قبل الحديث عن مؤثرات الوجودية في الأدب الروسي ، تشتهر الوجودية بين قريناتها من المدارس ونظائرها من الاتجاهات بمذهب الـ “لامذهب”، وبالمنهج الفاقد للخطوط الواضحة والمعالم الموضوعية والملموسة، ولذا فمُهمتها دائما غير هينة كمهمة معتنقها أو القارئ فيها؛ فهو يحاول دائما تصور الأشياء، وإعطاء الأشياء معنى، وإعطاء المعنى صورة، وقولبة الصورة التي تحمل المعنى في فكرة، وإدراج الفكرة الواحدة في أفكار كبرى تحملها عبارات وسطور ذات مغزى، ومن هُنا قامت الوجودية على ركيزتين أساسيتين، وهما: “القلق الوجودي” الذي ينغص على الفرد دائما كلما كان أكثر وعيًا وإدراكا لمعاركه الحياتية، و”الموقف الفردي” تجاه آلاف الأسئلة اليومية التي تعد نتاجًا للقلق الوجودي. ونواة الوجودية سقراطية حينما حدثنا عن الحتمية الفردية بضرروة أن يحمل الفرد ذاته مهمة معرفة نفسه بنفسه، وحمل لواء أفكارها إعلام آخرون كالقديس أوجستين، وباسكال وشعراء وفلاسفة آخرون كانت جذوة وجوديتهم كـ رد فعل/موقف أمام سلطوية الدوجما أو المعتقد أحيانا، أو النزعات الاشتراكية وفلسفة الكوميونات التي تسلب الفرد ذاته في إطارات الجمعنة.
ولفهم فلسفة ما أو اتجاه فلسفي بعينه، ليس شرطًا بأن تلهث وراء إعلامها ومنظريها، أو أن تطلع على تنظيراتهم ومؤلفاتهم الأكاديمية التفسيرية الشارحة للاتجاه أو التيار الذي يبشرون بأهمية اعتناقه، بل يكفيك الاطلاع على تجسيداتها وتمظهرها -أي هذه الاتجاهات- في الإنتاجات الأدبية/الفنية/التصويرية. وحينما يتعلق الأمر بـ “الوجودية”، يكون مناط الدفاع عن الفكرة السابقة قد جاء في محله؛ فاتجاهٌ كالوجودية دوره الرئيسي إلا يريح قارئه، وإسباغ التشتت فيمن يحاول أن يسبر أغواره ويفهمه، أو أن يرغب في عيشه، أجدر بأن تتسلسل أفكاره وسط القوالب القصصية والروائية والدرامية الفنية، ولم لا ولكل وجودي وجهة نظر ترفض غيرها، ولكل فيلسوف اتجاهه الرافض لغيره بموقفِ لا يقل في حدته ما انتهجه كيرجارد -منظر الوجودية الأول- ضد هيجل. وليس من فراغ أن قد تسللت الوجودية في ثقافتها المعاصرة -منذ أن حُمِلت شروحاتها بادئ ذي بدء في مجلدات منظريها كسورين كيرجارد ونيتشه وهيدجر- من بواية “الأدب” خاصة في أعمال كامو ومارسيل وسارتر، والمفارقة هُنا المُميِزة للوجودية على غير الاتجاهات الأخرى، أن معظم إعلامها أدباء وقصاصين. فأجدر المواقف الوجودية يمكن تشخيصها أفضل من أن تحملها الأدبيات الأكاديمية، والإبداعات الروائية والقصصية الوجودية أشد تأثيرا وتعبيرا مما تقدمه النظريات التي تتسم بالجفاف، وهنا تأتي قيمة قَولة جان بول ساتر في المقالة التي كتبها عام 1945م وجعلها مقدمة لمجلّته (الأزمنة الحديثة)، ومن ثمَّ أصبحت كالدستور للأدب الوجودي، وتتلخص في أن لكلّ كاتب موقفًا في عصره ومسؤوليةً تجاه مجتمعه والإنسانية بصورة عامة، ونتيجة لذلك، يشعر المطلع بفردانيته التي ضمنها له القالب الأدبي في حريته الكاملة في أن يتعاطف مع البطل الوجودي ويرى فيه نفسه، أو أن يرفضه رفضا كاملا.
وقد رأينا ممارسات أدبية وجودية عفوية منذ مئات السنين -حتى وإن لم تفصح عن انتماء التيمة الرئيسية إلى التيار المعني بشكل مباشر- وكأنها كانت مقدمات وإرهاصات غريزية في نفس الأديب لأن ينسج أفكار وجوديته في حضور بطل قلِق – حبكة وصراع تحملان موقفًا وجوديًّا – أحداث تتوازى مع أسئلة لا متناهية من شخوص العمل، وأبرز أنموذجين هنا “حي بن يقظان” لابن طفيل، و”روبنسون كروزو” لدانيل ديفو. وحينما أعلنت الوجودية عن نفسها -بين القرنين التاسع عشر وأوائل العشرين- كتيار فلسفي له اعتباره بالتوازي مع تمظهرات واسعة لاتجاهات العبث وظهور فيما يُعرف بـ”الأدباء الساخطون” و”الشعراء الصاخبون” ومحاولات وجهودات التوفيق بين الموضوعي والذاتي والمطلق والنسبي والعمق الفكري والثقل المادي، كانت الحاجة مُلحة لأن تقفز صور الأدب وتتصدر المِزاج الوجودي، خاصة بعد الأزمة الروحية العالمية التي أخلفتها الحروب، متفوقة على الافتتاحيات والمجلدات الفكرية والممارسات النظرية الأكاديمية للوجودية.وأبرز المدارس البارعة في هذا المضمار، كانت الفرنسية بلا شك، إلا أن هناك مدرسة كانت لها قولتها، وأعلت كلمتها بخصوصيتها وتفرد أفكارها الوجودية، وطبيعية مواقفها الوجودية التي تجعلها تتصدر -في كثير من الأحيان- بشكل عفوي الاختيار بين مزاجات القُراء حتى وإن لم يستقبل القارئ/المُطلِع العمل بوعي وجودي، أو بقولة أخرى، لم يكن ضمن رَكب الفارين من التنظيرات الهايدجرية الكيرجاردية. وهي المدرسة الروسية التي كانت الوجودية أحد أهم بواعث أعمالها، وضمن أهم مؤثرات إبداع عظمائها. أدبٌ قد تأمل الألم، دون أن يكتفي بإخراج أصوات وخز التألم ليزيد أوجاع القارئ أوجاعًا وعذابه عذابات، بل صور أمام عينيه أسباب تألمه التي يقف الكثير منها وراء النزعات الوجودية المختزنة داخل نفوس الأفراد التي تريد إخراج الصور والأفكار لتمتزج بالمعنى أو على الأقل لتشكل معاني جديدة.
تقول سفيتلانا أليكسييفيتش أديبة روسيا والحاصلة على نوبل عام 2015: “صفحات المعاناة في الأدب الروسي أكثر من صفحات الحب”، ومن هنا كان من الضروريّ أن تضع مدارس الأدب الروسية الإنسان أهم ركيزة في أولوياتها، وأصبح الإنسان لدى المبدع الروسي هو مركز الفلسفة، ومن هنا كانت الوجودية التيار الأحق بالاعتناق من قِبَل ناثري وشعراء الأمة السُلافية، وقد طرحت مدارس الأدب الروسي قضية المصير البشري بشكل فج، ودور الفرد أمام عجلات التاريخ بشكل مثير للفضول وبصراحة مرعبة تنطوي على يأس كبير من المجهول الذي سيحدث. وأيضا قد كان السبق هنا لمدارس الأدب في روسيا، في إعلانها بصراحة مطلقة أن التطورات الاجتماعية والطفرات الفكرية والتقنية لا تعد بمثابة حل أمام انفراد الإنسان بمشكلاته وتساؤلاته، وكذا الأخلاق والضمير والدين تعجز عن التصدي لمثل هذه الإشكالات وصراعات الإنسان مع التناقضات بين الواقع من جهة ونوازع الفرد ودواخله من جهة أخرى. وقد ظهرت إرهاصات الوجودية في الأدب الروسي قبيل الحرب العالمية الأولى في إبداعات نيكولاي برديائيف وشستوف وناباكوف وجزدانوف وجوكوفسكي، لتفترض بشكل أدبيّ غير مباشر أن التفرد المطلق للإنسان مفترض، ومشكوك في منطقيته، وحضور الوجود البشري لا يمكن وصفه بمصطلحات علمية، كما لا يمكن التعبير عنه بمساعدة الكلاسيكيات الفلسفية التقليدية وشروحات الأنثربولوجيا والبيولوجيا. واستكشفت الأعمال الأدبية الروسية في باكورة تعبيرها عن الوجودية، إمكانية الفرد التغلب على جوهره الخاص، وارتكزت على الطبيعة العاطفية للفرد، مع الشك في منطقية وجوده، والتركيز على فكرة “الغريب” وسط المجموع، مع التركيز على المكونات الروحية والعاطفية والنفسية لدى الفرد دون انفصال، وتشابهات الناس في قلقهم وخوفهم من إيجاد المعنى، وعبر أشهر قصاصي روسيا أنطون تشيخوف عن هذا المعنى قائلًا في أحد المواضع: “يشعر الأشخاص الذين جمعتهم المأساة المشتركة بنوع من الارتياح عندما يجتمعون معًا”
وتوسعت دائرة تجسد الوجودية في مناحي الحياة الإبداعية الروسية لتشمل الرسم والدراما والموسيقى، وتطورت في الأدب بشكل استثنائي على يد بوشكين ولرمنتوف، جوجل، تيوتشيف، تورجينيف، تشيخوف، تالستوي، وداستاييفسكي. وقد كانت مصطلحات “العزلة”، و”الاستبطان”، و”تحقيق الذات”، ومحاولات الانفصال الوجودي عن الأحداث اللحظية واليومية والحياتية العامة، هي الأسس التي تربط الأبطال والشخوص بالإبداعات الوجودية المتطورة في إبداعات من سلف ذكرهم وغيرهم، ومن هنا كما يقول الناقد الروسي الشهير ف. روزانوف: “يتراجع القارئ، ينزوي للحظات عن التفاصيل، وعن تفاصيله الحياتية بالأخص، ومخاوفه، من أجل احتضانهم جُملَة، لفهم الحياة هذه بمعناها العام”. وبتطور الوجودية في الأدب الروسي وصراح موضوعاتها داخل القوالب القصصية والدرامية، عرف الجميع -خاصة ممثلو الكلمة والانتلجنسيا- أن هناك أزمة تلوح في الأفق في المجتمع والفضاء الروحي لدى الفرد، حيث تم استكشاف الطبيعة الكارثية للوجود، و”أزمة الوعي” و”وحدة الفرد” وعلاقة الإنسان بالعالم التي يمكن وصفها بالكلمة المألوفة لدى أدباء روسيا “الاغتراب”، ومن هنا لم يكن هناك صوت يعلو على صوت “النصوص الرمزية الوجودية”، واكتسب -على سبيل المثال- أبطال ككارامازوف وراسكولنيكوف عند داستاييفسكي قيمة تأصيلية -تؤسس لتيارات فرعية داخل الوجودية- أكثر من كونهم أبطالًا وشخوصًا أدبية. وقد كان ضعف الموقف الديني – الكنسي عاملًا هامًا في دفع رغبة التأمل لدى المواطن الروسي في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين؛ ليناقش المفاهيم والمعايير التي يجب وأن يحيا بها الفرد، بالإضافة إلى الحاجة الملحة لوجود إجابات على تساؤلات الفرد عن ماهية الوجود، ومن هنا ظهرت شخصيات كثيرة في الأدب الروسي وقد حملت المسؤولية الإصلاحية الروحية وقد وِكلت إليها عنوةً من ممثلي الكنيسة لتتحدث بخطاب ذات طابع علمانيّ. ومن هنا كانت أحد أهم سمات الوجودية الأدبية الروسية الترسيخ لفكرة “عدم الإيمان الجماعي” أو “الوجود الديني في عالم غير ديني”، فكان “الظلام الروحي اللامتناهي” هو القضية المركزية للفلسفة الروسية والأدب الروسي في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.
وتشكلت المفاهيم الوجودية لتتخذ منحى الاحتجاج من أجل الحرية السياسية والاجتماعية خاصة في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، يتركز الخطاب الأدبي الإيديولوجي للوجودية بمثابة الرغبة في الانعتاق من النظام الشمولي السائد إبان هذا الوقت، فكانت ثمة ثورة تدور في العقول الشابة المعارضة سرًا، الذي أدى إلى تشكل مفهوم “التمرد” بشكل مركزي ليصبح المحدد الأول لمزاج التفكير العام ليتم التعبير عنه دلاليا أيضا ليتمحور حول أفكار عدم قبول الفرد لأي شيء بعد سقوط تابوهات الأنظمة السياسية والدينية، والحظر من أي شيء، وانقسام الصور الوجودية التي يسعى الإنسان بها لأن يحتوي العالم الخارجي ويفهمه، ليجدها مشابهة في تشوشها وتشوهها لما يوجد بداخله، ليصل إلى الحالة التي عبر عنها أحد الأبطال الوجوديين في إحدى روايات الأديب الروسي ليونيد أندرييف؛ قائلًا: “كان وحيدا وحدة قاسية، كأنما لم يكن موجودًا في الكون كله، أحد غيره”. وتجد أصداء الوجودية واضحة ومتجلية في إبداعات داستاييفسكي كـ”الجريمة والعقاب” و”الأخوة كارامازوف” و”مذكرات قبو”، ولإمبراطور القصة الروسية أنطون تشيخوف إسهامات لها قيمتها ووزنها في حقل الأفكار الوجودية، نذكر منها “حكاية مملة”، “الرجل السعيد”، والكثير من أعمال ليف تالستوي بالإضافة إلى الكثير من أصداء ترجماته الذاتية، وأشهر قصص الأدب الروسي “المعطف” للأديب نيكولاي جوجل تعد أحد أهم الصيحات الوجودية بالأدب الروسي، و”الآباء والبنون” لإيفان تورجينيف، و”بطل هذا الزمان” لميخائيل لرمنتوف والأمثلة كثيرة لا يمكن حصرها. ومن منطلق انخراط الأدب الروسي طيلة عشرات السنين في التعبير عن المفاهيم الوجودية ليجعلها مذهبا خالصا متفردا متخذا صورة أخرى “مذهب الإنسان”، كان من الضرورة أن تشكر الوجودية الأدب الروسي على الفرصة التي أتاحتها لهذا المذهب لأن يعبر عن نفسه بعيدا عن الفرضيات الجافة والكلاسيكيات الأكاديمية التي تثقل على المهمومين والقلقى من القراء معتنقي الوجودية.