يمثل الجنس في الثقافة العربية الإسلامية واحدا من أكبر المعضلات الاجتماعية. فبصفته التابو المسكوت عنه والأكثر تجريما فنادرا ما يتصدى لدراسته علماء الاجتماع نظرا للصعوبات التي تواجه الباحث في جمع عيناته أو استكمال بحوث استطلاعه بحرية، خاصة فيما يتعلق بمجتمعات النساء، من هنا تأتي أهمية عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي ( 1940-2015). بصفتها واحدة من الجيل الأول من السوسيولوجيين العرب في مرحلة ما بعد الاستعمار الذين تصدوا لدراسة الجنس في مجتمعاتنا العربية.
تحاول المرنيسي في كتابها “ما وراء الحجاب.. الجنس كهندسة اجتماعية” وهو مختصر لأطروحة تقدمت بها لنيل درجة الدكتوراة عام 1973، توضيح ديناميكية العلاقه بين الجنسين في المجتمعات الإسلامية. عن طريق تفكيك مفهوم الجنس والوقوف حول دور المرأة داخل العلاقة الجنسية. إضافة لمحاولة تحديد وظيفة الغرائز في العقلية العربية والإسلامية للوصول لفهم أعمق لمشكلاتنا المعاصرة.
تبدأ الكاتبة بالإشارة للاختلاف بين التصورين المسيحي والإسلامي لوظيفة الغرائز. حيث يقترب الأخير من المفهوم الفرويدي لليبيدو (اللذة المستندة إلى شهوة حسية، وهي الطاقة النفسية الأساسية للكائن الحي). في التصور المسيحي يعاني الفرد جراءه تمزقا بين نقيضي الخير والشر ، الجسد والروح ، الغريزة والعقل. أما في التصور الإسلامي فالغريزة تشكل طاقة خالصة. لا تكتسب قواها الخيرة أو الخبيثة إلا حين التعامل معها من منظور اجتماعي. فمثلا غريزتي الاعتداء والشهوة الجنسية قد تكونان إيجابيتين وتسهمان في بناء المجتمع الإسلامي إذا وجهتا الوجهة السليمة أو سلبيتين تعملان على تقويض البناء المجتمعي إذا صرفتا بصورة سلبية. تحاول المرنيسي بعد ذلك تبين كيف أدمج الإسلام الغريزة الجنسية في النظام الإسلامي لتسخيرها في خدمة الله. حيث تستشهد بما قاله الغزالي في كتابه ” إحياء علوم الدين ” الذي وضح فيه التناقض بين الشهوة الجنسية والنظام الاجتماعي. يقول الغزالي ” إن الشهوة إذا ما غلبت ولم تقاومها قوة التقوى ، جرّت إلى اقتحام الفواحش ” أما إذا ما سخرت لخدمة الله والفرد في الدنيا والآخرة فإنها تسمو بالوجود على الأرض وفي السماء.
تقول المرنيسي عن وظيفة الغرائز في النظام الإسلامي ” الفرد لا يحيا إلا داخل نظام اجتماعي، وكل نظام اجتماعي يفترض مجموعة من القوانين التي تحدد ما إذا كان استخدام الغرائز قد أخذ وجهته الحسنة أم القبيحة، وبالتالي فإن طريقة استعمال الغرائز هي التي تفيد النظام الاجتماعي أو تضر به وليس الغرائز في حد ذاتها. ويترتب على ذلك أن الفرد في النظام الإسلامي غير مجبر على التخلص من غرائزه أو التحكم فيها مبدئيا، بل إن المطلوب منه هو ممارستها تبعا لما تفرضه الشريعة فحسب”. فوظيفة الغريزة الجنسية في المجتمع الإسلامي محددة في هدفين: استمرار الجنس البشري، وتذكير دائم بنعيم الجنة. عن طريق اللذة الوقتية المستولدة من الشهوة الجنسية. ونظرا لتلك الطبيعة الازدواجية الأرضية / السماوية للغرائز تطلب الأمر وجود نظام إلهي لضبط تلك الغرائز وهو ما لجأ اليه الرسول كإحدى الوسائل الرئيسة لإقامة نظام اجتماعي جديد في الجزيرة العربية الجاهلية والمتحررة جنسيا آنذاك.
وفي التساؤل حول دور المرأة في الحياة الجنسية هل هو فعال أم سلبي؟ ترفض الكاتبة ما ذهب إليه جورج مردوك في تقسيمه للمجتمعات حسب طريقتها في ضبط الغريزة الجنسية. من أن السبب في التفرقة بين المجتمعات التي تفرض احترام الضوابط الجنسية والمجتمعات التي تلجأ إلى حوافز الاحتياطات الخارجية، كقواعد السلوك القائمة على التفرقة بين الجنسين. لا يرجع إلى ميكانيزمات التعميق الداخلي للقواعد الصارمة وقت التنشئة بقدر ما يعود إلى تصور دور المرأة لكل منهما في الحياة الجنسية. فالمجتمعات الإسلامية التي تسعى لفرض عزلة على المرأة تتصور ضمنيا أن للمرأة دورا فعالا. أما المجتمع الذي يفرض ضوابط جنسية على المرأة فيرى دورها سلبيا.
وترى الكاتبة أن هناك تناقضا بين نظريتين إحداهما علنية والأخرى ضمنية عن الحياة الجنسية في المنظومة الإسلامية. نظرية علنية تفترض أن دور المرأة سلبي تتشابه مع النظرة الفرويدية لدور المرأة في العلاقة الجنسية وأخرى ضمنية في اللاوعي الإسلامي. يمكن استنباطها من الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين تقول: إن الحضارة مجهود يهدف إلى احتواء سلطة المرأة الهدامة والكاسحة لذلك يجب ضبط النساء لكي ينصرف الرجال إلى واجباتهم الاجتماعية والدينية. ففي النظرية الضمنية المرأة فعّالة وإن كانت هدامة تقوم بدور الصياد والرجل هو الفريسة السلبية. لذلك وجب احتواء المرأة عن طريق مؤسسات ذكورية مهيمنة من بينها الفصل بين الجنسين وتعدد الزوجات.
تؤكد بعد ذلك على وجود فارق جوهري بين النظرة الفرويدية الغربية المسيحية والنظرة الإسلامية للعلاقة بين الحضارة والجنس فتقول: “تختلف النظرة الإسلامية عن التسامي اختلافا جذريا عما نجده في التقليد الغربي المسيحي كما تصوره النظرة الفرويدية في التحليل النفسي. فالحضارة لدى فرويد حرب ضد الجنس، وهي طاقة جنسية حرفت عن هدفها الجنسي نحو أهداف اجتماعية سامية لم يعد لها طابع جنسي. والحضارة في النظرة الإسلامية نتيجة لإشباع الطاقة الجنسية، فليس العمل نتيجة للحرمان الجنسي، ولكنه نتيجة لممارسة جنسية مشبعة ومنظمة.
من هنا يأتي دور تلك التنظيمات الجنسية الجديدة في عهد الرسول محمد من الفصل بين الجنسين وتعدد الزوجات وإبطال بعض أنماط الزواج التي كانت منتشرة في الجاهلية كزواج المتعة والاستبضاع وزواج الرهط في توجيه طاقة المجتمع وجهة بناءة كما أسهمت تلك التنظيمات في انتقال مجتمع الجزيرة من مجتمع شبه أمومي إلى مجتمع أبوي بامتياز. كما ركزت اهتمام المجتمع على أهمية الأبوة البيولوجية ومنظومة الأسرة التي بدورها أسهمت في خلق وترسيخ مفهوم الأمة ضد مفهوم القبيلة، وتغطي الفصول الأخيرة من الكتاب البحث السوسيولوجي الميداني الذي قامت به الكاتبة في بادية المغرب ومدنها. محاولة تتبع تأثير مفاهيم الحداثة الغربية في تلك المجتمعات. كتحدي المرأة للتمييز الجنسي وغزوها للمجال العام وسوق العمل، والصعوبات الاجتماعية والاقتصادية ودورها في تحديد أطر التمايز والاندماج وديناميكية العلاقة بين الجنسين.
تقول المرنيسي في الخاتمة “إن القضاء على التمييز بين الجنسين يخلق ضغوطا جديدة ويؤدي الى قلق متجدد، فالحدود التي تقسم المكان وتفرض نوعا من التوزيع في السلطة بين الجنسين غدت ملتبسة، مما يتطلب من الرجال والنساء على السواء تلاؤما جديدا باعثا على القلق. وعلى الرغم من الصعوبات والضغوط والمواجهات المؤلمة التي يعيشها الرجال والنساء في المغرب راهنا، هناك جديد يتمثل في الزوجين اللذين يحصلان بصعوبة على الشرعية. وأيا كانت الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها النساء المستجوبات منذ سنة 1971، وأيا كان مستواهن التعليمي ونشاطهن، فإنهن يطالبن بالزواج القائم على الزوجين في إطار المساواة والعلاقة المتينة كمرتكز لأسرة سليمة ، وفرصة وحيدة لتربية أجيال أكثر تفتحا على المستويين العاطفي والثقافي.