التاريخ والطبيعة لا يسلّمان بمفاهيمنا عن الخير والشر، وهما يعرفّان الخير بأنه ما يبقى والشر بأنه ما ينزل إلى أسفل، وليس للكون أي هوى في صف المسيح وضد جنكيز خان. – ويل ديورانت.
بعد هذا الاقتباس الاستهلالي، نتساءل:هل يوجد بالفعل معنى للحياة؟ وهل هناك هدف ما وراءها؟ وكيف يجب على البشر أن يعيشوها؟ وما هو تعريف الخير والشر؟ وما هو المعيار الأخلاقي الذى نستمد منه قيمنا؟ كل هذه الأسئلة قديمة قدم الوجود الإنساني ذاته، وقامت عشرات الأديان ودُشِنت الفلسفات على مر العصور، بإعطاء إجابات لهذه الأسئلة وفرض قيم عُليا، يفترض بالإنسان أن يعيش وفقًا لها، وقد كانت في الغالب إجابات متناقضة في ذاتها، ولكنها كانت بالتأكيد مريحة لمليارات البشر الذين آمنوا بها، إيمانًا عميقًا، لدرجة أن كثيرًا منهم ضحوا بحيواتهم من أجل هذه الفلسفات والمؤسسات المصطنعة كالأديان، أو القوميات أو الأوطان أو الأيديولوجيات المختلفة، بالتأكيد لن أتعرض هنا لكل الفلسفات التي ابتكرها الجنس البشري على مدى تاريخه الطويل، ولكن فلسفتين فقط لا غير، هما: “الداروينية الاجتماعية والإنسانوية”.
الإنسانوية باختصار هي فلسفة تضع الإنسان والقيم الإنسانية فوق كل شيء، إذ بدأت مع عصر النهضة ثم عصور التنوير والعقلانية في أوروبا، وبرزت كموجة فكرية تناضل ضد التصوّر القديم للعالم، وضد التدين المحافظ وضد الفلسفة الجامدة، وضد التقاليد الجماعية الموروثة، وتنتصر إلى الفردانية والروح التحررية وإلى الآداب الإنسانية والفنون، والاهتمام بالإنسان من جهة الدراسة والتعظيم فأعلت من شأنه كثيرًا، فاعتبرت أن الإنسان هو أعلى قيمة في الكون وأفضل الكائنات، وآمنت بأن معيار التقويم هو الإنسان لأنه مقياس جميع الأشياء، بينما تفترض الداروينية الاجتماعية أن الأفراد داخل المجتمع يتنافسون من أجل البقاء، وأنه لا قيمة للإنسان في ذاته، بل هو كغيره من الكائنات الحية تسري عليه نفس القوانين الطبيعية، وأن المتفوقين من الأفراد والمجموعات والسلالات يصبحون ذوي نفوذ وثراء، ويؤكد الداروينيون الاجتماعيون أن الأفراد الذين باستطاعتهم البقاء بشكل أفضل، يُثبتون مَقدرتهم تلك عن طريق تكديس الممتلكات والثروة والمركز الاجتماعي.
ووفقًا للداروينية الاجتماعية، فإن الفقر أو التخلف دليل على عدم كفاءة الفرد أو المجموعة.شخصيا أجد أن الداروينية الاجتماعية وإن كانت تبدو قاسية باردة بلا رحمة لنا -نحن أبناء القرن الحادي والعشرين، وقِيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني المعنية بها- أقرب إلى الحقيقة بكثير من الفكر الإنساني، الذي لا يُقدّم شيئًا واقعيًا، سوى مخاطبة النزعة المثالية التي تسيطر على بعض الحالمين من البشر، فالإنسان بداية ليس حرًا، فهو محكوم بواسطة مجموعة من الدوافع الغرائزية والجينات الوراثية والعلاقات الاجتماعية، ولا يحمل أي قيمة إضافية إلا بمقدار ما يستطيع أن يفهمه عن العالم المحيط به، وما يستطيع أن ينجزه بناء على هذا الفهم من تحكّم في الطبيعة واستغلالها لتكون في خدمته.
إذا تتبعنا التطور الأخلاقي للجنس البشري خلال الـ50 ألف عامًا الماضية، فيمكن تقسيمه لثلاث مراحل رئيسية:
أولًا: مرحلة الصيد والجمع
وهي المرحلة التي تمتد من بداية ظهور الإنسان الحديث تشريحيًا (الهوموسابينز) في غابات أفريقيا جنوب الصحراء، قبل حوالي 50 ألف عامًا بعد تطوره حتى اكتشاف الزراعة، وهي مرحلة كان كل إنسان فيها على استعداد للمطاردة، والقتال، والقتل في وقت كان مقياس البقاء فيه هو القدرة على القتل، وأغلب الظن أن كل رذائل عصرنا من قتل، واغتصاب، وسرقة، وقسوة، وطمع وشراسة.. إلخ، كانت مزايا في رحلة الصراع من أجل البقاء.
ثانيًا: مرحلة الزراعة قبل 10 آلاف عام
بعد اكتشاف الزراعة وبداية تشكيل المدن والقرى، ثم الدول فيما بعد، أصبح هناك قانون أخلاقي جديد فالسلام هنا أربح من الحرب، والاجتهاد في العمل أهم من الشجاعة في الحروب، وضبط النفس أفضل من استخدام العنف المفرط، مما أدى الى الإعلاء من قيمة الجماعة والزواج المبكر وفضيلة العفة الجنسية لدى النساء.
ثالثًا: المرحلة الصناعية قبل حوالي 250 عام
غيرت الثورة الصناعية نمط الحياة للمواطن الغربي (أوروبا وأمريكا الشمالية) على وجه الخصوص، فنحن في الشرق لم نصبح مجتمعات صناعية تمامًا مثلهم، بعد أن أعلت الثورة الصناعية من قيمة الفردانية فكل شخص يعمل على آلة بمفرده، ومع تزايد التعقيد التقني وتأخر سن الزواج، سكن معظم الناس في المدن مما أدى إلى تحرير ممارسة الجنس.
وبعد ازدهار الحركات التحررية النسائية واختراع تقنيات حديثة كحبوب منع الحمل، أصبح من الممكن ممارسة الجنس بدون زواج وبدون حمل أيضًا، فانهارت سلطة الأب والأم التقليدية (الأسرة)، وبتقدم العلم والصناعة -التي تقوم في الأساس على آلات ميكانيكية- تراجع دور الدين التقليدي أيضًا، وظهرت فلسفات جديدة ميكانيكية مادية أيضًا، كالاشتراكية العلمية مثلًا (على يد ماركس وأنجلز).
مما سبق يتضح لنا أن الأخلاق كمنظومة مجتمعية وليدة ظروف اقتصادية واجتماعية معينة، وليست نظما مثالية في عقل أحد الحالمين يرغب في تحقيقها. بالتأكيد تواجه العلوم والنظريات الاجتماعية بشكل عام -متضمنة الداروينية الاجتماعية بالطبع- مشكلة أنها ليست علمًا تجريبيًا حياديًا تمامًا بالمعنى المفهوم للعلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء و البيولوجيا، ولكن في حالة الداروينية الاجتماعية تحديدًا، فهي تستند إلى نظرية علمية هي أقوى النظريات التي غيرت نظرة البشرية إلى الأبد للطبيعة وكيفية عملها، (نظرية داروين في التطور وآلية الانتخاب الطبيعي باعتبارها المحرك الرئيسي لها وهي آلية عمياء وليست قوة عاقلة)، وظاهرة التطور -تطور كل الكائنات الحية على ظهر كوكب الأرض من سلف واحد مشترك عاش من 3.5 مليار سنة- وهي حقيقة مثبتة علمية تمامًا كحقيقة دوران الأرض حول الشمس.
وباعتبار أن الإنسان كائن بيولوجي في الأساس، مثل باقي الكائنات الحية، فيمكن اعتبار العلوم الاجتماعية فروعا هامشية لعلم البيولوجيا، وقد تأسست علوم جادة فعلًا في القرن الماضي بناءً على هذا الفرض، مثل علم النفس التطوري، وعلم الاقتصاد التطوري.. إلخ. المحاولة الأشهر لتفسير الظاهرة الثقافية الإنسانية عن طريق آلية الانتخاب الثقافي -بواسطة الميمات التي تلعب دورًا مماثلًا لدور الجينات في التطور البيولوجي، وتم تقديم هذا الطرح لأول مرة في كتاب ريتشارد دوكينز الشهير: الجين الأناني. بل إن الداروينية ممثلة في التطور وآلية الانتخاب الطبيعي، لم تكتفِ بعلم البيولوجيا والعلوم الاجتماعية، فتقدمت إلى أكثر العلوم أساسية (علم الفيزياء)، وهو العلم الذي يمكن اختزال كل العلوم الأخرى إليه، باعتباره يبحث في العلاقات والقوانين الأساسية التي تحكم كل شيء في الوجود، فنجد فرضية العالم الفيزيائي (لي سمولين) عن الانتخاب الطبيعي للأكوان في إطار نظرية الأكوان المتعددة،
وهي بالتأكيد لم تتبلور كنظرية علمية مثبتة بعد، لانعدام المشاهدات التجريبية التي يمكن بواسطتها اختبار النظرية -وهو الشرط الأساسي في العلم الحديث- حتى ولو كانت ذات بناء رياضي محكم، لكنها تفتح الطريق أمامنا الى فهم متكامل وعلمي للوجود بأسره. يجدر هنا الإشارة بأن عالم البيولوجيا الفذ (ريتشارد دوكينز) رغم أن معظم كتبه تقريبًا عن نظرية التطور، وأنه ملحد تمامًا، بل أشهر الملحدين على كوكب الأرض على الإطلاق، فهو يكره (الداروينية الاجتماعية) تمامًا كما صرح في حلقة وثائقية باسم (عبقرية داروين)، في عبارة شعرية تليق بأحد الرهبان البوذيين أكثر من عالم البيولوجيا:
“نحن البشر بمفردنا على هذا الكوكب، تطورنا بما فيه الكفاية لنفهم آلية عمل الجينات الأنانية التي شكلتنا، ولكنها ليست نموذج للطريقة التي يجب علينا التصرف بها، بل على العكس فنحن نملك الوعي و الإدراك الكافي لنتغلب عليها، فبواسطة الأخلاق الطيبة، والعلم الحديث، والأعمال الخيرية، وحتى دفع الضرائب يمكننا التغلب على ميراث الطغيان الممثل في الانتخاب الطبيعي”. ولكن بغض النظر عما يمكن أن يقوله دوكنز -رغم تقديري له كعالم بيولوجي عظيم- أو غيره من الإنسانيين، وهم في الغالب لادينيون، أو ضرب الأمثلة القليلة من التاريخ البشري عن الشخصيات المسالمة، كالملك البوذي (أشوكا) الذى ترك الحروب التوسعية واكتفى بمملكته بعد اعتناقه للبوذية، أو (غاندي) وحركة المقاومة السلمية التي دعا إليها، فتاريخنا البيولوجي، وحتى التاريخ المكتوب على مدى أكثر من ستة آلاف عام يقفان بعنف ضد هذا الكلام.
فإذا تأمل الشخص مثلًا الشخصيات التاريخية، والتي يعتبرها الكثيرون حول العالم شخصيات عظيمة، فسيجد أن معظمهم سفاحون لا يشق لهم غبار: جنكيز خان مثلًا، أمير الحرب الذي قاد الجيوش، وقتل واستعبد النساء والأطفال، وذبح رجالَ وشبابَ قبائلَ كاملةٍ، ومع ذلك يعتبره أهالي منغوليا رمزا لا يُمس، ولا يرون في أفعاله أي خطأ أخلاقي، رغم أنه قال ذات مرة: بأنه يجد المتعة في دموع النساء والعبيد الأسرى، عندما يقتل أقاربهم أمامهم، ولكنه بكل المقاييس أعظم الفاتحين العسكريين في تاريخ البشرية، أو الإسكندر الأكبر.. إلخ. وحتى الأيديولوجيات المثالية كالشيوعية مثلًا التي وعدت بيوتوبيا مثالية على وجه الأرض، من عدالة اجتماعية ومساواة بين كافة البشر، ارتكب باسمها أبشع الجرائم في الحكم من منطلق الغاية تبرر الوسيلة، ولنا في (ستالين) و(ماوتسي تونغ) الدليل والبرهان.
يكفي معرفة أن أكثر أيديولوجية تسببت في مقتل البشر خلال القرن العشرين كانت الشيوعية بحوالي 100 مليون قتيل، وليست النازية أو الفاشية. هل انهزمت ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، بسبب أنها كانت تتبع أيديولوجية شريرة؟
هذا محض هراء، الحقيقة أن فشل النازية كان بسبب هزيمتها في معركة البقاء والانتخاب الطبيعي، باعتبار أن الحرب هي الصورة النهائية للتنافس وصراع البقاء بين الجماعات. طبيعة الجنس البشري المتوارثة عبر تاريخه التطوري الطويل، لا تسمح بتخديره بالأحلام المثالية من قبيل النزعة الانسانية، ما لم نمتلك تقنية تسمح بتعديل جذري في الطبيعة الإنسانية بإعادة برمجة غرائزنا ودوافعنا البدائية.في النهاية أحب أن أختم بفقرة مقتبسة عن مقال لويل ديورانت بعنوان: (البيولوجيا والتاريخ)، وهنا ديورانت يقدم خلاصة تجربته الخاصة مع 10 آلاف عام من التاريخ البشري، قام بتأريخها في موسوعته الشهيرة:
“قوانين البيولوجيا هي الدروس الأساسية للتاريخ، فنحن رهن عمليات الارتقاء ومحاولاته، والصراع من أجل الوجود وبقاء الأصلح في الوجود، وإذا بدا أن بعضنا يفر من الكفاح أو المحاولات، فما ذلك إلا لإن جماعتنا تحمينا، ولكن هذه الجماعة ذاتها لابد أن تمر باختبارات البقاء”. ومن ثمة يكون أول درس للتاريخ أن الحياة منافسة، فالمنافسة ليست حياة التجارة وحسب، وإنما هي تجارة الحياة، تكون مسالمة عندما حين يتوافر الطعام وعنيفة حين تزيد الأفواه على الطعام، فالحيوانات يأكل بعضها البعض دون أي وخز للضمير، والمتحضرون يستهلك كل منهم الأخر عن طريق التقاضي أمام القانون. بينما يكون الدرس البيولوجي الثاني للتاريخ أن الحياة انتخاب واختيار، ففي التنافس على الطعام، أو الزواج، أو السلطة، تنجح بعض الكائنات الحية، ويفشل البعض الأخر، وفي الصراع من أجل الوجود يكون بعض الأفراد مؤهلين أكثر من غيرهم لمواجهة اختبارات البقاء، ونظرًا لأن الطبيعة -وتعني هنا حصيلة الواقع وعملياته- لم تقرأ إعلان الاستقلال الأمريكي، أو إعلان حقوق الإنسان الذى أصدرته الثورة الفرنسية، وهو المصدر الرئيسي للإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948، فنحن جميعًا نُولد غير أحرار، وغير متساوين”.
المراجع:
– كتاب “الجين الأناني” ريتشارد دوكينز.
– كتاب: “الحرب، ما فائدتها”، أيان موريس.
– السلسلة الوثائقية: “عبقرية داروين”.
– مقال: “البيولوجيا والتاريخ”، ويل ديورانت.