وترجّل الفارس عن صهوة فرسه، وغادر دنيانا لكنه سيبقى حيًا في قلوب الأمة العربية، ذلك الرجل الهادئ الحكيم قابوس بن سعيد، الذي لطالما عهدناه ممسكًا بشعرة معاوية وممثلًا رمانة الميزان، إن التجربة العُمانية خلال حقبة قابوس، التي ينبغي أن نفهمها لفهم طبيعة سلطنة عُمان ودورها الإيجابي في المنطقة، لا يمكن تقييمها من خلال أسطر، لكن رحيل سلطان عُمان يجعلنا نتساءل بعفوية عن طبيعة خلفه، الذي نتمنى بألا يحيد عن سياسة سلفه، وأن يستمر مِشعل الحكمة العُمانية مضيئًا متوهجًا، في منطقة مضطربة تعمها التقلّبات، ويعد الحياد العُماني الذي يُضرب به المثل في الإيجابية، ليس وليد سياسة انتهجتها السلطنة في العقود الأخيرة فقط، بل أن الأمر متجذّر في طبيعتها منذ قرون مضت، فالحياد الإيجابي والدبلوماسية الهادئة يعبّر عنه بـ:
low profile
Friends of all, enemy of none
أصدقاء الجميع، أعداء لا أحد.
وجزء من هذا الموضوع مرتبط بالثقافة الإباضية، التي تنحدر من الفئة التي رفضت من قرون أن تأخد موقف مع الشيعة أو السنة واختار العمانيون أن يكونوا على الحياد، وبعكس المجتمعات المجزأة التي تصبح عرضة للتفكك والانهيار إذا تنوعت إثنياتها وطوائفها، فإن عُمان متماسكة بصورة جيدة رغم كل الاختلاف والتنوع في تركيبتها الديموغرافية، الغالبية من الشعب العُماني تنقسم بين الإباضية والسنة.
إن المذهب الإباضي لا يختلف كثيرًا عن السني في الشعائر، ويختلف معه في أشياء بسيطة أهمها بندان هما: خلق القرآن ورؤية الله، وهي أشياء غيبية في الأساس، ويوجد تركيبة إثنية/عرقية غنية أيضًا، من العرب والبلوش واللواتيين والأفارقة -(الزنجباريين) ذو أصول عمانية-، يتحدثون العربية والبلوشية والسواحيلية واللواتية والهندية، ويشكلون معًا فسيفساء مثيرة للاهتمام بكل ما تحمله تلك الثقافات من غنى وتنوع.
ورغم هذه التركيبة المثيرة للاهتمام، فهناك استقرار وسلام اجتماعي، والكل على قلب رجل واحد في ولائهم الكبير للدولة العمانية والسلطان، ولأن الدولة تعامل الجميع بمساواة وبلا استثناءات -إلا فيما ندر- فإن مناصب الدولة الحساسة يوجد فيها من كل القبائل والمجموعات العرقية، في العقدين الأخيرين انتهجت سلطنة عُمان سياسة خارجية حكيمة جدًا كما أسلفنا، وكانت خلف حلحلة أوضاع سياسية معقدة جدًا مثل اتفاق إيران النووي، ومفاوضاته السرية حدثت في مسقط و مفاوضات ولقاءات بخصوص اليمن، والتوسط لإطلاق سراح مختطفين وغيره.
لكن بالعودة للوراء فإن سلطنة عمان بدأت منبوذة عربيًا بعد انتفاضة 1970، عندما تقدمت السلطنة بطلب رسمي بانضمام عُمان للجامعة في مارس 1971، تم التعامل معه ببرود، رغم الجولات التمهيدية التي قادها المسؤولون العمانيون قبل ذلك لإذابة الجليد بين عمان ومحيطها العربي، ثم تأجل النظر في الطلب إلى حين تجاوز الرفض السعودي بعد ذلك بستة أشهر، الرياض امتنعت لاحقًا في العام نفسه عن تأييد طلب انضمام السلطنة للأمم المتحدة في الجمعية العامة، ولم تجد لها سندًا من بين 131 دولة سوى كوبا!
السلطنة التي لن تنسى تاريخيًا وقوف إيران إلى جانبها في وأد ثورة ظفار، في حين تجاهلت الدول العربية -باستثناء الأردن- دعوات مسقط لتوفير مظلة عربية عسكرية لحسم الصراع، واكتفت الجامعة بدلًا من ذلك بدور الوساطة بين مسقط وعدن كرد على الشكاوى العمانية مما لحق بقلعة حيروت، عُمان الدولة التي حسمت خياراتها السياسية منذ النشأة لصالح الانتماء العربي، دون أن تتجاهل مخاوفها بأن تتحول مظلة مجلس التعاون لأداة هيمنة سعودية، فاختارت الوقوف على مسافة واضحة من مشاريع الاندماج (الاتحاد الخليجي ومشروع الوحدة النقدية).
الدولة التي انحازت لحقائق التاريخ والجغرافيا بحتمية التعامل مع إيران، دون أن تمنعها العلاقات المتنامية مع الضفة المقابلة لمضيق هرمز، من الحفاظ على علاقات متوازنة مع بغداد، أو أن تمنعها حقيقة كونها أول من أطلق الدعوة لتعزيز التعاون الدفاعي الخليجي، من توقيع اتفاق تعاون دفاعي مشترك مع طهران في 2010 وإجراءات مناورات بحرية مشتركة في المحيط الهندي.
السلطنة ابنة الظرف التأسيسي المُركّب، والخبرة التاريخية المتنازعة بين قوتين، والجغرافيا المتصلة بعالمين متناقضين قيميًا، حجزت لنفسها من البداية دورًا أوحد: “الوساطة” لا سقوطًا في دوامة الاستقطابات، وعندما قطعت الدول العربية علاقاتها بمصر بعد اتفاقية كامب ديفيد، حافظت عليها السلطنة، وعندما تعرضت طهران لمقاطعة خليجية، قادت مسقط مبادرات رأب الصدع، وتندلع الحرب بين طهران وبغداد فتقف مسقط في المنتصف بعيدًا عن محاولات الرياض جرها لبؤرة المواجهة، وتقيم قنوات اتصال سرية بين الطرفين.
ثم قدّمت السلطنة نفسها كوسيط في الأزمة “القطرية الخليجية”، وأسهمت بخبرتها المتمرسة في تقريب وجهات النظر، وتخفيف حِدة التوتر بين الطرفين، ووجود سلطنة عمان في الخليج مهم جدًا لاستقراره، خصوصًا باستمرار النزاع في اليمن، والخلافات الإقليمية بين إيران والسعودية و قطر والسعودية.. إلخ.
لابدّ أن يكون هناك قوى عاقلة كنموذج، وطرف يتم اللجوء والاحتكام إليه، أو حتى كنموذج للتعايش يحتذى به، طبعًا يوجد نقاط ضعف أيضًا واختلافات وهذا طبيعي، لكن الشيء المهم أن المجال العام وطريقة تعامل الدولة مع مواطنيها تحترم الجميع، ولا تفرق بينهم وتحاول اجتذاب المخالف ومناقشته، و احتواؤه وليس التصادم معه وهذا انعكس أيضًا على الشعب.