وفي صدد الحديث عن أسباب التحرش، أثارت أغنية “سالمونيلا” جدلًا واسعًا في مصر، لتطرقها لموضوع شائك وبالغ التعقيد، ألا وهو المعاكسة وظاهرة التحرّش بصفة عامة، وما أعقبها من تبعات وردود فعل متباينة، لاسيما الهجمة الشرسة التي قادتها النسويات، وقولهن إن الأغنية تدعو لازدراء المرأة ومضايقتهن، مما يؤدي لاستفحال الظاهرة حسب وصفهن. وبما أنها سيرة وانفتحت فسنخوض في هذا الموضوع مُسلطين الضوء عليه، خصوصًا أن ظاهرة التحرّش عالمية، وليست مقتصرة على منطقة أو مجتمع معين.
تعريف التحرّش:
ثمة ضبابية تحيط بمفهوم التحرش، مما أدى أدى إلى خلط كبير لميوع مفهوم التحرش، فهناك تحرّش لفظي، وهو ما يعرف في اللهجات الدارجة بـ”المعاكسة”، وهناك تحرش جسدي وهو ما يشمل: “اللمس غير اللائق، والعناق والتربيت على اليد، والظهر والكتف”، وهي أفعال لا تتخذ طابعًا جنسيًا. وتكمن الإشكالية في الخلط حول تعريف التحرش وتباين مفهومه من شخص لآخر ومن امرأة لأخرى. ومما يزيد الطين بلّة أن أحكام الناس متباينة إلى درجة بعيدة، فما تراه إحداهن تحرشًا لا تراه أخرى كذلك، مما يعني أن تهم التحرش تعتمد على مزاج ومدى حساسية الأشخاص وليس مقيدًا بقيود قانونية. بالتالي تصاعدت الخشية بين الرجال من التقرب للنساء بهدف التعارف، إلى استنكار الجمع بين الغزل بمختلف أشكاله وأفعال التحرش في سلة واحدة، لكن يمكننا القول إن الرجل لا يعد متحرشًا، إلا إن أصر على التقرب من المرأة رغم ممانعتها.
أين مكمن الخلل؟
عودًا على بدء وأقصد أغنية “سالمونيلا”، ويعني هذا الاسم الغريب للأغنية أحد أنواع البكتيريا، أما كلماتها فتدور حول شاب بائس يتحدث لفتاة تُظهر ممانعة، فينفجر غاضبًا رافضًا موقفها، هذا الجدل الذي أثارته الأغنية، وأن بإمكانها إفساد أخلاق الشباب وتشجيعهم على المزيد من التحرش، يبدو هذا الزعم غير موضوعي البتة، أتذكر بهذا الصدد ما قاله علي سالم -مخرج مسرحية مدرسة المشاغبين- عندما أخبروه أن مسرحيته قد أفسدت أجيال وراء أجيال، فأجاب عليهم: “بسيطة، إذا كانت مسرحية واحدة زي مسرحيتي قادرة تبوظ أجيال، يبقى كويس اكتشفنا الحل، نعمل مسرحية تانية تربي أجيال”. رد مقنع للغاية، وإجابة مبطنة مفادها بأن المشكلة أعمق من أن يتم تسطيحها بهذه الصورة، وبالمثل فظاهرة التحرش الجنسي في مصر خاصةً والعالم العربي عامةً لن تزيد أو تنقص بفعل أغنية، فالموضوع أكثر تعقيدًا من ذلك، وله تشعّبات مرتبطة بتدهور المنظومة التربوية والأخلاقية، وانحدار مدوِ للقيّم والذوق من جهة، كما أن الكبت وكثرة تابوهات المجتمع وتردي الحالة الاقتصادية، تلعب دورًا مهمًا أيضًا في شيوع هذه الظاهرة وتفشيها بشكلٍ مخيف من جهة أخرى، للدرجة أن 9 مصريات من أصل 10 تعرضن للتحرش!
هل التحرش مرض ذكوري؟
على ما يبدو أن هذه الظاهرة تزيد في المجتمعات الذكورية، أو المجتمعات التي يتفشى فيها الظلم والقهر الاجتماعي، كما أن التابوهات وقيود المجتمع المتمثلة بثقافة فصل الجنسين، تلعب دورًا بارزًا في شيوع هذه الظاهرة، ولأن الجنس تابوه في المجتمعات الشرقية، فعدم الحديث مع الصبيان قبيل المراهقة عن هذا الموضوع تحديدًا، وعدم إفهامهم ما يحدث لأجسادهم من تغيّرات، هو أحد أهم أسباب التحرش، وهو مرض ذكوري في الغالب، وأحد أسبابه المهمة هو ما يمكن تسميته (خَرَس الأباء)، وعدم فتح الموضوع مع الأبناء بعكس ما يحدث بين البنات والأمهات، لذا تمر البنات بالمراهقة دون مشاكل كبرى، بينما يمرض الكثير من الصبيان بهذا المرض اللعين. في حين أن الدراسات العلمية لها رأي مختلف تمامًا، وتؤكد بحسب تجارب ميدانية أن التحرش هو ظاهرة ذكورية بحتة، ولا علاقة بالجنس أو الكبت، وأن التحرش في أصله فعل لإثبات القوة، أو بمعنى أدق لقهر الضحية.
ونتائج هذه الدراسات خلصت إلى أن التحرش لا علاقة له بالإشباع الجنسي، ولا حتى نوع المتحرش (ذكر أو أنثى) وعلى سبيل المثال لا الحصر: في منتصف القرن الماضي في أمريكا، عندما النساء بدأن يأخذن مواقع مهمة في العمل، والأنثى أصبحت مديرة حالها كحال الرجل، وجدوا أن حالات التحرش بالرجال زادت، لأن التحرش يحصل عادةً من رئيس في العمل لمرؤوس في العمل، أيًا كان من فيهم سواءً رجل أو امرأة. أي التحرش يحدث من أحد مستقوٍ بنفسه، على أحد ضعيف، لأنه لغرض إشباع الشعور بالقوة، بالتالي يمكننا إسقاط هذا المثال على المجتمعات التي تغيب عنها العدالة الاجتماعية، فها هو رجل مقهور في كل شيء ومُستلب من حقوقه، مديره في الشغل ينهره، بينما الحكومة تتسلط عليه، مما ينتج لدينا مواطنا مقهورا ومكسورا، فشل في تحقيق أي انتصار في حياته، أو أي شيء يشعره أنه “قادر”، فيستقوي على من هم بشاكلته، المقهورين المضطهدين، أيضًا أضعف منه جسمانيًا، النساء بطبيعة الحال.
تلّطخ السمعة بسبب التحرش:
استفحال ظاهرة التحرش في بلدٍ ما، يكسبه سمعة سيئة ويجعل الناس ينفرون منه، مما يوثر سلبًا في قطاع السياحة، ووفقًا لما نشرته جريدة الإندبدندت عن الدول التي لا يريد القراء زيارتها إطلاقًا، والأسباب متباينة، جاء التقرير على ذكر بعض الدول العربية التي تزداد فيها ظاهرة التحرش، واختلفت أسباب عدم التفكير في زيارتها، بين دولةٍ وأخرى:
– السعودية ولبنان، كان السبب هو الفضاضة والفجاجة مع الأجانب.
– العراق واليمن، بسبب الحروب.
– مصر والمغرب، بسبب التحرش الجنسي.
– أما تونس فقد انفردت، بسبب خاص وهو (موقف الشعب من السياح).
هل الغرب بوصلة أخلاقية:
بالطبع لا يخلو أي مجتمع على وجه البسيطة من وجود هذه الظاهرة، ولكننا نلاحظ أن التحرش في الغرب يطال المشاهير، وينتشر بكثرة في الوسط الفني، حيث تكثر الفضائح التي تثير الجمهور، الذي تستهويه مثل هذا النوع من الأخبار المثيرة، هناك فنانون عِظام تورطوا بقضايا تحرش واعتداء جنسي، كمايكل جاكسون، وكيفن سبيسي، والمخرج السينمائي هارفي واينستون، ولكن نحن هنا في الشرق بمعزل عن فهم التحرش في السياق الغربي، فهناك تتداخل السياسة وأجنداتها، وكذا يأخذ المفهوم أبعادًا أيديولوجية، ومع قوة المنظمات الحقوقية والنسوية يصبح الأمر أكثر تعقيدًا.
خاتمة:
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، أن “الكبت الجنسي” أحد أهم أسباب شيوع ظاهرة التحرش، في المجتمعات التي يكثر بها التابوهات المحرمة في المقابل هناك مجتمعات أخرى يوجد بها مناخ صحي، وأتحدث عنها من باب الفضفضة والعلم بالشيء، لا من باب طرح الحلول. أن في تلك المجتمعات التي لا تفصل بين الجنسين، فالشباب والفتيات في مرحلة الجامعة يمارسون الجنس لغرض العملية الجنسية من دون حمل أصلًا، والأب والأم لا شأن لهما في اختيارات الشباب، فالولد والبنت يمارسان التجربة من غير خوف ولا تحمّل أعباء أو مسؤولية أسرة، أو حتى مسؤولية الشراكة الممتدة.
وممكن جدًا أن ينهيا علاقتهما في شهر، ويختاران من جديد وهكذا، ممارسة حقيقية، والناس هناك تختبر الحياة بعد الجامعة وتشتغل وهي أقل توترًا، وعندما الفرد يختار تكوين أسرة مستقبلًا -مستقبلًا لا يعني العشرينيات من العمر- لأن من النادر جدًا أن يتحمّل مسؤولية منزل وإنجاب أولاد وهو في هذا السن الصغير. فيكون الاختيار المستقبلي هو الاستقرار النفسي والعاطفي، وله حسابات أخرى غير السرير، وبعيدًا عن حسابات الأهل وشروط المجتمع، وليس كمجتمعات شرقية يضع والد الفتاة رجلًا على رِجل، ويشترط في بيع ابنته كقوّاد يتاجر في لحم رخيص، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: “هل مجتمعاتنا عندها من الجرأة لفتح نقاشات في موضوعات كهذه، قبل أن نتحدث عن العنوسة وتأخر سن الزواج، أو أن نشتكي من التحرش وتردي الأخلاق؟”