موضوع العلمانية من أكثر المفاهيم التي يساء فهمها، ولازال يثير اللغط والحيرة والالتباس في عالمنا العربي والإسلامي، ولا ندري في الحقيقة سبب هذه الحيرة والتوجس لدرجة أنها أصبحت فوبيا العلمانية ، العلمانية ببساطة لا هي أيديولوجية ولا عقيدة ولا منهج سياسي، ولا شيء من هذا القبيل، هي رؤية مبدئية بسيطة للعلاقة بين الدولة وما يتعلق بالاعتقاد، الدولة ليس لها دين، أي أن الدولة ليست مسيحية ولا إسلامية، لا تتبع أي دين أو مذهب.
علام تستند العلمانية؟
باختصار شديد يمكننا إيجاز مفهوم العلمانية في التالي:
- الدولة تأخذ مسافة واحدة من كل الأديان.
- الدولة علمانية والأفراد لهم الحق في أن يعتنقوا الدين أو لا يكون لهم دين.
- يجب على كل إنسان أن يتمتع بحرية العقيدة.
- الدولة تحترم كل الأديان، وعليها أن تُؤمّن لكل فرد أن يمارس دينه.
- يجب أن يشعر الجميع بالأمان.
- حتى من لا يؤمن بالدين ينبغى للدولة أن تحترمه.
- لو اتفقنا على كل ما سبق في المفهوم، نستطيع القول إن نصْفَ مشاكلنا في طريقها للزوال.
ابن رشد وجذور العلمانية الأوروبية:
من المُسلم به في تاريخ الفكر الأوروبي الوسيط والحديث، أن فكرة العلمانية نشأت وتطورت لدى مفكري التنوير الأوروبيين، ابتداءً من القرن الثاني عشر، بناءً على أفكار ابن رشد حول الاتصال بين الحكمة “الفلسفة” والشريعة “الدين”، التي بثها في مؤلفه الفقهي الفلسفي (فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة الشريعة من الاتصال).
حسب ابن رشد فإن هدف الدين وهدف الفلسفة واحد: الحياة الفاضلة، لكن طرقهما مختلفة، فالفقهاء يصلون إلى الحقيقة عن طريق الجدل والخطاب، والفلاسفة يصلون للحقيقة عن طريق البرهان والمنطق، لكن هذه ليست الفكرة الأهم والأخطر في فكر ابن رشد، فعندما ناقش ابن رشد ما الذي يجب أن نفعله عندما يكون هناك تعارض بين العقل والنقل، كان رأيه واضحًا وصارمًا أن العقل يجب أن يكون هو الحكم، لأن التعارض ناتج عن اختلاف في التأويل.
فيما بعد تحولت نظرية ابن رشد حول الحقيقة الواحدة إلى نظرية الحقيقتين، وبالتالي الفصل بين الحقيقة الدينية والحقيقة العلمية، أو بمعنى أوسع الفصل بين الكنيسة والدولة، أو باختصار “العلمانية”، بالتالي فقد طور الفلاسفة الأوروبيون من تلاميذ ابن رشد نظرية الحقيقتين، فقالوا بوجود “حقيقة دينية” و”حقيقة علمية”، وأن لكل حقيقة وجودها المستقل، وبالتالي لا ضرورة للتوفيق بينهما، وإنما الاعتراف باستقلالهما وشرعيتهما، هذا الفصل بين الحقيقتين مهد الطريق للأفكار الفلسفية الجريئة، التي كانت تناقض ما جاء في الكتب المقدسة، وحررت العلم من سيطرة المسيحية واستبدادها، واستقبل العالم الأوروبي أفكار ابن رشد بحفاوة وبنى عليها أسس نهضته.
بواكير العلمانية في الإسلام
إن تحدثنا عن محاكاة العلمانية -بمعناها الحديث- في ظل الحكم الإسلامي، فسنكتشف مفاجأة كبرى لا تخطر على البال ولا على الخاطر، بل حقائق لن يتقبلها العامة والدوغمائيين. بواكير العلمانية في الإسلام كانت في عصره الأول، تحديدًا في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.
عمر بن الخطاب كان براغماتيًا صرفًا، فقد ألغى بعض الحدود وعطل العمل بالعديد من النصوص، وفقًا لما ترتأيه المصلحة العامة، وعملًا بالمبدأ النفعي: “ما لله لله، وما لقيصر لقيصر”.
- تعطيله بعض النصوص والحدود:
ألغى عمر بن الخطاب سهم المؤلفة قلوبهم، بذريعة أن الإسلام بلغ من القوة والتمكين ما يجعله بغير حاجة لأولئك الذي أسلموا عن غير اقتناع، وحصولهم على الأموال لعلوّ مكانتهم في قومهم.
كما أسقط حد قطع يد السارق بعد حدوث مجاعة وانتشار السرقة، كما ألغى زواج المتعة.
غني عن التعريف أن كل ما سبق له سند ثابت في القرآن.
- تثبيت أبو بكر:
بينما كان النبي محمد يلفظ أنفاسه الأخيرة، كان النبي يريد تسجيل وصية أو نقل كلام عنه بحسب وصف المؤرخين، ولكن عمر تجاهل دعواته قائلًا: “دعوه فإنه يهجر” أي يهذي.
وفي حين احتدم الخلاف في سقيفة بني ساعدة في من يخلف النبي، قام بتثبيت أبي بكر متجاهلًا دعوات الصحابة الذين طالبوا بالخلافة لعلي بحكم صلة القرابة وأفضلية آل البيت.
- رضوخ علي وقبوله الأمر الواقع:
علي بن أبي طالب لم يتقبل مسألة ظفر أبي بكر بكرسي الحكم، فلم يبايعه وظل على موقفه الرافض هذا ستة أشهر كاملة، إلى أن حسم عمر بن الخطاب هذا الجدل، وتحت وطأة التهديد بالسيف والتهجم عليه في منزله من قبل عمر، وافق علي على مبايعة أبي بكر كخليفة للمسلمين.
- قمعه للانتفاضات والمكائد:
سعد بن عبادة زعيم الأوس والخزرج “الأنصار”، وهؤلاء لهم صولات وجولات في نصرة الإسلام وتقوية شوكته بالبذل بالمال والنفس، وهم الذين آخى النبي بينهم وبين المهاجرين، كان زعيمهم سعد يطمح لخلافة النبي عقب وفاته، مدللًا بالقول إنه لولا تضحيات قومه لما قامت لهذا قائمة، وبذلك فهو أحق الناس بالخلافة، ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي سفنه، وعندما حز في نفسه اختيار أبي بكر، أراد المغادرة صوب الشام لتحضير جيش جرار لغزو موئل الإسلام، ولكن عمر تنبه لهذا، فأمر بتصفيته، ثم تم تسجيل القضية ضد مجهول، وادعت الجن أنها من قتلت سعد، وأنشدت أبيات شعرية: “قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة .. ورميناه بسهم فلم يخط فؤاده”
عمر بن الخطاب حاكم عظيم، ويعتبر من أعظم شخصيات الإسلام رفعةً ومقامًا، وهو من بين أكثر 100 شخصية تأثيرًا في تاريخ البشرية، بحسب تصنيف الكاتب الإنجليزي مايكل هارت في كتابه الشهير: قائمة 100 لأكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ.
فإذا كان عمر قد اجتهد، ولم يعمل بالنقل بل بالعقل، وفي عديد الحالات وفقًا لما تقتضيه المصلحة، وهو الخليفة الذي حكم بعد موت النبي بسنوات قليلة فقط، فكيف يكون حالنا نحن الذين نُصر إلى اليوم على تغليب النقل على العقل، رغم كل المتغيرات والمستجدات التي طرأت بعد مرور 1400 سنة على ولادة الإسلام؟
التخوّف من العلمانية
هناك الكثير من الناس يجهلون الفرق الشاسع بين العلمانية المتشددة والعلمانية الليبرالية، لذا تجد المتخوفين من العلمانية عند أي نقاش حول النظام العلماني، يستشهدون بأمثلة لأنظمة استبدادية مؤدلجة حاربت الدين وقمعت الحريات الشخصية وحقوق الإنسان، كالاتحاد السوفييتي والصين الشيوعية، كوريا الشمالية، كمبوديا في عهد بول بوت، الأنظمة العربية البعثية.. إلخ.
العلمانية المتشددة تعني فصل الدين عن الحياة، ولعل التجربة السوفييتية مطلع القرن العشرين خير مثال على ذلك.
فبعد نجاح الثورة البلشفية بقيادة فلاديمير لينين ورفاقه، بدأ الشيوعيون بانتهاج سياسة عزل الدين عن جميع نواحي الحياة، مستندين على التعاليم الماركسية المادية التي تنظر للأديان على أنها أفيون الشعوب، وأحد أعراض الإدراك الخاطئ وعائق أمام الاشتراكية العلمية.
وبعد وفاة لينين واصل هذه الحملة المنظمة الدكتاتور جوزيف ستالين بصورة أكثر قسوة وشراسة، حيث تم إجبار الشعب الروسي على الإلحاد من خلال هدم الكنائس وإعدام حوالي 40 ألف كاهن و40 ألف راهب وراهبة، الأمر الذي جعل الأرثوذكسية على وشك الفناء خلال 10 سنوات فقط من بدأ هذه الحملة، وهو ما عجز عن فعله المسيحيون الكاثوليك وكذلك المسلمون خلال ألف عام!
أما العلمانية الليبرالية فهي التي تفصل الدين عن الدولة ومؤسساتها فقط، وتلتزم الحياد تجاه الدين مع جعل حرية الاعتقاد والضمير مكفولة لكل فرد، والحفاظ على حقوق الأقليات العرقية أو الدينية، من خلال المساواة بين الجميع أمام القانون، وهناك الكثير من الأمثلة للدول التي تنتهج العلمانية الليبرالية أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا والسويد.
تأثير الدين ودوره في السياسة:
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية قام ستالين بتغيير موقفه تجاه الدين 180 درجة، حيث تحالف مع الكنيسة الأرثوذكسية، لأن المسيحية هي من جسدت الثقافة والشعور القومي لدى الروس لا الشيوعية، وبعد الانتصار في الحرب العالمية عاود النظام الاستبدادي الاضطهاد والقمع، واستمر هذا الوضع إلى أن سقطت الشيوعية نهاية عقد الثمانينات من القرن العشرين.
كما ظهرت كلمة “الله” لأول مرة في النشيد الوطني لروسيا الاتحادية مطلع التسعينات، بعد أن كان المجتمع السوفييتي خاليًا من الرب خلال الحقبة الشيوعية والتي استمرت لـ70 عاماً، بالتالي أثبتت التجربة الشيوعية السوفيتيية فشل هذه الأيديولوجية، إذ من الخطأ الجسيم إجبار الناس على ترك شيء يؤمنون به، ومحاولة انتزاع الدين من وجدانهم، في المقابل أثبتت العلمانية الليبرالية أنها النظام الأنسب للإنسان، لاحترامها الحريات الشخصية والعامة.
هل العلمانية هي الحل؟
من حيث المبدأ فإن التجارب والعِبر المستخلصة من التاريخ البشري، تؤكد زيف الشعارات الأحادية من عينة:
“الإسلام هو الحل، العلمانية هي الحل، الشيوعية هي الحل، الإشتراكية هي الحل، النازية هي الحل، إلخ.. من الأفكار والإيديولوجيات”.يفترض القول إن مبدأ فصل الدين عن الدولة، أحد أهم أسباب تقدم المتقدم وتأخر المتأخر، لكن في بلدان يتفشى فيها الفساد الإداري، وترتفع فيها نسبة البطالة والأمية والفقر، مع نسبة خصوبة عالية مقارنة بمواردها المحدودة، فاسمحوا لي بالقول إن العلمانية في ظل هكذا ظروف لن تفيد بأي شيء، مثلها مثل أي نظام سياسي آخر.
على سبيل المثال، مستشار سوفييتي كان يعمل في اليمن الديمقراطي -جنوب اليمن سابقًا- قال:
“كنت أتشاور مع المسؤولين السوفييت عن جدوى تطبيق الإشتراكية، في بلد ترتفع فيه نسبة الأمية، ولا يتوفر لديهم مجاري الصرف الصحي، ولا يعرفون من الاشتراكية العلمية سوى القائد لينين!”.
مثال آخر دول كفنزويلا وكوريا الشمالية وكوبا وجنوب السودان، هي دول علمانية ولكنها تعاني الفقر والفساد وقمع الحريات، والسؤال هنا: هل نفعت العلمانية هذه البلدان؟
هذا يفضي بنا إلى حقائق من الواقع لا يمكن تجاهلها:
- ليست كل الدول العلمانية دول متقدمة.
- كل دولة متقدمة هي دولة علمانية.
- كل دولة دينية هي دولة متخلفة.
في النهاية نخلَص إلى قناعة تامة بأن العلمانية وسيلة وليست غاية.