في مسرحية المومس الفاضلة لسارتر تقف ليزلي تحادث الزنجي عن سبب تعاطفها مع المجرمين البيض واعترافها لهم بأن الزنجي الأسود حاول اغتصابها مع أنه بريء، قالتها له إنها فعلت ذلك لأنهم بيض ولأنهم بيض فقط، إنهم متفوقون هم جنسٌ آخر كما هي مومس تبحث عن سلوى جدة ذات شعرٍ أبيض، هذا الشعور الذي لديها هو ذاته ذلك الشعور الذي يملكه الزنجي في دواخله ومفهومه حول تفوق الأبيض وقوله إنهم على حق لأنهم بيض، تعطيه ليزلي المسدس ليدافع عن نفسه أمامهم ولكنه يقول إنه لا يستطيع فالرصاص لا يضرب البيض، إنهم على حق لأنهم بيض. هذا الشعور بالنقص وبتفوق الأخر كجنس هو نفس ذلك التفوق للآخر الذي تشعر به نساء العصر على الأغلب وخصوصًا في دول العالم الثالث، ومحادثة امرأةٍ عراقيةٍ أو يمنية يعتبر كافيًا لتوضيح هذه الصورة عن الاعتقاد بالتفوق الذكوري وحقه في الهيمنة والتسلط وواجب أو حتمية خضوعها له.
هذه المرأة تظن أن له الحق في الذنب والخطيئة والحق الأصيل في المغفرة لأنه رجل، الحق الأصيل في القرار وتحديد المصير حتى بالنسبة لمصيرها وخياراتها وسلوكها هو الذكر وفقط لأنه ذكر، إن هاته النسوة المسكينات هن ذلك الزنجي في مسرحية سارتر. و لكن ما يدعو للتساؤل هو ما الذي قد يجعل من المرأة في هذه القيمة الإنسانية والمركز الاجتماعي، هل هي مشكلةٌ تعود أصولها لذات المرأة كما ترجع مدرسة التحليل النفسي كل مشاكل الإنسان لعقد نفسية داخلية تخلق مأساته الوجودية، أم أنها فقط متعلقةٌ بالعالم الخارجي والنظام الاجتماعي لوحده؟ أو أنها متعلقةٌ بالاثنين معا؟ في هذا الشأن تعيب الوجودية على مدرسة التحليل النفسي أن مأساة الفرد ليست فقط ضمن ذاته كما يراها فرويد ورواد المدرسة، وإنما هي مرتبطة بالعالم لعلاقته بالحياة، ولأن الفرد والمرأة جزءٌ من هذا العالم وعضو فيه، أي في عالم القيم.
هذا العالم من القيم هو ما يعرِّف الفرد ويعرف كذلك بدوره المرأة، القيم الاقتصادية والاجتماعية وهذا يعني دراسة المرأة من خلال وضعها الكلي في هذا العالم.ووقوفًا أمام الواقع المادي فإن التقنية قطعت مشوارًا طويلًا في مسير النسوية الساعية للمساواة، حيث إنها قلّصت أو ربما ألغت الفرق العضلي والقوة الذكرية في العمل الصناعي والإنتاجي وأصبحت الآلة تحل محل هذا التمايز البيولوجي الذي جعل من الذكورية تفرض نفسها كعضوٍ متفوق في الجنس الإنساني كما يتبنى إنجلز في المادية التاريخية هذا الفرض، لكن أصبح الآن معيار العمل مختلفًا حيث إن المجهود المبذول في عملية الإنتاج من السهولة أدائه من الذكور أو الإناث. سيمون دي بوفوار، فيلسوفة الوجودية ومنظرة النسوية في الفلسفة الوجودية تدخل في بحثٍ فلسفي، بيولوجي، تاريخي ومينولوجي لقيمة المرأة كجنسٍ أخر أمام الرجل الذي يعتبر نفسه كائنًا إنسانيًا، لتدخل في مناقشةٍ تعلن فيها موقف الوجودية من المرأة أمام المادية التاريخية ومدرسة التحليل النفسي وتابوهات المألوف من القيمة المتدنية للمرأة.
القضية النسوية في المادية التاريخية
المادية التاريخية عند إنجلز ترجع الصعود الأبوي الذكوري واضطهاد المرأة بعد غلبةٍ وسلطةٍ أمومية إلى تاريخ التملك الفردي والعبودية الذي جعل من الذكر متملكا للأرض والإنتاج والعبيد بما فيهم المرأة وأدى ذلك إلى تراجع دور المرأة من الإنسان المنتج إلى الإنسان المنزلي المملوك للذكر، ما تريد دي بوفوار الوصول إليه إن الاستقلال الاقتصادي ومشاركة المرأة في الإنتاج له الدور الأبرز في تحقيق مساواتها وإعادتها للمربع الأول من التاريخ الإنساني الذي كانت هي فيه فردا منتجًا تحقق التساوي مع الذكر. إن القول بأهمية المشاركة في عملية الإنتاج كعاملٍ مهمٍ وأساسي لتحقيق المساواة في النضال النسوي هو أمرٌ حقيقيٌ وعلميٌ بحت، حيث إننا لو عدنا للوراء قليلًا لإلقاء نظرة على وضع المرأة قبل ظاهرة ما يسمى بالصحوة الإسلامية في المنطقة سنجد أن وضعها كان أفضل من حيث دورها الاقتصادي في عملية الإنتاج والفِلاحة كفردٍ منتج وما كان ينعكس أيضًا بدوره في مشاركتها في الحياة الاجتماعية، على العكس منه اليوم الذي أصبح فيه دور المرأة الإنتاجي معيبًا وذلك لاستحواذ الذكر على دور المنتج وإبقاء المرأة حبيسة الأعمال المنزلية والخدمية للعيش اليومي الذي ينعكس بدوره أيضًا على مشاركتها في الحياة الاجتماعية ومكانتها داخل الأسرة التي أصبحت أكثر أبوية.
القضية النسوية في الفلسفة الوجودية
ومع كل هذا فإن المراة ليست مجرد كيانٍ اقتصادي كما تنبه عليه دي بوفوار في المذهب الوجودي، فالمطالبة بالمساواة وتحرر المرأة من الهيمنة الذكورية ومشاركتها في عملية الإنتاج وتحمل المسؤولية لا يجب أن يكون بالضرورة منتهيًا إلى استرجالها أو تحولها لذكرٍ آخر، فهي كائن إنساني ذو غريزة جنسية يختلف دورها عن تلك في الرجل وعلاقتها مع الأمومة تختلف أيضًا عن علاقة الأبوة. فمطالبة المرأة باعتبارها كائنًا إنسانيًا لا جنسًا آخر، وسعيها لإثبات هذا الإعتبار وما يعنيه من تحقق فرصٍ وحقوقٍ متساوية مع الرجل باعتبارهما كائنين إنسانيين، لا إنسانًا وجنسًا آخر، لا يعني إهمال وضعها الخاص كأنثى أو إلغاء فرديتها وكينونتها الأنثوية. القضية تتطلب بحثًا مينولوجيًا يرجع لأصل الإنسان تاريخيًا وفكريًا، بحيث تثار تساؤلاتٌ مثل ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ وما الذي يمكننا به تعريف كل شخص أو ما هي المحددات التي سنميزه بها عن غيره؟ وما هي المرأة وما هو الرجل؟ الوجودية كما ترى أن هؤلاء كلها وجودات ولكن ما يحدد التعريف هو الماهية ووصف هذه الماهية، لذا يقول سارتر إنه لا يمكننا تعريف الشخص إلا بأفعاله وأعماله ولا يمكننا أن نعرفه بما لم يعمله. و هذا بالطبع سيقود إلى تعارض مع فكرة التفوق النسوي في مجتمع الزراعة الأول كما تتبناها مادية إنجلز التاريخية، حيث ترى دي بوفوار أن أنوثة الآلهة في مجتمع الزراعة ليس تفوقًا وإنما هو وضع آخر لوصف المرأة كجنسٍ آخر وبقاء التوصيف للكينونة الإنسانية متصلًا بالوجود الذكوري فقط، وهذا ما يدفعها في كتابها الجنس الآخر للدخول ضمن بحثٍ تاريخي مينولوجي يدرس قيمة المرأة من منظارٍ وجودي مختلف عن المنظار المادي.
تاريخ القيمة النسوية بعينٍ وجودية
ترى دي بوفوار أن ما منح قيمة للوجود الإنساني هو تلك التضحية الذي يقدمها الرجل في بذله حياته لإيجاد غاية من الحياة ومغزًى لها لا قبوله الحياة كهبة أو اعطية وإنما مخاطرته بها لقيمةٍ معينة وهي الغاية التي يحددها هو، أما المرأة في هذا الدور وقعت في مأزق التكرار الذي يفرضها عليها التوالد والتناسل ومهامها البيولوجية التي تلحق بها المهام المنزلية الرتيبة الفاقدة للتجدد والإبداع، بينما الذكر امتلك ذلك الإبداع في صناعته لقيمة جديدة للحياة وهي الغاية وتمرده على قيمة التكرار، بينما المرأة بقيت حبيسة قيمة التكرار نفسه، أي القيمة التي فرضها عليها الوجود بيولوجيًا في عملية الحمل والإنجاب والتربية، وهذا يعني أيضًا أن أيًا من الكائنين الرجل أو المرأة الذي يعلق في قيمة التكرار والمهام البيولوجية التي يفرضها عليهم الجسد هم فاقدون للمعنى في الحياة وفاقدون للغاية. إن الحياة بطبيعتها فاقدة للمعنى وللغاية، الطبيعة العمياء، الصراع داخل الدائرة الطبيعية نفسها ورتابة ذلك التكرار في الموت والحياة دونما هدف هو ما يثبت لا غائية الحياة، ولذا فإن ما يمنحها معنًى وغاية هو ما يحدده الفرد من غايةٍ لتحقيقها في الحياة وهي القيمة الحقيقية التي تشكل الماهية وتمنح الوجود غرضًا ومعنى خاص، وهذه القيمة هي خارجة عن تلك القيمة البيولوجية القائمة في التكرار اللاغائي، وهذا ما تحتاجه المرأة في تحقيق وجودها ككائن إنساني لا جنس آخر، تحتاج هي الأخرى لخلق قيمة إبداعية وهي الغاية الوجودية لها بعيدًا عن الفروض البيولوجية التي يفرضها عليها تكوينها. يبقى الإنسان والذكر الإنسان في المجتمعات البدائية وحتى يومنا هذا تمرد على قيمة التكرار، وصنع قيمة سيادته وتسلطه على الطبيعة، فهو لم يقف مكتوف اليدين بل حاول أن يكتشف أسرارها وكيف يستطيع إدارتها في صالحه فاكتشف الزراعة واخترع لنفسه أدواته التي يدافع بها عن نفسه وأدوات الزراعة والبناء، من ثم استأنس الحيوانات الأخرى واستعبدها ومازال يمضي في نسقٍ تطوري يطوع كل شيء حوله يُسهم في تمكنه من إمساك زمام الأمور في الوجود المحيط به.تتحدث عن ذلك دي بوفوار بتعبيرها أن الرجل رفض قيمة التكرار الزمني وأراد السيطرة على حاضره وصناعة مستقبله، وإلى جانب هذه السيطرة على حاضره في قيمة جديدة استطاع بها أيضًا إخضاع المرأة إلى جانب الطبيعة. ما دامت المرأة هنا حبيسةً لجسدها ومهامه التكوينية فهي لن تستطيع تحقيق أي تغييرٍ في مكانتها الاجتماعية ونيل الاعتبار ككائنٍ إنسانيٍ لا جنسًا آخر، أي بتخلصها من قيمة التكرار وتمردها عليها وصناعة قيمة جديدة لها، قيمةٍ تكون معنًى لوجودها.
سلطة الأمومية
السلطة الأمومية أيضًا كما تفسرها المادية التاريخية كحالةٍ سبقت وضع الهيمنة الذكورية استقراءً لأنوثة الآلهة وآلهة الخصب الأنثى وتقديس دور المرأة في الإنجاب وتمثيلها بالطبيعة في المجتمع الزراعي البدائي إلى أن انقلبت عليها الذكورية وانتجت انتكاسة للسلطة الأمومية وتحولت للسلطة الأبوية في المجتمع. لكن دي بوفوار ترفض وسم هذه الفترة بعد الزراعة والاستقرار العشائري بفترة زهاءٍ أنثوي، ذلك أن قيمتها هي ذاتها التي يحددها الرجل وأنها وضعت في هذه القيمة بناءً على معطيات الرجل الذي يعتبر نفسه كائنًا إنسانيًا بينما هي جنس آخر، وخصوصًا أن ظهور قيمة الملكية الفردية يوضح ذلك من حيث سلطة الذكر وملكيته وتفرده بالسلطة السياسية والقيادة أما المرأة فبقيت عالقة بمستلزماتها البيولوجية. علاوةً على أن السلطة والمسؤولية أبوية وذكورية، فالمرأة التي تتزوج تنتقل للعيش في بيت الرجل وعشيرته وليس الرجل من ينتقل لبيتها في أغلب الأحوال. و تأليه المرأة كما تقول دي بوفوار كان مرتبطًا بالزراعة، أما الرجل الذي بدأ عهدًا جديدا باكتشافه البرونز وخلق الصناعة جعل منه ذلك يقهر الطبيعة الغامضة التي يخافها وأصبح يطوعها شيئًا فشيئًا ليفتتح عهدًا جديدًا أكثر قوة للهيمنة الذكورية والسلطة الأبوية، لتبدأ تغير أدوار الآلهة الإناث لتكون هي الأخرى خاضعةً للآلهة الذكور ومزدوجة معها.
علاقة الملكية الفردية بقيمة المرأة
من جهةٍ أخرى كان انخفاض قيمة المرأة في المجتمع القديم مرتبطًا بالملكية الفردية التي تجعل المرأة هي الأخرى من ضمن هذه الملكية الذكورية التي تواجه العالم وتمارس مهامها في الخارج أمام المرأة العالقة بشدة في مهامها المنزلية، إضافةً لذلك ما يتبع من وقوع المرأة تحت سلطة الوصاية الذكورية. فالنظام الاجتماعي الذي يخلد الأسرة ويسعى للحفاظ على الثروة لوجود ملكيةٍ فردية سيضطهد المرأة بحيث تبقى الملكية للرجل الذي يبقى ضمن الأسرة على عكس الإناث التي لا تعتبر فردًا أساسيًا في الأسرة فهي تنتقل للعيش في أسرة أخرى بعد الزواج. تستشهد دي بوفوار أن أحسن أحوال المرأة كانت في مجتمعات الملكية العامة كما كان في مصر التي كانت الملكية منحصرةً فقط بيد الملك والطبقات العليا الصغيرة أمام العامة الذين لا يقدرون على التملك وكونهم عمالًا، وهذا نوعًا ما مشابهٌ إلى حدٍ ما من جهة وضع المرأة لتلك الملكية العامة في الاشتراكية التي يصبح فيها كلٌ من الرجل والمرأة عمالًا لا فرق بينهم مع أن دي بوفوار قد تعتبر هذا القياس ناقصًا أو أنه يغفل حقيقة أنوثة المرأة إلا أننا قد نصل لنقطة التقاءٍ مشتركة بينهما من حيث تأثير الملكية الفردية في التاريخ على قيمة المرأة. شاهدٌ حيٌ على أثر الملكية الفردية ورغبة تخليد الأسرة الذكورية الانتساب هو مشاكل العنوسة وقضايا العضد التي تمنع فيها الأسر، في مجتمعات العالم الثالث وخصوصًا المنطقة العربية، المرأةَ من الزواج خوفًا من خروج الثروة من ملكية الأسرة وذكورها لأبنائهن الذين ينتمون ذكوريًا لأزواجهن حال طلب الميراث، أو حرمان النساء المتزوجات من الميراث لنفس السبب.
منتهى القول
إن منتهى القول في القضية النسوية الوجودية هو أن المرأة في حاجةٍ لاعتبار نفسها كائنًا إنسانيًا عبر إيجاد غايةٍ وجوديةٍ لوجودها، تمنح لحياتها معنى تتغلب فيها على مستلزماتها البيولوجية كما فعل الذكر بدوره ذلك وحقق هذه الهيمنة الأبوية، ولكن ذلك لا يعني أيضًا خلق هيمنةٍ نسويةٍ جديدة وإنما تحقيق مساواةٍ لقيمة المراة أمام قيمة الرجل في عالم القيم ككائنٍ إنساني لا جنس آخر. إن نجاح هذه القضية تبدأ من حيث تتسامح المرأة مع نفسها ومع جسدها كما يفعل الذكر، وتتخلص من القوالب النمطية التي تحدد لها معايير الأنوثة في المجتمع الذكوري، فهي في هذه المجتمعات مقموعة الأنوثة وتتحول لمجرد جنسٍ آخر، فالشعور بإنسانية الأنوثة وجمالها يؤسس لقيمة المرأة ككائن إنساني، على عكس ما تفعله رهبة الجسد وما يسمى عورة الجسد والسلوك الموجه اجتماعيًا الذي يجعل المرأة نفسها ترى ذاتها كجنسٍ آخر أمام الرجل. طلب نيل القيمة الإنسانية في عالم القيم يعني أيضًا الاستعداد لتحمل المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية والمشاركة في سوق العمل وكسر تقاليد الضعف التكويني للمرأة في المخيلة الشعبية والدينية من حيث السعي لاستقلالٍ ماديٍ لا الاتكاء على الرجل والاعتماد على نفقته، فهذه المسؤوليات التي يتكفل بحملها هي أهم عوامل فرض هيمنته الذكورية الذي تشعره بتسيده. تشريعات الوصاية الذكورية في النصوص الدينية والقوانين هي الأخرى عقبةٌ أمام امتلاك المرأة لقيمتها الإنسانية في المجتمع، وهذا يجعل من تجاوز هذه العقبة وتحقيق تغييرٍ حقيقي ضرورةً ملحة في مسيرة النضال النسوي على المرأة الساعية لنيل كينونتها الاجتماعية تبنيها وإحراز تعاطف وصوت الذكور إلى جانبها. و يجدر التكرار أيضًا أن النسوية هنا من زاوية الوجودية لا تعني تفوقًا على الذكورية وإنما مساواة مع الذكر في عالم القيم تفرض فيها المرأة حصولها على ذات الفرص والمزايا والقوة المتاحة للكائن الإنساني في المجتمع الإنساني الحر.