولة حلب ودولة جبل الدروز. وحين ثبت فشل رأي المندوب السامي هنري غورو الذي كان يدافع عن التقسيم، بحجة أن مجتمعات تلك الدويلات مجتمعات متمايزة ولا تربط بينها روابط حقيقية، أقيم الاتحاد السوري المشكل من ثلاث دويلات (دمشق وحلب ودولة جبل العلويين)، بعد ذلك أُعلن عن الدولة السورية عام 1925 وفي النهاية الجمهورية السورية الأولى عام 1932 التي نالت الاستقلال عام 1941. في فترة بداية الانتداب الفرنسي نفسها قامت بريطانيا بتعيين فيصل بن الشريف حسين، بعد هزيمته في سوريا، ملكا على العراق عام 1921 وفي الفترة نفسها تدخلت إنجلترا لتشكيل نظام حكم في منطقة شرق الأردن بعد إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين وتشكلت إمارة شرق الأردن عام 1923 وتعيين عبدالله بن الشريف حسين، أخي الملك فيصل ملك العراق وابن حليفهم السابق الشريف حسين بن علي أميرا عليها والتي تحولت بعد ذلك إلى المملكة الأردنية الهاشمية. في تلك الفترة عام 1917 كانت المنظمة اليهودية في فلسطين قد حظيت بوعد بلفور وبدأت حركة هجرة اليهود في التزايد وصولا للحرب العالمية الثانية التي شهدت النزوح اليهودي الأكبر إلى فلسطين ثم تأسيس الدولة اليهودية بعد ذلك.
أما الممالك الخليجية، فحسب ما أشار كريستوفر ديفدسون في كتابه ما بعد الشيوخ، فقد نشأت أغلب تلك الممالك، ما عدا سلطنة عمان ذات الماضي الإمبراطوري، في النصف الأول من القرن العشرين، برعاية بريطانية، على قيم قبلية عشائرية. حيث تتحكم قبيلة ما في مساحة جغرافية غالبا صغيرة، باستثناء السعودية، على ساحل الخليج العربي بدعم ورعاية بريطانية. وتقوم تلك القبيلة المسيطرة بشراء ولاءات القبائل الأخرى عن طريق توزيع القيم الإيجارية التي تدفعها إليها بريطانيا نظير استخدام موانئهم وأراضيهم أو مجالهم الجوي. وتجمع بريطانيا كل تلك القبائل الحاكمة معا عن طريق اتفاقيات ثنائية معها مما يسمح بإقرار السلام بين تلك القبائل وبعضها البعض وعدم نشوب صراعات بينية.
كما يرى دافيدسون أيضا أنه بعد الحرب العالمية الثانية وإعلان أغلب تلك الإمارات والممالك استقلالها. سعت الأسر الحاكمة، على الرغم من تبنيها الحداثة شكليا، إلى ترسيخ السلطة الأبوية عبر عدة آليات متوازية كاستخدام الميراث القبلي والسلطة الدينية مع التحكم في توزيع عائدات النفط. كما ساعدت طفرة أسعار النفط في سبعينيات القرن العشرين حكام تلك الممالك في تبني سياسات دولة الرفاه لرعاياها.
خاتمة
تسعى الشعوب العربية حاليا إلي الحرية والديمقراطية والسلام والتعايش السلمي، مع انتفاضات الربيع العربي بدءا من عام 2011 وحتى الآن ومع التأثر والتأثير المتبادل والسريع بين تلك الشعوب نتأكد أن ما يجمعنا أكبر مما يفرقنا، تاريخنا مشترك وجغرافيتنا واحدة، آمالنا وأحلامنا وآفاق مستقبلنا واحدة، ربما تحدينا الحالي الأصعب هو خلق هوية عربية جامعة متسامحة تنظر إلى مكونات الشعوب العربية واختلافاتها البينية كعنصر ثراء في صورة فسيفسائية جامعة. تحقق للمواطن الإنساني العربي ما يستحقه من كرامة وعدالة، حرية ورخاء.