سبعة مليارات من البشر، هذا الرقم المهول يعيش إلى جانب ملياراتٍ من الحيوانات الأخرى مأزق الوجود الذي يزداد بؤسه مع ازدياد متطلبات الحضارة و الصراع بين عناصرها، و الأكثر تأزماً منها هو وجود كائنٍ دوني الاعتبار في هذا المأزق الذي يزيده البشر بؤساً بشغفهم في التكاثر تحت وطأة الفوضى الإنسانية في الكوكب، في هذه الفوضى العالمية تقع المنطقة العربية والإسلامية كقطبٍ رئيسيٍ يغذي هذه الفوضى ويحميها ويزيد من فداحة مأزق الحياة ويجعل من الأنثى في مجتمعاته الكائن الأكثر دونيةً في هذا البؤس المشترك، والذي نعاين فيه شكلاً بسيطاً من أشكال معاناتها.
ظاهرة التعنيف
أحذية النساء المعلقة على جدران إسطنبول تبعث على الفزع من هول إحصائيات جرائم القتل بحق المرأة التي أضحت ظاهرة اجتماعية مشهورة في دولة هي رائدة العلمانية في المنطقة. الكم الهائل من جرائم الشرف وحوادث التعذيب التي خرجت للرأي العام مع تنوع وتقدم وسائل التواصل الاجتماعي في العقد الأخير يكشف جزءا من هول الظاهرة التي أصبحت ممارسة اجتماعية من الطبيعي سماعها. امتلأت الذاكرة العالمية بكثيرٍ من الأسماء والحوادث، زوج أردني يقتلع عيني زوجته وآخر يمني يعذب زوجته حتى الموت، عائلة فلسطينية تتناوب تعذيب ابنتها حتى تنفق، سوريٌ يفرغ خزنة بندقيته في جسد أخته، يمني يردي ابنته، عراقيٌ يطهر عائلته، وآلاف الحكايا التي تبقى حبيسة جدرانٍ أربعة تلملم داخلها أنثى ما شتات آلامها وتبلع لعنة الأنوثة.
اختلاف الأسباب وتعدد الدوافع تتداعى جميعها لانتشار هذه الظاهرة، أو بالأحرى القول توحد الممارسة، فهي ليست وباءً عارضا على المجتمع العربي والإسلامي وإنما مكونٌ أصيل من مكونات الهوية الاجتماعية والثقافية التصق بها منذ زمنٍ طويلٍ جداً وهي مستمرة الحدوث ما دامت تشكل جزءا من التكوين الانتمائي للفرد. الظاهرة أيضاً تحمل تفسيرا للنظرة الاجتماعية والثقافية للأنثى في هذه المجتمعات والتي تشخص بدورها الاستعدادات الجمعية لهكذا ممارسات بحق المرأة.
أسباب خلف الظاهرة
توزيع الأدوار الحياتية والتصنيف المجتمعي لدور كلٍ من الذكر والأنثى يقف كسببٍ تراتبيٍ من أسباب الظاهرة من حيث النظرة الدونية للأدوار التي تقوم بها المراة في هذه المجتمعات وبالنتيجة دونية المرأة نفسها. بالإضافة إلى إيكالها بأمور الخدمة المنزلية وترفع الذكر عن القيام بهذا الدور أو المشاركة فيه انتقاصا منه يحصر حقل المرأة في هذه الأدوار التي تترك في الخلفية الثقافية فكرةً عن انتقاص دورها ونقص شأنها كحقيقةٍ تكوينية لا بحسب الدور الذي تقوم به و هو ما يحدد دورها نفسه. ولذا فإن أغلب المجتمعات العشائرية والقبلية كالعراق واليمن ودول الخليج تنظر في أمر تزويج أبناء العائلة كاستقدام خادمةٍ جديدةٍ في الأسرة أو جاريةٍ تسهر على خدمة الذكر ودمية يفرغ فيها شهوته الجنسية.
هذا الدور والنظرة الدونية للمرأة له عمق دينيٌ أيضا ترسخه الموروثات الدينية للأديان الإبراهيمية في تكوين المفهوم الاجتماعي حول الأنثى من قصة خلقتها وأحكام الطهارة الخاصة بشأنها وتفسير اختلافها الفيسولوجي عن الذكر، ناهيك عن القوانين التي تشرعها بشأن تفاوت الحصص من الميراث وتفاضل الذكر عليها فيها إلى جانب عدم مساواتها للذكر في الشهادة. بخلافالدية أو التعويض عن مقتل المرأة هو الآخر أقل من تلك التي يحتسبها الشرع والقانون للذكر، وبلغةٍ أخرى أكثر قسوةً يمكن التعبير عن الأمر أن ثمن حياتها أرخص من ثمن حياة الذكر. إلى جانب ذلك فإن الوصاية الدينية والولاية التي توجبها الشريعة على المرأة يعتبر نوعا آخر من صكوك الملكية التي يهيمن فيها الذكر وتقيد المرأة به عن إرادتها وتلغى كل الخيارات من أمامها. ومع كل هذا فإن فلسفة الإخضاع التي ينتهجها الدين في تحديد العلاقة بين الرجل والمرأة في قياس الزوج بمرتبة الألوهية والزوجة كالعبد للرب والذي يعتبر معيار قياس فضيلة وصلاح الأنثى من فسادها وفسقها في المنظور الاجتماعي ككل تجرد المرأة من أي غطاءٍ يحميها أمام صلافة الذكورية حتى عائلتها. الدور الديني هذا في توزيع الأدوار الجندرية والتشريعات المتعلقة بالمرأة يرسم النظرة الثقافية والاجتماعية في المجتمعات العربية والإسلامية حول المرأة والتي بدورها تتسامح بل وتبرر أحيانا لممارسة العنف بحقها.
المرأة في هذه المجتمعات مجرد مقتنى آخر من مقتنيات الذكر تبرر له حق التصرف الحر بها، و هذا المعنى و إن كان متواريا خلف العلاقة الزوجية إلا أنه التفسير الحقيقي للعلاقة. حتى المهر، الثمن الذي يدفع للمرأة ووالدها لقاء نقل الولاية عليها وتسليم الطوق للزوج بعد أن كان في يد ذكور العائلة هو عبارةٌ عن عقد بيعٍ ونقل ملكية مع شرطٍ جزائيٍ يعيد هذا الثمن للزوج في حال عدم خصوع المرأة ورفضها للبقاء ضمن أملاكه ومقتنياته. يمكن النظر للعقد الزوجي في هذه العلاقة عملية اتجارٍ بالبشر تمارسها المجتمعات العربية والإسلامية بفخر، وكما للمالك حق التصرف في ملكيته فإن أي نوعٍ من المعاملة ينتهجه الزوج مع زوجته يعتبر مبررا و مدفوع الثمن مسبقا.قد يُنظَرُ لهذا الكلام بأنه تحاملٌ وتهويلٌ ولكنه نظرةٌ لما تحت الدثار ووصفٌ قاسٍ وبارد لجزئيات المركب الذهني للمجتمع. بالطبع يمتعض البعض في هذه المجتمعات من بعض حوادث العنف تجاه المرأة ولكنه يؤمن بصلابةٍ في فضل هذه المظاهر التي تعتبر استعداداتٍ جمعية لحدوث مثل هكذا ممارسات وسلوكيات أصبحت ظاهرة. هذه المظاهر الاجتماعية والرؤى الثقافية والدينية تجاه المرأة هي ما يشكل الوعي الجمعي بدونيتها ضمنا وإن كان الجميع يرضي نفسه بالتعبير القائل بأن ذلك تكريمٌ لها عن بقية نساء الأرض. إنها دونيةٌ ضمنيةٌ ظاهرة مهما كانت أغلفتها الثقافية والدينية تسلم رسن النسوة لهيمنةٍ ذكوريةٍ مفرطة تصل بالأمر حد تدجين النساء في صورةٍ أصبح فيها من الثعب في معظم هذه المجتمعات إقناع المرأة أنها ليست بتلك الدونية أو توعيتها بالنظرة الاجتماعية تجاهها، والذي يجعل من هذا الأمر وحده جريمةً إنسانية لا تقل عن الأنظمة الحكومية الشمولية التي تدجن مجتمعاتها، بل قد يشخص الأمر أن المجتمع أكثر إجراما لحدوث مشاركةٍ جمعية في عملية مسخ الهوية الإنسانية والوجودية للمرأة.
المرأة و الجنس
التفسير الشعبي لجوهر المرأة هو أنها ثقب أسود نهم لا يكتفي جنسياً أو لا يقدر على التحكم بحاجاته الجنسية، هذا فضلاً عن عدم اعتبارها حاجاتٍ من أساسه. قدم ماسلو تصوراً علمياً للاحتياج عند الإنسان في ما يعرف بهرم ماسلو، و قد جعل الحاجات الفسيولوجية في قاعدة هرمه كأهم هذه الاحتياجات الطبيعية والتي يعني عدم إشباعها في مرحلتها العمرية وكبتها يعني ظهور سلوكٍ مفرطٍ في تحقيقها مستقبلاً إن لم يكن إشباعها بطرقٍ سيئة وغير قانونية قد تهدد الفرد والمجتمع.
الجنس إلى جانب عمليات العيش الجسدي من غذاء وشراب وتنفس وإخراج وتوازن هي هذه الحاجات الفسيولوجية في قاعدة الهرم والتي تعتبر أيضاً مهمةً لتحقق بقية الحاجات. فرويد والمدرسة المعرفية لعلم النفس هي الأخرى تعزو السلوك الإنساني لحاجاتٍ غريزيةٍ جنسية وأن مجمل السلوكيات السيئة هي في الأساس عائدةٌ لحاجاتٍ جنسيةٍ مكبوتة تخرج في صورةٍ مدمرة ما دامت مقموعةً و مكبوتة.
الكثير من الحديث العلمي قبالة ذلك التفسير الشعبي، و اللذان لا يلتقيان طبعا، إلا أن المشكلة هو محاولة تطويع التجربة والنتيجة العلمية التي تبنى عليها هذه الحقائق أو رفضها البتة، ولكن لا يحرم العرب والمسلمون أنفسهم من رفاه وخير البحث العلمي سواءً في عالم الطب والعلاج أو الدواء، ولكنهم يتعاملون معه بانتقائيةٍ أيضا حين يتحدث العلم عن الجنس و النفس البشرية.
مشكلة الجنس في هذه المجتمعات لا تتعلق بالمرأة فقط وإنما بالذكور أيضاً، ولكن المرأة العربية أو المسلمة هي الحلقة الأضعف في هذه المشكلة. “ليس للمرأة إلا الزوج أو القبر”نفس العبارة الحكيمة في المنطق الشعبي لهذه المجتمعات تحمل التوصيف الجنسي للمرأة من حيث وحشيتها الجنسية التي تحتاج لسترها بذكورة رجلٍ ما سريعاً أو أن الموت هو الستر الآخر لها، وبالطبع الكثير من هذه المجتمعات تتخذ تدابير احترازية لكبح جماح الأنثى من ختان النساء إلى فصلها التام عن أي اختلاط أو علاقة مع الجنس الآخر في معظم المكونات الاجتماعية وخصوصاً العشائرية منها، بحيث تصبح عضواً غريباً حتى على أفراد العائلة والأقارب نفسهم.
هذا الفصل العنصري يبني الشخصية المهزوزة الحيوانية لدى الأنثى العربية أو المسلمة ويجعل منها فرداً ضعيفاً ومنكسراً أمام السطوة الذكورية في الأسرة والمجتمع وما يلحقه من تأثيراتٍ تصل لمشاركتها في سوق العمل و كفاءتها فيه أمام الذكر، هذا إن سنحت لها فرصة المشاركة طبعا. الأمر الأكثر غرابةً هو قدرة الدين على إقناع هذه المجتمعات بعدم أهمية فهم النفس البشرية وهذه الاحتياجات والغرائز وشيطنتها في أذهانهم، والذي بالطبع يجعل منها أكثر المجتمعات التي تعاني من مشكلات الاغتصاب والتحرش والعنف وتحقق أعلى نسب المشاهدة للأفلام الإباحية عالميا في تحقق لتفسير سيجموند فرويد لهذه الظواهر كنتائج منطقية لكبت الحاجات الجنسية و غريزتها.
الموقع الجنسي للمرأة في المجتمع
على كل حالٍ يمكن توصيف موقع المرأة جنسياً في المجتمعات العربية والإسلامية وفقاً لموقعها في مجموعة من العلاقات الاجتماعية المختلفة كالعائلة والزواج وأيضاً التفسير الاجتماعي والديني للأخلاق والفضيلة والشرف.أما عائلياً، الأم العربية أشبه براهبة تحرس عذرية بنات الدير، ومدى قدرتها على قمع شهوة فتياتها وحرمانها من أي صور إمتاعٍ ذاتي حتى نقل ملكيتها للزوج باعتبار ذلك ضمانا إنتاجيا هو مؤشر نجاحها في دور الأمومة في الثقافة العربية والإسلامية. وكما هو الحال اجتماعيا لا يمكن التسامح مع أمر إقامة المرأة لعلاقةٍ جنسيةٍ خارج الزواج أو خيانةٍ زوجية كان القمع الاجتماعي والثقافي لحاجاتها الغرائزية هو السبب فيها بينما يتم التسامح مع الذكر وعدم وصمه بالعار، فالعائلة أيضاً في الغالبية العظمى من هذه الصور تنهي الأمر بتطهير العائلة حد وصفهم للأمر من الأنثى -أي بقتلها- بينما يتم التسامح مع الذكر ببساطة إذا ما ارتكب الأمر ذاته. والسبب خلف ذلك دينيا وثقافيا يرجع لربط مسألة الشرف بالجنس وغيره من المفاهيم الفضفاضة المعنوية التي تقرر مصير الشخص الوجودي.
أما في العلاقة الزوجية فكثيرٌ من النساء لا يحققن الرضا عن المعاشرة الجنسية ضمن العلاقة فتتأكد لدى الذكور مفاهيم الثقب الأسود النهم، بينما أن الأمر هو أنها طرفٌ ضعيفٌ شخصياً في العلاقة وتربى على عدم البوح أو التعليق على هذه الأمور أو الخوص فيها فيصعب على المرأة الحديث مع الزوج عن طريقة إرضائها وتتحرج الحديث عن أن رغباتها الجنسية ومشاركة الخبرات مع الأخريات، وحتى لو أن امرأةً ما في حالات نادرة تصارح زوجها، فإنه تبدأ تساوره الشكوك حول ماضي زوجته، ما يضعها في مأزقٍ أسوأ من عدم الرضا عن العلاقة الجنسية ضمن الزواج. إضافةً لذلك، انعدام وجود تجارب جنسيةٍ سابقة قبل الزواج يوصل المرأة والرجل إلى اختيار الشخص المناسب على المستوى الجنسي هو سببٌ لهذه المشكلة، كما يوضح أيضاً عدم اهتمام الوعي المجتمعي بأهمية إرضاء المرأة جنسياً كما هو بالنسبة للذكر. في الحقيقة، الحديث يطول وذو شجون، ولكن يمكن وصف المشكلة باقتضابٍ هو أن الأنوثة أقسى اللعنات بعد لعنة الوجود في المجتمعات العربية والإسلامية.