ينظر العرب غالبا إلى كتابات المستشرقين بعين الريبة. ربما لأن الاستشراق ارتبط في الأساس بالحقبة الاستعمارية. أو بسبب الموضوعات الحساسة التي يفضل المستشرقون مناقشتها والمتعلقة بالبنى الثقافية ومرحلة التأسيس في الإسلام إلى جانب انشغالهم بإعادة قراءة وتحليل النص الديني بحسن أو بسوء نية، لكننا في تلك المرة أمام قراءة استشراقية جديدة، قراءة تضع المستقبل – لا الماضي – نصب أعينها. هذا التغير في توجه أعين المستشرقين إلى مستقبل دول الخليج مرجعه تحول الممالك الخليجية في عصر النفط إلى قوة دولية فاعلة ولاعب أساس في السياسات الدولية، من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب المنشغل بمصير الممالك الخليجية والدور الذي تلعبه في السياسة الدولية. حيث يري د. كريستوفر ديفيدسون الباحث في شئون الشرق الأوسط بجامعة درهام ببريطانيا في كتابه “ما بعد الشيوخ ” أن الممالك الخليجية لن تصمد في المستقبل القريب. على الأقل في شكلها الحالي.
مرحلة التأسيس
نشأت أغلب تلك الممالك، في النصف الأول من القرن العشرين، برعاية بريطانية، على قيم قبلية عشائرية. حيث تتحكم قبيلة ما في مساحة جغرافية غالبا صغيرة، باستثناء السعودية، على ساحل الخليج العربي بدعم ورعاية بريطانية. وتقوم تلك القبيلة المسيطرة بشراء ولاءات القبائل الأخرى عن طريق توزيع القيم الإيجارية التي تدفعها إليها بريطانيا نظير استخدام موانئهم و أراضيهم أو مجالهم الجوي. وتجمع بريطانيا كل تلك القبائل الحاكمة معا عن طريق اتفاقيات ثنائية معها مما يسمح بإقرار السلام بين تلك القبائل وبعضها البعض وعدم نشوب صراعات بينية.
بعد الحرب العالمية الثانية وإعلان أغلب تلك الإمارات والممالك استقلالها. سعت الأسر الحاكمة، على الرغم من تبنيها الحداثة شكلياً، إلى ترسيخ السلطة الأبوية عبر عدة آليات متوازية كاستخدام الميراث القبلي والسلطة الدينية مع التحكم في توزيع عائدات النفط. كما ساعدت طفرة أسعار النفط في سبعينيات القرن العشرين حكام تلك الممالك في تبني سياسات دولة الرفاه لرعاياها.
أسباب البقاء
تعددت، وفقا لديفيدسون، أسباب بقاء تلك الممالك الخليجية وتجنبها للمد القومي العروبي والتغييرات الجذرية التي شهدتها باقي الدول العربية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، داخليا حافظ الحكام على العقد الاجتماعي الشفهي بينهم وبين رعاياهم. فالحكومات التي تدير البلاد تستند إلى سلطة أبوية. حكومات لا تمثل المحكومين ولا تخضع للمساءلة أمامهم شريطة أن تقوم هي بتوزيع الثروة على رعاياها عبر عدة آليات اقتصادية ريعية.
أهمها نظام الكفالة الذي يتيح للمواطن كفالة أي شركة أجنبية ترغب في العمل في السوق الوطني نظير حصة من الأرباح يتقاضاها الكفيل/المواطن دون أن يقدم أي عمل فعلي. إلى جانب توزيع الأراضي وقروض بناء ميسرة ومن ثم يمكن للمواطن تأجير تلك المساكن للعمالة الوافدة. إضافة لمميزات دولة الرفاه من تعليم مجاني ورعاية صحية وقروض ميسرة للإسكان وقروض الزواج والهبات الملكية لضمان الولاءات الشخصية والقبلية للحاكم.
كل هذه الآليات تتيح للدولة ضمان استمرارها وعدم قيام أي منظمات مجتمع مدني فاعلة. “فالدولة توزع الثروات بدلا من أن تكون منتزعا لها”.إلى جانب الآليات الاقتصادية كانت الثقافة آلية أخرى لضمان البقاء. بدءا من استخدام الدين ودعم المؤسسات الدينية لقطع الطريق على أي جماعة دينية معارضة. والتركيز على خلق هوية وطنية واعتماد زي وطني محظور على الوافدين. مع السيطرة على الزواج بين المواطنين وغير المواطنين. وسعي الحكام باستمرار إلى تصوير أنفسهم كحكام معبودين عبر التأكيد علي ألقابهم الملكية وصورهم الشخصية التي تعكس قوتهم وأحيانا رحمتهم وتسامحهم والتركيز علي مهاراتهم الرياضية وحبهم للتراث القبلي والتاريخي.
أما على مستوى الشئون الخارجية، فآليات بقاء تلك الممالك تمحورت في عدة نقاط أبرزها
التأكيد على مناهضة إسرائيل وخلق روابط جيدة مع الفلسطينيين، نظرا لتعاطف أغلب السكان مع القضية الفلسطينية. والبقاء جنبا الي جنب مع الحكومات القومية العربية.
كما تحرص الممالك الخليجية على توزيع البعض من مواردها على دول الجوار والدول الإسلامية الأخرى في شكل هبات ومشروعات تنموية وأحيانا قروض طويلة الأجل أو منعدمة الفائدة.
وتشكل استثمارات الممالك الخليجية وصناديقها السيادية الساعية باستمرار لضخ ثروات ضخمة في أسواق الدول الغربية الحليفة لها سببا آخر من أسباب البقاء إضافة الى الدعم السخي إلى مراكز أبحاث وجامعات ومتاحف غربية في محاولة للتحكم بشكل غير مباشر في الموضوعات المطروحة للبحث والنقاش. وتجنب الموضوعات الحساسة المتعلقة ببنية الممالك الخليجية أو سياساتها غير الديمقراطية.
الضغوطات المتصاعدة
كما هي أسباب البقاء يعتقد ديفيدسون أن الممالك الخليجية الست تواجه ضغوطات متصاعدة داخليا وخارجيا.
داخليا، أمام تناقص احتياطيات البترول، وارتفاع أنماط استهلاك الطاقة والزيادة السكانية الأعلى تقريبا في العالم، لن تتمكن الممالك الخليجية من الحفاظ على مستويات الرفاهية التي يتمتع بها مواطنوها. كما تشهد ارتفاع معدلات البطالة سواء الطوعية أو غير الطوعية. مع انعدام الشفافية والاستمرار في التبذير الحكومي على مشروعات عديمة الفائدة الاقتصادية كشراء أندية كرة قدم أوروبية، وبناء ناطحات سحاب بقوة تشغيلية لوحداتها السكنية والإدارية ضعيفة. وإنشاء شركات طيران متعددة رغم ضعف سوق الطيران في الخليج بدلا من إنشاء شركة واحدة تجمع الدول الست كما كان يفترض وقت تأسيس شركة طيران الخليج. إلى جانب التمييز ضد المواطنين الشيعة والبدون (الذين لا يحملون الجنسية). إلى جانب تواجد قواعد عسكرية سرية وعلنية للدول الغربية في ممالك الخليج. الأمر الذي يثير حفيظة المواطنين خاصة مع ما يستشعرونه من محاباة حكوماتهم للأجانب داخل بلادهم.
وخارجيا، يشير المؤلف إلى تغير ملحوظ في سياسات الممالك الخليجية فبدلا من الحفاظ على صورتها النمطية التي شكلتها السياسة الخارجية عبر عقود كدول داعمة للسلام ومحايدة. تتدخل كثيرا بعلاقاتها وقدراتها المالية لحسم الكثير من النزاعات في العالم. إلى دول تجاهر بالعداء الصريح لإيران وتلوح أحيانا باستعدادها للحرب. كما يشير إلى العلاقات الخليجية الإسرائيلية المتنامية ضد رغبة المواطنين.
والأهم من ذلك هو عدم ثقة الممالك الخليجية ببعضها البعض. والنزاعات الحدودية كالنزاع بين أبو ظبي والسعودية. وبين عمان وإبوظبي. مع دعم بعض هذه الدول لانقلابات القصور في الدول الأخري. وفشل مجلس التعاون الخليجي في أن يكون قوة سياسية واقتصادية إقليمية حقيقية على غرار الإتحاد الأوروبي. بعدما فشلت عملته الموحدة.
الإنهيار المقبل
يعتقد ديفيدسون أن تلك الممالك ، بدلا من دعم ظهور قوى مدنية تحديثية أكثر وعيا ، سعت الي السيطرة والتحكم في هذه القوى من أجل دعم الدولة – لا المجتمع – والأسر الحاكمة بشكل مباشر. ومن أجل ذلك عمدت الى تدريس التاريخ بصورة مشوهة أو مغلوطة ، اضافة الي غياب بعض مجالات العلوم السياسية والقانون في جامعاتها الأمر الذي ساهم في تخريج الكثير من الدارسين غير المتعلمين . مع فرض رقابة صارمة على الأجانب. كل ذلك لم يمنع المواطنين في عصر الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي ، رغم محاولات الحجب والتضييق ، من فرض كثير من التساؤلات عن فساد حكوماتهم وتبذير الحكام.
ووفقا لديفيدسون اختارت الممالك الوقوف في الجانب الخاطئ من التاريخ حين ناهضت الثورات العربية وقدمت الدعم والحماية للحكام المخلوعين في محاولة منهم لحسر الثورات العربية خارج أراضي جزيرة العرب. وعلى المستوى الداخلي صعّدت من القمع ضد الجماعات والأفراد المنادية بالحريات والديمقراطية. كما دعمت الممالك الغنية تلك الممالك الأقل حظا كسلطنة عمان والبحرين ماليا وعسكريا كما في حالة الأخيرة ضد مظاهرات شعبية تنادي بالإصلاح حدثت في العام 2011. في المقابل اعتمدت زيادة المعونات الإجتماعية لشراء صمت مواطنيها بعد البطش بالمعارضين.
في النهاية يعتقد المؤلف أن أي حركة احتجاجية قوية في أي مملكة من الممالك الخليجية ، خاصة السعودية ، بحكم كونها الأكبر والأغني ، ستنتشر سريعا في الممالك الخمس الأخرى. كما حدث في الجمهوريات العربية. خاصة بعد تآكل الفوائض الماليه ، نتيجة سياسات التقشف الحالية من رفع الدعم علي المحروقات واقرار ضرائب على المواطنين لأول مرة في الكثير من تلك الممالك ، تلك الفوائض التي استخدمت بعد الربيع العربي كمسكنات للشعوب خشية اندلاع ثورات كبرى تطالب بتغييرات جذرية.