في أدبيات البعث يُنظِّر ميشيل عفلق للاشتراكية البعثية على أنها عين ما أراده النبي محمد وأنها عصارة دينه الحنيف ولا تعني خروجاً أو مخالفةً للدين الإسلامي، العلمانية هي الأخرى لا تستغرب أن تسمع من ناشطٍ إخوانيٍ أو من أحد المرقعين الجدد عنها أنها روح الإسلام الحنيفة فهذا الرأي ليس بجديد، أو أن يحاول أن يبقي منها العنوان ويطبق تحتها الشريعة، ومرةً أخرى أيضا لا تستغرب.
لا تستغرب عزيزي القارئ من أن تسمع من شيوعيٍ مسلم ذات يومٍ أن الشيوعية هي الأخرى منتجٌ إسلاميٌ خرج من رحم الوحي والسنة. كُتُبُ الفيلسوف ابن سيناء في الطب تُدَرسُ منذ قرونٍ في الجامعات الأوروبية وابن الهيثم هو الآخر صاحب النظرية النسبية وعلم الضوء لا اليهودي آينشتاين هي ادعاءاتٌ أخرى عاريةٌ عن الصحة ولا يوجد كتاب في الطب عمره قرون يدرسه الطلاب للتطبيق كل هذه المدة حيث إن مضمار الطب مضمارٌ متحرك ومتجدد كما هي بقية العلوم إنسانيةً كانت أو تجريبية، فالعلوم ليست ديناً يبقى أسير كتابٍ لآلاف السنين.
هذه ليست مجرد آراءٍ فردية وإنما تعبئة ممنهجة أسهمت المؤسسة الدينية منذ أكثر من خمسة عقودٍ مضت في ترسيخها في الوعي العربي المصدوم أمام البعد الحضاري الشاسع الذي فاته في لحظة غفلة بينه وبين الغرب.
متلازمة الأسلمة المصطلح الذي نطلقه على هذه المشكلة التي تعاني منها الشعوب الإسلامية وتعتبر واحدة من الأسباب التي جعلت قوًى حضاريةً شرقية كبرى في العالم تصنف أفرادها المنتمين للدين الإسلامي بمرضى نفسيين والذي يمكن أن تكون متلازمة الأسلمة واحدة من هذه العقد النفسية التي تريد تلك الدولة الشعبوية حلها لأفرادها.
بغض النظر عن طرق التعامل معها أو إصدار المواقف تجاهها فالحديث فقط هنا يتمحور حول قضية الأسلمة فقط لا السلوك العالمي مع الشعوب المسلمة، الأسلمة التي أصبحت ظاهرة اجتماعية لا تزيد من الوعي العربي والإسلامي إلا مزيداً من حالات الانتشاء والتضخم الفخري بمنجزاتٍ فردية عفا عليها الدهر وتتهم الآخر بالجهل وهم يقعون في جهلٍ مركب.
أسلمة العلوم والشخصيات المؤثرة تاريخيا
يُعرَفُ أن أبا علي بن سينا وجابر بن حيان كانا كما يسميهما ابن تيمية وتلميذه ابن الجوزية ومعشر علماء السلف بالملاحدة والزنادقة القائلين بقدم العالم والمتجهين صوب علوم الفلسفة، ولكن الحاجة لرفع قيمة العقيدة والمحافظة على سطوة المعبد في عالمٍ أصبحت الأمة الإسلامية هي أكثر الأمم تخلفاً، جعل من الأمة الإسلامية تتسامح معه أو بتعبير أصح تُؤسلمهما، بل إن ذلك قليلٌ أمام تفاخر المسلمين ونسب فضلهم كدليل على أحقية منهجهم.
حيث إن الشيعة الاثني عشرية تدعي جعفريتهم ونسبهم إليها وتحاول إبراز ذلك كدليل حق مُبطن لها أمام السُنة والزيدية في إثبات أعلمية ولدنية علم أئمتهم وأحقية منهجهم، والمسلمون الفرس يجعلون ذلك مفخرةً لهم أنهم أضافوا للإسلام ما لم يضفه العرب إليه.
ولكن الأكثر طرافةً هو معرفة أن ابن سيناء كان وزيرا في دولةٍ شيعيةٍ إسماعيلية (الخصم القديم للجعفرية) في همدان وهي الدولة الفاطمية والأكثر غرابةً أنه كان بلخياً أفغانياً وله آراءٌ فلسفيةٌ مخالفة لصميم معتقدات المسلمين التي تجعله في حكم الكافر المرتد عندهم.ابن سيناء مصداقٌ بسيط من عقدة النقص الإسلامية تفاجئ المنفتح عليها كما يفاجئه أن يكتشف أن قضية إسلامية أولئك العلماء الذين تزخر بهم مناهج الأطفال في المدارس الإسلامية ليست إلا قضية تزويرٍ تاريخية كما هي الكثير من القضايا غيرها.
المضحك المبكي في آنٍ معاً أن كهنة المعبد الإسلامي وكهنته في زي التنوير لم يكتفوا بأسلمة شخصياتٍ تاريخيةٍ كان لها مساهمة في الميدان التجريبي والفلسفي، وإنما تحركهم الجاهلية والرغبة في المحافظة على مكانتهم الاجتماعية والروحية إلى إيهام الشعوب المسلمة أن علوم الغرب كانت نتاجاً عن الكتاب المقدس القرآن والحديث النبوي؛ الأمر الذي أسهم بشكلٍ مباشرٍ في تخلف الشعوب المسلمة وانصياعها التام للمؤسسة الدينية، هذه المؤسسة الدينية بصورها المختلفة واختلافاتها الجمّة اتفقت على هذه الحقيقة في أن علوم علماء الحضارة الإسلامية في الحقول التجريبية تعود أصالةً إلى القرآن والسنة ففي القرآن وحده علم كل شيء.
الأبعد من ذلك أن المؤسسة الدينية الإسلامية لم تقف عند هذا الحد مع مرقعيها، بل أوهمت الإنسان المسلم أن علوم الغرب اليوم هي سرقةٌ سرقوها من علوم المسلمين وغلبوا بها المسلمين بعد ترك المسلمين طاعة المعبد وتخاذلهم عن نصرة دينهم، في دراما هزلية خلقت في نفس الإنسان المسلم ذاتاً منفوخةً فخراً قصيرةً يداً، ورسمت في ذهنه عن المتعلم والمتنور الغربي صورة اللص الغبي السارق لعلم المسلمين والذي سيعيده المسلمون حال تطبيقهم التام للشريعة وفتح البلدان، ما جعل من الشعوب المسلمة أكثر الشعوب تخلفاً واستهلاكاً وأقلها انتاجاً وابتكاراً وأشدها تبعيةً وطاعةً للمعبد.
الأسباب والدوافع
الوعي العربي عموما والإسلامي عالمياً على وجه الخصوص مسلوب الثقة أمام الهوة الحضارية الواقعة بينه وبين شعوب وحضارات الشرق والغرب من حوله وواقعه السياسي الذي يعيشه، وفقدان الثقة بالنفس أصبح رديفاً لتعريف العجز الذي تعيشه الشعوب اليائسة تكوينياً قبل أن يكون يأسها اكتسابياً من حيث ارتباطها بالدين والمعتقد ووجود العذر لإرضاء الضمير أمام كل عثرة فشلٍ ومع كل سقوط بعدم جدوى الحياة وأنشطتها وأن أعلى ما ينفع فيها هو ما يغير من واقع المتدين بعد فراق الحياة في العالم الآخر.
الشعوب المسلمة تعيش أزمة انتقاصٍ للنفس تجبرها على استرضاء نفسها وسد عجزها بإلقاء اللوم على أسبابٍ وقضايا تافهة كتخلفها عن الجهاد أو أن العالم أجمع يتآمر على كلمة التوحيد، وفي بعض الدول المسلمة كتلك التي تطلق لفظ الإسلامية على اسم دولها، لم يقف الأمر فيها عند حد أسلمة الدولة والشعب المتنوع الطوائف، بل إلى أسلمة العلوم والفلسفة والثقافة والسياسة والسينما، بل إن الأمر ذهب أبعد من ذلك إلى أسلمة العادات والتقاليد والأيام والساعات والصحو والنوم حتى بلغ الأمر إلى أسلمة قضاء الحاجة في الحمام وتقسيمها بين إسلامية وكافرة.
هذا الشعور لم يعد مجرد حالةٍ عاطفية حضارية وإنما أصبحت مرضاً نفسياً تعيشه الشعوب المسلمة ينعكس على سلوكها اليومي ونظرتها لكل شيءٍ بلا استثناء بين إسلاميته وكافريته وحِلِّيَتِه وتحريمه، ونسب كل مثبتٍ علمياً إلى الموروث الإسلامي، كما أن نقص وقلة المساهمة المعرفية الإسلامية في الحضارة الإنسانية ماضياً وحاضراً والواقع السياسي والمعيشي التي تعيشه الشعوب المسلمة والعربية منها على وجه الخصوص هو الدافع الثاني لهذا الشعور الانتقاصي بعد دافع المعبد ورغبته في الحفاظ على مكانته وتوسيع نفوذه والتحكم في الوعي الإسلامي العام فهو المستفيد الأول من بقاء الحال على هذا الوجه واستمراره في تدجين الشعوب المتدينة وتكرارها وأخذ العبرة من مصير السلطة الكنيسية في الغرب حين نهض الوعي الغربي ووقف أمامها.