يعد سوق الأفكار من بين أهم مقومات التحضر لدى الشعوب، فبعدما كانت سوق القوت أساسا لسوق الفكر في غابر الزمان، فإن التركيبة السوسيو-اقتصادية لعالم اليوم تعكس أولوية سوق الفكر على سوق القوت، فجميع الاقتصادات القوية للبلدان إنما تقوم على مواد خام غير تقليدية وهي: البيانات والمعلومات، وهاتان الأخيرتان تشكلان المعارف بعد ما يتم معالجتها، وتراكم المعارف يفضي بأفكار على أساسها تقوم المجتمعات والبلدان والاقتصادات والجيوش. وما يدفعنا للحديث عن الفلسفة والفكر النقدي ليس اعتباط الطرح، ولا تشتت المذاهب وتنافر المصالح وغيرها من رفاهيات الطبقات المثقفة، وإنما ضرورة ملحة متعلقة ببناء الإنسان والمجتمع وما في ذلك من انعكاسات على الأمن القومي للدول؛ بحيث لم يعد الأمر مرتبطا بالعدة العسكرية في وقتنا الحاضر بل راح يشتمل على القوت والصحة والفكر. ومن هنا تبرز لنا القيمة المتنامية للفلسفة كمنهج للتفكير يقتضي الطرح والنقد، والابتعاد عن التقديس والتسفيه، والالتزام بالمتأصل وترك المتشابه، واستثمار في اللا يقين كسبيل للإثراء والربا والنمو، فلا سبيل للنهضة دون فكر، ولا سبيل للفكر من دون فلسفات طارحة للأفكار، ولا سبيل لهذه الأخيرة من دون تسلح الإنسان بأدوات التشكيك والنقد.
الفلسفة في البلدان المغاربية
المعنى الذي نقصد استدعاءه بمصطلح الفلسفة في هذا المقال هو نهج إنتاج المعارف والبحث عن الحكمة وليس المعنى الضيق الذي ارتبط في أذهان العديد من الشعوب المغاربية، حيث أصبح مقابل الفلسفة في أذهاننا هو الحديث المكثف حول ما وراء الطبيعة والإسهاب في فكر التسامي، وهذا في حد ذاته يشكل أزمة للفكر في ظل تراجع منزلة الفلسفة والمعرفة لدى الشعوب وبذلك تتراجع منزلة بلداننا عن ركب التطور والتحضر، والحديث عن الماضي المشرق للفلسفة وفكر الأنوار الذي كان سائرا في بلدان المغرب العربي ليس بشيء يحد بمقال، فهي كثيرة تلك المشارب الفكرية العظيمة التي نشأت في أرض تمارغا على مر عصور غابرة، إلا أن الوضع في واقع الحال مؤسف بحيث ضمرت مشارب الفكر واضمحلت إلى أن وصلت إلى حدود دنيا تكاد تنعدم، فها هي بلدان شمال افريقيا تخلو من مناهج فكرية حية، والمفكرون فيها استحالوا إلى ذلك سبيلا، فبحسب موقع أصوات مغاربة فإن حجم المحتوى المنتج في اللغة العربية على الإنترنت يشكل 0.7% من حجم الإنتاج الفكري العالمي، ولكم في ذلك أن تقيسوا نصيب البلدان المغاربية في ذلك، ولعل ذلك راجع لأسباب عديدة منها ما يرتبط بالإنسان، ومنها ما يرتبط بالمجتمع، وكذا المؤسسات الرسمية منها والخاصة.
الإنسان منظومة قيم وأفكار
إن ارتباط الإنسان بالفكر هو ارتباط وجودي، فكلما فكر الإنسان أكثر كلما زادت فرصته في الوجود كفرد وكنوع، كما أنه لا يمكن الحديث عن وجود الإنسان خارج حسابات الفكر، فالوجود الإنساني قائم على ثنائية الوجود والوعي؛ فوجوده بجسده ووعيه بذاته من خلال فكره، كما أن ماهية الإنسان قائمة على ما يقدمه من أفكار خلاقة في جميع الأصعدة، وما نشهده من تطور في الحضارات كله قائم على الأفكار، فكل حضارة بشرية قامت أو هي قائمة أو ستقوم إلا وكانت ترتكز على مجموعة من القيم والأفكار.وهنا نقف أمام المشكلة الجوهرية التي تجول بيننا –كشعوب مغاربية، وشعوب دول العالم الثالث- من بلوغ الحاضرة ودولة المواطنة، إلا وهو غياب منظومة فكرية قائمة على طرح الأفكار ومناقشتها وتطبيقها ونقدها، ليس ذلك فحسب بل تمكين المجتمعات من اكتساب آليات لصناعة الأفكار، الشأن الذي يجنبنا الوقوع في أخطاء الانغلاق على الطرح الواحد والرأي الواحد اللذين دائما ما ينتج عنهما مجتمعات متحجرة منغلقة على أنفسها غير قابلة للنقد ولا لتقبل الآخر وفكره، ودول شمولية تحكم شعوبها بالحديد والنار، فعجز الشعوب من خلال نخبها عن طرح الأفكار يسهم في انغلاق الرؤى لدى المجتمعات مما يؤدي بها إلى الانسداد وتقديس الفكر الكلاسيكي، ومن هنا تضعف الشعوب وتتراجع في التأثير في الحياة العلمية والثقافية والسياسية في العالم، ما يجعلها دولا مستهلكة عاجزة عن التفكير والإبداع والإنتاج.
النقد كآلية لإنماء الفكر النقدي
تكمن منزلة النقد في الفلسفة بكونها آلية تنمي الأفكار وتقومها وتسقطها في بعض الأحيان، فأهمية النقد ليس لغاية النقد وإنما لغايات الاستثمار في الانتقادات من أجل إعادة تقيم الأفكار وتمكين المفكرين من تقويمها وتصحيها، فالأفكار التي لا يتنم نقد هي أفكار ميتة في واقع الحال، بحيث إن النقد البناء هو ما يجعلها تخطو نحو الأمام، وذلك من خلال آليات النقاش الجاد، فكل فكر ينقد هو بالضرورة يثير النقاش والجدال، وكل الأطروحات التي تنتج عن النقد هي إنما إثراء للفكر المنتقد. بينما تلك الأفكار التي لا تقبل النقد هي أفكار زائلة، وذلك لافتقارها لآلية التجديد، التي تمكنها من مواكبة متطلبات واقع الحال، فكل عصر ونسقه الفكري والقيمي والاجتماعي والأخلاقي، ووحدها تلك الأفكار القابلة للنقد والتغيير هي الأقدر على الحياة والاستمرار، بحيث إنه علينا دائما أن نقبل التغير لأن الأفكار تتغير والأشخاص يتغيرون والأماكن تتغير والظروف تتغير بل وحتى الحياة نفسها تتغير، ومن لا يقبل بالتغيير يموت، لأن التغيير هو محرك الحياة.
ومن مستلزمات النقد البناء، وجود قنوات اتصال تتسم بالشفافية والحياد تمكن المفكرين من الأخذ والرد ولعل أحدث تقنيات هذه القنوات بعد الاتصال الجماهري المكتوب نجد الصحافة المرئية ووسائل التواصل الاجتماعي، والمطلع على الشؤون في البلدان المغاربية يتفطن إلى أزمة الصوت الحر، حيث جميع الأفكار الخارجة عن السياق الجماهري العام أو تلك التي لا تتوافق مع سياسات الدول الشمولية تجهض وتنعدم، بل ويتعدى الأمر في بعض الدول إلى سن قوانين مجحفة تعاقب كل النقاد وأصحاب الأفكار الجديدة. ولقد شهدت الدول المغاربية مناهج فكرية عديدة، منها ما تم محاربتها لمخالفتها للرؤى السياسية للدولة ومنها ما تم إسقاطها بفعل عدم ملاءمتها مع القيم المحافظة للشعوب، ولقد شهدت الجزائر مناهج فكرية قليلة في الآونة الأخيرة إلا أن جلها لم تسلم من المحاربة والتجديف أو من التقديس.
تقديس الفكر مهلكة للفكر
لم تشهد دول شمال أفريقيا تقديس الأفكار والمفكرين إلى بعد استقلالها من الاستعمار الأوربي، إثر تبنيها لمحور الدول الشرق أوسطية وما ترتب عن ذلك من طمس لهويتها الأصلية (الهوية الأمازيغية)، وكذا تشرب القيم والأفكار الشرق أوسطية، حيث ترتب منه توجه اشتراكي على المستوى السياسي قائم على وحدة التفكير وسلطات شمولية قائمة على الحزب الواحد والفكر الواحد والأخ الأكبر أو الزعيم الأوحد. كل هذه العوامل كانت نتيجة لسلطة الهيئات الدينية التي سادت بعد الدولة الدينية البحتة في تلك المناطق حيث تزاوجت السياسة بالدين وأصبح فكر الحاكم والسلطان وآراؤه من المقدسات لأنها من كتاب الله، ومن ينتقد أو يعارض السلطان كمن يعارض الله نفسه، فحسب الفكر نفسه فإن طاعة ولي الأمر من طاعة الله، ومن هنا ورثت جميع دول محور الشرق أوسطية دولا شمولية وفكرا واحدا مقدسا منزها من كل عيب غير قابل للنقد، لم يترتب على ذلك إلا تراجع في الفكر والطرح والفلسفة نتيجة للترهيب والتخوين والتكفير، حتى آلت جميع دول المحور إلى دول جاهلة، فاشلة غير منتجة، مستهلكة اقتصاديا وفكريا، وتابعة لا رائدة، بل وحتى لحق بها العجز حد انتفاء مقومات الشعوب ذات الهوية والسيادة، فالدول التي لا تفكر هي دول من دون هوية، والدول التي لا تفكر هي دول من دون سيادة ومن دون كرامة.
تأطير نحو مجتمعات المعرفة
الطريق نحو مجتمعات المعرفة ليس مفروشا بالورود بل يستلزم علينا تفعيل آليات الفكر النقدي، والاعتماد على المنهجية العلمية الدقيقة في الطرح والنقاش والابتعاد عن المناهج الكلاسيكية التي أبسط ما يمكن عينا أن نصفها في عصر المعرفة بالدوغمائية على غرار الأساطير والعادات والتقليد والأديان المسيسة، بغية تحقيق آليا تواصل جادة وبناءة. كذلك لابد من تفعيل جميع المرافق الثقافية وضمان دمقرطة الولوج إلى الفضاءات الثقافية، مع توسيع مجال حريات التعبير من خلال حزم قانونية تحث على التفكير والنقد والإبداع، كما أنه يتوجب على قطاعات الفكر كـ مؤسسات الثقافة والمؤسسات الوسيطة والإعلامية والتعليمية أن تكون ضمن مجال التخطيط الاستراتيجي للدول، واعتبار تجلياتها من أولويات الدولة وضمان استمرارية نشاطها الحر فهي بذلك تشكل وجها من أوجه الأمن القومي، وليس مجرد تخم معرفي وفاكهة للمثقفين والإعلام.