السعي لاكتشاف مفهوم حقيقة الفن و تشريحه يتطلب معرفة حقيقة كينونته موضوعاً مختلفاً عن بقية المواضيع او المواد الموجودة في الخارج و السبب القائم خلف ذلك، ولعل هنالك العديد من الوسائل لاكتشاف ذلك ضمن دراسة الفن ككيان او منظومة مركبة فاعلة تتوسط بين المادة او المشكلة أو الإثنتين معاً و بين عملية الإدراك الملامسة للشعور لدى جمهور المتذوقين، إن ما يجعل هذه الواسطة مختلفة عن بقية المواضيع الثقافية إذا اخذنا بالمفهوم الحالي باعتبار الفن خاصاً لها هو في المقام الأول مرتبط بالخاصية الجمالية القابعة في الموضوع او المادة الفنية و في المقام الثاني تقع في الآثر الذي تتركه على المتذوق أو جمهور المتذوقين، وهذا يمكن اكتشافه إذا ما قدمنا العمل الفني في قراءةٍ هرمينوطيقية ( تأويلية ) تقيس ردة فعل القارئ تجاه العمل الأدبي مثالاً بناءً على مدى سماحه لنفسه في الدخول في حواريةٍ مفتوحة مع الكاتب ضمن النص الذي يتفاعل معه كمهمة أخرى للتأويلية كما يقدمها دايفد جاسبر في مدخله على العلم.
اللذة الفنية
إن واحدةً من أكثر اللذائذ التي تترك أثرها و تتصدر قائمة اللذات هي النشوة الجنسية و التي هي لذةٌ جسدية تدرك بالحواس و تستلذ بها، و لكن التساؤل هو هل هنالك تجارب نشوةٍ يعيشها البشر على غرار النشوة و اللذة الجنسية الجسدية؟ هذا السؤال يدعو للتأمل أكثر في جمالياتٍ يعيشها الإنسان أو الكائن الحي دون أن يدرك أن لها لذةً قيمة ككائن أصبح شتاتاً لا يرى تلك الجمالية حتى في نشوة الجنس الذي أصبح يعيشه على حين غفلةٍ كروتينٍ دون انتباهٍ منه. التأمل في ذلك قد يجعل من منظرٍ طبيعيٍ ترك في نفس إنسانٍ ما تحت ظروف معينة نشوةً تضاهي الجنس و تختلف عنه بغرابةٍ مفرطة، أو أن مقطوعةً موسيقية في لحظةٍ عابرةٍ تركت ذلك الأثر عليه، فأنا أتذكر مثلاً أنني أول مرةٍ رأيت فيها البحر في طفولتي صرخت عالياً من على الشاطئ دون وعيٍ من فرط اللذة و اللذة فقط.
لكن ما هي هذه اللذة و لماذا تختلف عن تلك الجسدية كالطعام و الشراب و الجنس؟، و هل لها مرحلة تشبعٍ كونها حاجةً غرائزية أم لا؟.. الحديث حولها يستدرج لكثير من الأسئلة و يخرج بعيداً إلى حقولٍ أخرى، و لكن الشاهد الأبرز فيها أنها كانت لذاتٍ غير جسدية، و كانت تلمس الشعور فقط، أي أن هذا يوصلنا لتقسيمٍ حسب النوع من لذة الشعور و لذة الجسد، أي تلك التي تخاطب العاطفة كالحب و الحزن و الفرح و تلك التي تؤثر في الحواس كالطعام و الشراب و الجنس و الدفءـ تتحدث عن ذلك الدكتورة أميرة حلمي في كتابها الدرسي علم الجمال بأن اللذة الفنية التي يمنحنا الفن إياها هي لذة جمالية تختلف عن بقية اللذات الجسمانية كما يرى جورج سنتيانا، فاللذة الجسمانية كما يعبر عنها أفلاطون أنها أشبه بمسامير تدق نفوسنا و تربطها بالجسد، بينما اللذة الجمالية التي يمنحنا إياها الشكل الفني هي لذة تخلق لدينا شعوراً بتحررنا من الجسد من حيث أنها لا تتعلق بالحواس على عكس اللذات الجسدية المركزة في عضوٍ معين كلذة الطعام في اللسان، فاللذة الفنية الجمالية تتحصل إدراكياً و لكنها تنفصل عن الحواس في تحول مغاير لبقية الإحساسات تلامس المشاعر و توجه الإدراك إلى شيءٍ خارجيٍ يتحول فيه الجمال من إحساسٍ إلى موضوع. إذن هذا يكشف الفرق الذي جعل من الفن موضوعاً غير كل الوسائط و الوسائل الثقافية و الإدراكية، و هو إختلاف الآثر الذي يخلفه على عملية الإدراك بحيث أنها اللذة الفريدة التي قد نشعر أنها لا تتعلق بلذة الجسد و هي شعورٌ من النشوة تغمر العاطفة و تستثيرها على عكس بقية اللذات الجسدية.
أين مكمن الجمال
لنأخذ على سبيل المثال الحذاء البالي لفان جوخ، هل يقبع الجمال في الحذاء البالي الذي رسمه و الذي يمثل هنا المشكلة او الموضوع أم في العمل الفني الذي انتجته لوحة فنسينت؟!.. أم هي في رؤية المتذوق او الذائقة الجماعية في ملامسة جمالية اللوحة للمشاعر و الحس الإنساني؟، باختصارٍ إنه سؤال يتعلق بمفهوم الجمال و اين يقبع في محطات العمل الفني التي تبدأ بالمشكلة أو الموضوع الخارجي و تنتهي بالإحساس و الانطباع الانفعالي الذي يخلفه العمل الفني على المتذوق مروراً بعملية خلق العمل الفني التي تتوسط هاتين الحالتين، إن تفسير اللوحة و الجمال الكامن فيها تفسيراً بنيوياً توليدياً يجعل من الجمال فيها هو المعطى الإقتصادي لحذاء العامل و الذي يعكس الحياة الاقتصادية و المظاهر الكادحة للطبقة العاملة و الذي كان او كانت صاحبة الحذاء منها، و هذا يجعل من الجمال كائناً في مداليل الموضوع الأصلي الذي هو المشكلة أي ما يحمله الحذاء البالي من دلالة و ما يمثله من أفكارٍ نقلها فان جوخ ليخلد حقيقة العمل في زمنه و طبقة صاحب الحذاء و رؤيتهم للعالم لتمثل على نحوٍ أخر أيضاً توثيقاً تاريخياً للوضع الاقتصادي للطبقة الاجتماعية نفسها في تلك المرحلة الزمنية التي يعود لها الحذاء، و لعل ذلك برز في ما كتبه مارتن هايدغر ليعكس أفكار اللوحة لإدراك الجمال في العمل الفني في صورةٍ لغويةٍ شعرية. أما إذا اخذنا في تفسير اللوحة تعبيرياً فسنقع على انتسابٍ أخر للجمال و هو جمال الجوهر، أي الحقيقة المحجوبة عن الجميع و التي لا يعبأ بها العالم حتى خرجت في صورةٍ إبداعيةٍ متواضعة عبر ريشة فان جوخ الذي عاش تجربةً فنيةً مع الموضوع لاكتشاف جوهر الحقيقة في فكرة الحذاء البالي و ما تقدمه من خلقٍ إبداعي.
ما بين اللذة و الجمال
بين اللذة و الجمال بعدٌ شاسع طويلٌ يمكن وصفه بالبعد بين الموضوع و بين مدركه و بين الموضوع و بين متلقيه كمسافةٍ طويلة تقطعها حلقة الوصل لعكس جمالية الشيء و إشعار الحس بها في الكائن الحي، سماء الليل بنجومها المنثورة على صفحة الزمن جميلةٌ و يمكن للبعض أن يجلس تحتها لعيش لحظة صفاء و سلام نفسي، و لكن ما الجمال الذي يراه المشاهد، هل هي فقط هذه الصورة الطبيعية التي تشاهدها عيناه كما هي؟..هل يمكن لنا أن نتخيل أنها تعني عالماً يحتوينا و أننا نحن هذه السماء التي تلفنا كما نلفها بأعيننا لتكون شيئاً منا قبل أن نكون منها شيئاً و أن لها صورةً أخرى أكثر جمالاً لا نلاحظها، أو أن هذه السماء الساهرة هي نفوسنا المظلمة و أقدارنا التي حملتنا للوجود كما حملتها هي محملة بكل تلك الآلام التي كانت تعاتي منه الالهة قبل أن تتخلص منه و تلقيه على كاهلنا لتظهر لنا أنها في ذلك العمق من الألم تحمل جمالاً يمكن أن يحقق لذةً كنت ستحرم نفسك منها لو أنك لم تتلق ذلك، هذا الجمال الذي لم تلحظه و أكثر منه يرسمه فان جوخ في لوحة ليلة النجوم ليكون شراباً يسكر عيناك و شعورك و فكرك من شدة اللذة التي قد تحملك على البكاء كما تحمل أحداً أخر على الضحك من فرط الإنتشاء.
قد يُرى أن تقديم الصورة عن اللذة الفنية بهذا الوصف يعتبر مبالغةً و لكن هذا التصور ناقص بحيث أنه لا يرى مدى استجابة المتذوق للكائن الفني أمامه و تعاطيه معه إضافةً إلى معرفته و قناعاته و معلوماته السابقة التي أتى محملاً بها أمام، و هذا كله ينعكس على مدى تفاعله معه و دخوله في حواريةٍ مفتوحةٍ حرة مع الكائن الفني أمامه كما تشرحه التأويلية و أشير إليه في مطلع المقال، هذا يعني بأن حقيقة الجمال في الموضوع بعيدةٌ عن الرائي و مختفية و لا تكشفها إلا عين الفنان وحده الذي يعبر بها من عالم الخفاء لعالم المادة و الإدراك، و قد يكون هذا الجمال هو رؤية الفنان للموضوع لا الموضوع وحده و ليس كما يجعله سنتيانا راجعاً فقط لإلصاق المتذوق ردة فعله بالموضوع فيتوهم الجمال كامن في الموضوع بينما هو نفس المتذوق، بل هو نفس هذا التذوق الذي رأه الفنان في الموضع الأصلي و من ثم أخرجه ليضيف عليه جماله و من ثم يكتمل في ظهوره لجمهور المتذوقة فتنعكس ردودهم على هذا العمل الإبداعي كعملية تفاعلية تعكس الجمال في الموضوع، الفنان، العمل الفني و المتذوق الشاعر باللذة، هذه الرحلة بين الجمال و اللذة طويلة و ذات بعدٍ شاسع يقف الفنان الرائي فيها للجمال ليختصر المسافة على المتذوقة سواءً الذين لم يشاهدوا ذلك الجمال في الموضوع الأصلي أو الذين شاهدوه لينقلهم لحالة الانتشاء باللذة في تذوق الجمال عبر مخلوقه الإبداعي الذي نسميه العمل الفني. العمل الفني هذا الذي يظهر كوسيلة نقلٍ تقلنا لعالم الجمال و الاتحاد في الموضوع بالوصف التعبيري تذوب فيه ذات القارئ في الفكرة و الجمال كرقصة طيرٍ صوفيةٍ يسكر فيها الراقص باللذة الفنية الناتجة عن الاستجابة و الانفعال مع النص و العمل الفني و الفنان يقف فيها كإلهٍ عابثٍ في غاية الإبداع يعيش في كونه الذي خلقه و هو لا يكترث بإنفعالات المتذوق المختلفة بإختلاف الاشخاص و خلفياتهم في خضم هذه الفوضى الجمالية في كونه.