اختلف توصيف مصدر الأخلاق منذ ظهور الأديان والمعتقدات والفلسفة اليونانية، فكان لكل من رجال الدين والفلاسفة وعلماء الاجتماع توصيف مختلف لمصدرها، أما رجال الدين فقد جعلوه نتاجًا طبيعيًا للأديان؛ بل هو المصدر الوحيد لها. وجعلوا كذلك التعاليم الإلهية المنزلة على الناس في شكل أوامر ونواهٍ، هي التي تبين الخير والشر، لذلك كان الدين في نظرهم أساسًا للأخلاق، ولأن الدين صادر عن الله المتصف بالكمال، فهو منزه عن الخطأ، وأن تعاليمه جاءت لتقرر ما هو خير وما هو شر. ورأى ابن حزم أن الدين الإسلامي هو أساس كل القيم العليا. أما الأشاعرة فاعتقدوا أن الشرع هو المصدر الوحيد للأخلاق، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، وأن العقل لا يملك القدرة على التمييز بين الخير والشر. وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره. فلا اختيار لإرادة الإنسان أمام إرادة الله، لأن الشرع مُخبِر، والعقلَ مُجَبر. باستثناء المعتزلة الذين قالوا إن الحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل.إلا أن رد القيم الأخلاقية إلى الدين وحده، تخالف ما جاء به الشرع ذاته، وذلك بدعوته إلى إعمال العقل في كثير من النصوص. وتخالف أيضا مقتضى تمييز الله للإنسان بالعقل دون سائر المخلوقات.أما الفلاسفة فمنهم من نسب فعل الخير إلى العقل فقط؛ فقال كانط: “إن الإرادة الخيرة لا تكون خيّرة بما تحدثه من أثر أو تحرزه من نجاح، ولا بصلاحيتها للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك، بل إنها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده، أعني إرادة خيّرة في ذاتها؛ فالمنفعة لا تستطيع أن تضيف إلى القيمة شيئا”.
فلا يكون سلوك الإنسان حسنًا إذا كان قد أقدم عليه من منطلق الصداقة أو القرابة أو بداعي الشفقة، لأن هذه الميول والرغبات والعواطف تفسد الفعل الحسن، فيجب فعل الخير من منطلق الواجب فحسب. والأخلاق الحقيقية هي التي لا ترتبط بما يريده الناس؛ بل التي تدعو إلى القيام بالواجب دون اعتبار للناس أو النتائج. وانتقد ذلك الاتجاه آخرون فقالوا إن الأخلاق تؤسسها مرجعية العقل الممزوج بالعاطفة؛ فالعقل وحده دون العاطفة لا يدرك معنى الفضيلة دون قيد أو شرط. وهناك من يرى أن المجتمع هو المصدر الوحيد للقيم الأخلاقية. وعلى رأس هؤلاء دوركايم، والقائل بأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وهو منذ الولادة يميل إلى العيش مع الجماعة وينفر من العزلة، وأن البيئة الاجتماعية هي التي تعمل على تكوين الضمير في الفرد عن طريق التقاليد والأعراف والأوامر والنواهي والتربية بصفة عامة؛ بل جعل الضمير هو المجتمع إذا تكلم. لذلك نجد الأخلاق تختلف من مجتمع إلى آخر. وإننا إذا عدنا إلى تاريخ الحضارات نجد ما يثبت فكرة الأصل الاجتماعي للأخلاق، فهناك مثلا اليونان الذين أباحوا الرق، وأقره كبار مفكريهم مثل “أفلاطون”. وعند الرومان كانت المرأة وأولادها ملكًا للأب وحده، وله حرية التصرف فيهم.
بل منهم من رأى أن الأخلاق لا تختلف من مجتمع إلى آخر فحسب؛ بل هي متغيرة من زمان إلى آخر، كما أكد ذلك “برويل” حين قال بأن الأخلاق ليست قواعد عامة ومبادئ ثابتة؛ بل سلوكيات متغيرة يمكن ملاحظتها؛ مثل تشريح الجثة الذي كان يعد قديمًا فعلًا لا أخلاقيا، فصار اليوم مقبولا. إلا أن هؤلاء أيضًا تجاهلوا الواقع الاجتماعي الذي يتميز بالتغير المستمر، نتيجة ما يعتريه من ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية. وهذا يعني أن الأخلاق متغيرة لا استقرار لها. كما أن لكل مجتمع عاداته وتقاليده، وهذا ما يجعل الأخلاق نسبية ومغلقة على بيئتها. وأن ربط الأخلاق بالجماعة قد يؤدي إلى فساد الأخلاق وزوالها، فبعض الممارسات الاجتماعية قد تكون فاسدة وغير أخلاقية، كالزواج بالمحارم في بعض المجتمعات. أما من جعلوا السعادة في اللذة، والخير في تعدد المنافع، فهؤلاء من أصحاب الاتجاه النفعي، فالأخلاق تتعدد معاييرها، وهي مطلقة غير ثابتة. وقالوا بأن اللذة هي الخير والفضيلة، والألم هو الشر والرذيلة. قال أبيقور: “اللذة هي غاية الإنسان، ولا خير في الحياة إلا اللذة، ولا شر إلا الألم، وليست الأخلاق إلا العمل لتحصيل السعادة، وليس للفضيلة قيمة ذاتية، إنما قيمتها في اللذة التي تصحبها”.
فقد أسس هؤلاء للفعل الأخلاقي على أنه يتماشى مع ما هو مراد ومُشتهَى، وأنه إرضاء للطبيعة البشرية، لأن الإنسان بطبيعته يرغب في اللذة ويتجنب الألم. واتجه “جرمي بنتام” أن معيار السلوك الأخلاقي هي المنفعة، والخير عنده هو الذي يؤدي إليها، وبالتالي تحقيق السعادة، ولكنها مسألة فردية. واتسعت دائرة السعادة عند “جون ستيوارت ملّ” حين نادى بأن مقياس الخير لا يجب أن يحقق سعادة الفرد فحسب؛ بل سعادة الجماعة، وأن سعادة المجموع خير لمجموع أفراده، ومن ثم تكون السعادة هي إحدى غايات السلوك البشري ومعيار الأخلاق”. إلا أن معيار المنفعة لا يمكنه أن يكون أساسًا للأخلاق؛ لأن ما يحقق لي منفعة ما، قد يحقق لغيري ضررًا، أي أن الفعل الواحد قد يبدو خيرًا لفرد، وشرًا لآخر. وما يحقق منفعة معينة، قد يمسُّ بقيم المجتمع الأخلاقية. وهذا التضارب بين المصالح الفردية والجماعية قد يؤدي الى صراع بين أفراد المجتمع، ولن تراعى مصالح الضعفاء ولا الفقراء بسبب مادية الأخلاق النفعية.
ثم جاء المنادون بالمذهب العاطفي، ومنهم آدم سميث وآرثر شوبنهاور وأوغست كونت كتعديل لمذهب المنفعة، وذلك النوع من التفكير مبني على إشباع رغبة الأنانية، وكلّ فعل يصدر عن ذلك المبدأ لا يكون فعلًا أخلاقيًا، بمعنى أنّ كلّ فعل يصدر من الاِنسان يكون هدفه وغايته هو الإنسان نفسه. فذلك هو فعل خارج عن إطار الفعل الأخلاقي، وإنّما الفعل الأخلاقي ما كان له صلة بالمجموع وانتفاع الغير به، وأن يكون المبدأ لصدور هذه الأفعال، هي الأحاسيس الإنسانية التي فُطر عليها الإنسان. ولكن يؤخذ على ذلك المذهب أنه جعل فعل الأم -مثلا- تجاه رضيعها ليس فعلًا أخلاقيًا، لأنه ليس له صلة بالمجموع. وكذلك فعل الوالد تجاه أبنائه. ثم ظهر مذهب القوة الذي دعا إليه “نيتشه” كردّ فعل على الأخلاق المسيحية التي تستند إلى المذهب الأخلاقي المتأثر بالرواقية، والذي أدى إلى اتجاهات أخلاقية سلبية تدعو الناس إلى الاستسلام للقضاء والقدر، ومن هنا شعر نيتشه بأنّ من يتربّى على هذا المذهب، سوف يكون إنسانًا خاملًا مستعدًا لتحمل الظلم، فانبرى لمواجهة هذا المذهب الأخلاقي، وثار في وجه الأخلاقيات المسيحية التي تدعو إلى بثّ العبودية في نفوس أتباعها، ولا تربِّي إنسانًا فاعلًا مؤثِّرًا. ويرى نيتشه أنّ القوّة والسلطة هما أساس الأخلاق الفاضلة كلّها. وفي شرحه لنظريته الأخلاقية، يرى أنّ كل موجود حي يحب حياته، ويريد المحافظة عليها، وهذا الأمر يحتاج إلى القوة. لذا فإنّ الإنسان الضعيف محكوم بالهزيمة والفناء.
ورأيُ نيتشه يناقض الدينَ عمومًا، وخاصة الدين الذي يدعو إلى إله واحد يجمع الأقوياء والضعفاء معًا، فلا قيمة للدين ما لم يُنشِئ أمام القوة الطاغية ضميرًا يكبحها ويهذبها، ويجعل في الناس وازعًا للقوة البدنية والمطامع والشهوات. أما مذهب العقلانية المنفتحة، فدعا إليه “كارل بوبر” حين اتخذ من المجتمعات القائمة في الغرب الأوروبي والأميركي نموذجًا لمفهوم المجتمع المنفتح، جاعلًا من الديمقراطية الليبرالية مثالاً أعلى للنظم الاجتماعية. ولم يتخلَّ “بوبر” عن ثقته بالعقل، ولم يتوان عن نبذ العنف والاستبداد، وعن التشديد على ضرورة سيادة الحوار العقلاني في حلّ الإشكالات العالقة، على الرغم من الأزمات التي عصفت بالتفكير العلمي وبالقيم الثقافية والأخلاقية. والعقلانية المنفتحة هي عقلانية نقدية، تمارس النقد على كل التوجهات العلمية والفلسفية، وترفع كل وصاية على العقل وتتركه يبحث عن الحقيقة بلا سلطة تُفْرَض عليه، سواء السلطة الدينية أو سلطة فلسفة أرسطو. وهي أيضًا عقلانية تعلن الحرب على الجمود الفكري والتعصب الذي أصبح تقليدًا، لأنه ليس أخطر على الشعوب والحضارات من السكون والتوقف الذي تولده نظرة غير نقدية تؤمن بالتابوهات وتحنّ إلى الخرافات.