يتخيل الكثير من المسلمين أن العرب كانوا لا وزن لهم قبل الإسلام ولم تكن لهم أي دولة أو مملكة وأنه بظهور الإسلام أصبح للعرب فجأة وبدون مقدمات دولة في غضون سنوات تملك الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر وقبل أن تكمل مائة عام كانت قد وصلت للهند والسند وغربا إلى الأندلس و يعزو ذلك الإنجاز إلى الروح الدينية للإسلام التي نجحت في تحقيق هذه الإمبراطورية الإسلامية القوية في زمن قصير جدا ولكن هل هذه هي الحقيقة ؟ ام أن الظروف كانت مهيئة بالفعل لهذه الإمبراطورية الإسلامية وكل ما احتاجته هو ديانة موحدة لهم يجتمعون تحت راياتها ، هذا ما نود طرحه .
الممالك العربية قبل الإسلام
تاريخ الممالك العربية التي حكمت في الجزيرة العربية كثيرة منها ما هو مشهور ومنها ما كان ضعيفا و لفترات محدودة وسوف نذكر الهام منهم لنبين كيف كان للعرب ممالك قوية جاهزة لتكوين إمبراطورية ضخمة وكانت مهيئة تماما لتكون القوة الأولى في ذلك العصر و أن الظروف السياسية التي أصبحت مهيئة في وقت ظهور الإسلام هي التي ساعدت على تكوين تلك الإمبراطورية الإسلامية الكبيرة مترامية الأطراف.
كانت في جنوب الجزيرة العربية ممالك مثل حضرموت – وقتبان ولكن الأهم والأكثر تاثيرا هو ممالك اليمن معين –سبأ – حمير
ظهرت في البداية مملكة معين والتي كانت تضم اليمن حتى يثرب ( المدينة المنورة بعد ذلك ) وبسقوط مملكة معين ظهرت مملكة سبأ والتي تعتبر من أهم الممالك التي ازدهرت حضاريا وفكريا بسبب وجود سد مأرب الذي حولها إلى دولة زراعية متطورة ولكن بسقوط سد مأرب وانهيار الدولة سقطت أحلام سبأ في التوسع و تحقيق حلم الدولة الكبرى و دفع ذلك إلى هجرات كبيرة متجهة إلى يثرب حيث كونت قبائل الأوس والخزرج (المعروفتان في التاريخ الإسلامي) و منهم من اتجه إلى العراق والشام و سكن هناك حيث كونوا فيما بعد دولتي الغساسنة والمناذرة العربيتان، ثم نشأت في اليمن دولة حمير والتي كانت جزءا من الدولة السبئية وقامت على أنقاضها و نجحت الدولة في التوسع و كونت حلفا قويا مع مملكة كندة وهي مملكة عربية أيضا نشأت في نجد و ضمت المناطق الشرقية من الإحساء والبحرين، أدركت حمير أن القوة بدون دافع ديني لا تحقق الثبات المطلوب ومن هنا بدأت في تطوير عقائدها الدينية وتحولت من الوثنية إلى عقيدة الإله الواحد و تبنت بعد ذلك الديانة اليهودية وإن قامت بتغيير اسم الإله (أيل) العبري الذي تنسب اليه أسماء إسماعيل أي السميع للإله أيل وإسرافيل وإسرائيل وغيرها إلى اسم جديد وهو (رحمن).
خطورة حمير والدول الكبرى
كان التطور العقائدي في مملكة حمير وكذلك توسعها وتحالفها مع مملكة كندة يثير القلق في نفوس الدول الكبرى وخاصة بيزنطة التي كانت ترى أن وجود دولة عربية في هذه القوى تمثل خطورة عليها فادعت أن هناك اضطهادا لمسيحيي اليمن وطالبت حليفها ملك الحبشة بغزو اليمن وإسقاط دولة حمير وقد كان وسقطت دولة حمير على يد القائد (ابراهيموس) المعروف في المصادر الإسلامية باسم أبرهة الحبشي أو الأشرم.وبعد الفتح الحبشي استطاع أحد أبناء اليمن وهو سيف بن ذي يزن في استراد اليمن للعرب مرة أخرى ولكن تحت وصاية فارسية.. وكان ذلك في 575 م وفي ذلك الوقت كان قد ولد في مكة النبي محمد (ص).
مملكة كندة ..(200 ق.م – 633 م)
تكونت في نجد -وسط الجزيرة العربية- ونجحت في ضم البحرين وشرق الجزيرة وأقامت كما ذكرنا تحالفا مع دولة حمير لتكوين قوة عربية في مواجهة التحالف البيزنطي الحبشي ولكن للأسف انهزموا وفقدت الدولة قوتها ومع بداية ظهور الإسلام دعا النبى (ص) قبيلة كندة إلى الإسلام ولكنها رفضت لأنها أرادت الملك من بعده في مقابل قبولها الإسلام ولكن الرسول رفض ولما حقق الإسلام انتشارا وقوة كبيرة قبلت كنده الإسلام في عام الوفود عام 9 هجرية.
مملكة الأنباط ..(312 ق.م – 106 م)
الأنباط هم قبائل عربية عاشت في منطقة سيناء والأردن -حاليا- و قد كانت لها مكانة كبيرة لأنها على طريق التجارة وتعتبر منطقة البتراء في الأردن من بقايا هذه الدولة العربية ومع ازدياد نفوذ الرومان في هذه المنطقة تم إخضاع الأنباط لسلطة الرومان وتم القضاء على دولتهم.
مملكة تدمر .. (240م -274م)
كانت تدمر منطقة لها شبه حكم ذاتي وكانت محتفظة باستقلالها في ظل الصراع الفارسي السلوقي (سلوقي هو وارث إمبراطوية الإسكندر الأكبر في هذه المنطقة وكان أحد قواده) وكونت سلطة لها في ظل الرومان تم الاعتراف بها و بالرغم أن الدولة لم تكن عربية الحكم (هناك أقوال على الأسرة الحاكمة أنها كانت عربية و لكن المرجح أنها لم تكن عربية) ولكن كان اعتمادها في الأساس كان على عرب البادية وقوتهم فتم توسيع الدولة في عهد الملك (أذينة) ومن بعده أكملت زوجته (الملكة زنوبيا) هذا الحلم وقامت بالوصول إلى فتح مصر ولكن استطاع الرومان مرة أخرى القضاء على الدولة العربية الناشئة.
كانت (زنوبيا) ملكة ذكية فادعت أنها من أصول عربية لكسب العرب وادعت أن لها أصولا مصرية أثناء غزوها مصر وأنها خليفة كليوباترا وكما يقال أنها ادعت اعتناق اليهودية لكسب تأييد اليهود في منطقة الشام، ولكن كل هذا الدهاء لم يصمد أمام قوة الرومان، أدرك الرومان أن القوة العربية تمثل خطورة ورغبتهم في الوصول لدولة حتمية، ولهذا فقد قرروا أن يصنعوا دولة عربية تابعة لهم تكون عونا لهم في حروبها وفي نفس الوقت حائط صد ضد إنشاء أي دولة عربية في المستقبل وكانت هذه الدولة قد عرفت فيما بعد باسم الغساسنة و قد فعلت دولة الفرس نفس الشيء ولنفس الهدف في منطقة العراق باسم دولة المناذرة (مملكة الحيرة).
مملكة الحيرة (دولة المناذرة)
لم تكن مملكة الحيرة هي المملكة العربية الأولى في منطقة العراق ولكنها الأهم و كانت الداعم الرئيس لدخول المسلمين العرب لفتح فارس والعراق ولهذا فان لها دورا كبير إلى جانب مملكة الغساسنة في تسيد العرب لمنطقة الهلال الخصيب كانت الممالك العربية من قبل ممالك صغيرة مثل مملكة ميسان والحضر، والتي كانت تحت وصاية الدولة الفارسية (دولة البارثيين) وعندما ضعفت الدولة البارثية ونجح القائد الفارسي (أردشير بن ساسان) من القضاء عليها وأنشأ الدولة الساسانية الفارسية- من 224 م إلى 651 م. وكانت الدولة الجديدة قد أنهت الممالك العربية القائمة ولكنها أدركت الفائدة التي قد تعود عليها من إبقاء دولة عربية لصد هجمات العرب من جهة ومساعدتهم ضد أعدائهم من الروم من جهة أخرى ولهذا دعمت الدولة الساسانية قيام دولة عربية من القبائل التي استوطنت المنطقة بعد سقوط سد مأرب وكونت الدولة العربية المعروفة بـ مملكة الحيرة أو المناذرة عام 268 م.
انقلاب قائد الجيش (بهرام) 590 م وبداية الصراع العربي الفارسي
ظلت العلاقات العربية الفارسية في وئام حتى جاء عام 590 م حيث قام أحد قواد الجيش الساساني بعمل انقلاب على الملك كسرى الثاني وجعله يهرب إلى الروم وطلب كسرى العون من النعمان بن المنذر حاكم الحيرة ولكن ولاءه كان للدولة الفارسية وليس للأشخاص فتجاهل الدعم فلما انتهى الانقلاب وعاد كسرى الثاني إلى السلطة قام بعزل النعمان بن المنذر وقتله فساءت العلاقة بين الدولة الفارسية ومملكة الحيرة وتجمعت القبائل العربية في معركة ضد الفرس انتقاما لمقتل النعمان الذي كان أحد أهم ملوك الحيرة، و كان كسرى الثانى قد عين حاكما عربيا جديدا للمملكة وهو إياس بن قبيصة ليقود معركة الفرس مع أعوانهم من العرب ضد القبائل العربية الثائرة.
تعتبر شخصية هذا الحاكم الأخير لمملكة الحيرة من العرب ذات دور محوري في تغير دفة السلطة إلى العرب لأنه كان يرى أن الدولة الساسانية في الطريق للسقوط وأن الجيش الذي يقوده من الفرس والعرب غير متجانس وتسبب ذلك في خسارته لمعركته ضد القبائل العربية في موقعة (ذي قار) الشهيرة عام 610 م ، والتي تصادفت أن تكون في عام بداية الدعوة الإسلامية في مكة ومن هنا زادت الهوة بين الفرس والعرب فبعد أن عزله الملك الفارسي تم تعيين حاكم فارسي للحيرة وإنهاء سلطة العرب على منطقة الحيرة بدأت ميول إياس بن قبيصة للقبائل العربية وأي قوة عربية جديدة لمساعدتهم في إسقاط دولة الفرس.
الدولة الساسانية تحتضر
بدأت الدولة الساسانية في دخول مرحلة انهيار منذ انقلاب بهرام و بدء تقاسم السلطة بين قواد الجيش ولم يخَلف ملك بعد كسرى الثاني ذو قوة أو حكم لفترة كبيرة وحتى وصل الأمر إلى تولي (بوران) إحدى بنات كسرى المُلك (هذا الحدث هو أصل الحديث المشهور للنبى محمد(ص) “لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” إذ فهم النبي (ص) أن تولي مقاليد الفرس امراة في ذلك العصر يعني تخبط الدولة وليس الأمر على إطلاقه في كل زمان كما يتصور بعض رجال الدين ..)و مع توالي الأحداث، أصبحت مقاليد الأمور في يد أحد قادة الجيش الأقوياء وهو (رستم فرخارد) والذي وضع حاكما فارسيا صوريا وهو (يزدجرد الثالث) و بعد مقتل رستم في معركة القادسية انتهت فعليا الدولة الساسانية وبدأ الحكم العربي لفارس.
الفتح العربي لفارس
كان الوضع السياسي يدعم انتصار العرب في مواجهة الفرس ولكن بعد وفاة النبي محمد (ص) وانشغال المسلمين بحروب الردة تأخر التوجه إلى فارس ولما تولى عمر بن الخطاب كانت الأمور مستقرة في الجزيرة العربية وأصبح فتح فارس وشيكا، وكان عرب الحيرة عيونًا للعرب وكان بنو شيبان وسطاء بين العرب وإياس بن قبيصة لتهيئة الأمور وفي النهاية سلم إياس بن قبيصة (الحيرة) للقائد العربيخالد بن الوليد وانضم إليه في عمليات الفتح وأكمل سعد بن أبي وقاص التوغل داخل فارس، وبهذا بدأ عهد جديد من سيادة العرب للمنطقة، وكانت الشام جاهزة أيضا لدعم العرب من الغساسنة.
ظهور الغساسنة
بدأت دولة الغساسنة عام 220 م وهي قبائل جاءت من اليمن وسكنت الشام وكانت المملكة تملأ الفراغ الذي أحدثه انهيار مملكة الأنباط وبعد سقوط مملكة تدمر بدأ الرومان في محاولات دعم وجود مملكة عربية حتى لا تتكرر مأساة مملكة تدمر من جهة، وصد هجمات العرب الموالين للفرس، وعرب الجزيرة العربية من جهة أخرى. وكانت العلاقات بين الدولة البيزنطية والغساسنة طبيعية وليست فيها مشاكل حتى تولى ملك قوى وهو (الحارث بن جبلة) 529 م حكم الغساسنة وكان الرجل يدرك ضعف الدولة البيزنطية والفارسية وقدرته على تكوين إمبراطورية عربية تحت سلطانه، فبدأ في محاربة مملكة الحيرة وهزمهم في معركة تعرف بـ(يوم حليمة) و بدأ في إجراء تفاهمات مع الفرس للقضاء على البيزنطيين ليكون مكانهم ثم اتخذ الحارث مذهبا مسيحيا منفصلاعن الدولة البيزنطية وبدا أنه يحاول أن يُكون عقيدة خاصة لدولة جديدة تحت قيادته ومن هنا بدأت الدولة البيزنطية في محاربته في البداية ثم استمالته بتكريمه لتحجيم طموحه السياسي إلى أن مات، يرجح انه قُتل، عام 569 م.
تولى بعده ابنه المنذر بن الحارث وكان مثل أبيه يريد أن يكمل مشروعه السياسي فانتصر مرة أخرى على ملوك الحيرة في معركة (عين أباغ) 570 م فسعى البيزنطيون في التخلص منه وتم قتله في 590 م وجاء ابنه النعمان بن المنذر وسعى للانتقام واستكمال مشروع أبيه وجده فتم التخلص منه نهائيا وتحطيم قوة الغساسنة عام 593 م و تحولت بعدها إلى ممالك صغيرة ضعيفة ولكنها تحمل العداء للبيزنطيين وتتمنى تحقيق فكرة الدولة العربية الكبرى، حلم الحارث بن جبلة. بدأ الإسلام في الظهور وظهرت أول حرب بين المسلمين والغساسنة يوم غزوة مؤتة والتي انتهت بانسحاب المسلمين، ثم بعد وفاة النبي (ص) وانشغال المسلمين بحروب الردة تأجل حلم التوجه للشام ثم عاد الحلم مرة أخرى في عهد الخليفة عمر بن الخطاب فوجد الغساسنة أن العرب المسلمين فرصة كبيرة فبدؤوا في التشاور معهم وإرسال رسائل لحثهم على التوجه للشام وساعدوهم على الانتصار على الروم في معركة (اليرموك) وقدموا لهم الدعم للتوغل في الشام في مقابل الاعتماد عليهم في إدارة الدولة وكان لهم ذلك .
دعم الغساسنة فكرة فتح مصر وساعدوا عمرو بن العاص في ذلك وتولى الغساسنة بعد ذلك مهام إدارة شمال إفريقية فكان أغلبهم مما قاد الفتوحات في الشمال الأفريقي وأشهرهم حسان بن النعمان الغساني والذي قضى على دولة الأمازيغ هناك وعلى ملكتهم (ديهيا الكاهنة). مما قد ذكرنا في تاريخ الممالك العربة وتحول القبائل إلى دولة موحدة تحت راية دين واحد، توضح أن الإسلام قد قدم للعرب العقيدة الموحدة التي كانوا يحتاجونها وساعدهم هذا على تكوين إمبراطورية عربية كبرى، ولكن الظروف التاريخية كانت مهيأة بشكل كبير لسيطرة العرب على المنطقة.
المراجع
المفصل في تاريخ العرب – جواد علي