كان من البديهي بوجهٍ ما في فترةٍ من عمر الفكر الإنساني أن يقاس الفعل كخلقٍ من حيث إنه طيبٌ أو خبيث، ولذا فإن الفعل الجيد والخلق الحسن ما كان طيبًا والخبيث ما كان سيئًا، ولكن ما الذي يجعلنا نرى أن الطيب أمرٌ جيدٌ والخبيث سيئ؟، أو لماذا نلصق بالجيد القيمة السامية ولا نجعلها في السيئ؟، وما الذي يجعلنا نحكم بحسن الجيد ونبل الطيب وخبث السيئ؟، وفوق كل ذلك ما الذي يجعلنا نؤمن بهذه القيم وما هو أصلها، وهل هي حقًا قيمٌ واجبة أو أنها مجرد قيمٍ تخضع للإرادة؟ .الكلام هنا ليس سفسطةً وإنما معضلة حقيقية، يعيشها الفكر، ترتبط بالتاريخ واللغة والفكر، ولا تقف عند ذاتها وإنما تدخل في تاريخٍ من الجدال الظاهر الخفي، الظاهر لانتباه المفكر وإرادة الحقيقة والخفي عن الظاهرة الاجتماعية عامةً في موضوع علية الحكم بالقيمة السامية على الأخلاق، هذه المعضلة هي بحث قضية أصل الأخلاق وجوهرها كقضيةٍ حكمت الجنس البشري أو ربما الوعي الحيواني ككل وأسهمت في تشكيل إيقاعات حياتهم وضبطها وفق مساراتٍ ثقافيةٍ معينة تحكمت حتى بالمصائر. وفي سبيل إرادة الحقيقة تلك التي كانت بمثابة إله الفلسفة باعتبارها المحرك الأول لها وعلة إيجادها نشأت طريقةٌ أخرى لبحث الموضوع وهو مينولوجيته، أي تقصي منشأ الموضوع نفسه ومعرفة أصله للحكم عليه.
جدل الأخلاق
كثيرًا ما تتردد أسئلةٌ بديهيةٌ على ألسنة جمهور المتدينين تجاه معارضيهم من اللادينيين بمختلف أفكارهم، ومع أن هذه الأسئلة هي أسئلة فكرية مرّت على سجالات الفكر عبر التاريخ في فلسفة القيم إلا أنها ترد على ألسنتهم بسطحيةٍ ساذجة لا يمكن للمفكر عادةً الوقوف أمامها لعقم النقاش معه. من الأمثلة على هذه الأسئلة السطحية هو كيف لن ينكح الملحد أمه إذا لم يكن هنالك دين؟، ولسطحية السؤال الباهت هذا لصنع أرضية تفهيمٍ عقلانية نغير السؤال للصيغة ” كيف تكون هنالك أخلاق (قيم) إذا لم يكن هنالك دين أو إله؟”، والسؤال هنا سؤالٌ معقول بالنسبة للأغلبية المتدينة التي تلتزم القيم بالعود على مصدرٍ غيبيٍ أقوى يلزمها بها، وللفلسفة الوجودية هنا رأيٌ يستوجب في البداية إعقال العاطفة ودراسة القيم من حيث مينولوجيتها.
إرادة السماء أم المصلحة
أرسل العالم والشاعر الصيني لين تسي رسالته البديعة للملكة فيكتوريا عند توليه مهمة إيقاف تجارة الأفيون وهو يقول لها “لا انحياز في شرع الله، ولا يجوز إيذاء شخص آخر لتحقيق النفع الذاتي، وإذا كانت مشاعر البشر واحدة فهل هنالك أحد لا يبغض القتل ولا يحب الحياة، وفي أمتكم العظيمة التي تقع على بعد ثلاثين ألف ميل وتفصل بيننا وبينها عدة محيطات لا اختلاف في شرع الله ومشاعر البشر، وليس هناك أحد لا يدرك الفرق بين الموت والحياة، والنفع والضرر”، إنها لحقًا رسالةٌ بديعة تنم على حكمة صاحبها، جعل فيها أصل الأخلاق ومعيار الحكم فيها عاملين أساسيين هما شريعة الآلهة ومشاعر الإنسان، ولا أحتمل نفي إعجاب الملكة بذلك وعجزها عن رفض طرحه الذي قدمه في مطلع رسالته هذه وما أتبعها من كلام لولا المصالح الاقتصادية التي كانت ستخسرها بريطانيا جراء ذلك. لكن المشكلة هنا في حقيقة الدافع لدى لين تسي في كتابة هذه الرسالة واتخاذ إجراءاته في وقف تجارة الأفيون، هل الدافع هو غيرته وإرادته لتحقيق هذه العدالة وتحرجه من فقدان قيمةٍ خلقية سامية تنتهك في هذه التجارة، أم أن الأمر أيضًا عائدٌ لمصلحة من يمثلهم ومن كلفوه بهذا العمل وهي السلطة، إن الحقيقة تكمن خلف الفضة التي كانت تذهب لجيوب الإنجليز وتترك السوق الصينية خاليةً منها وتجعل من أفيون شركة الهند الشرقية على رأس قائمة الإنفاق الصيني، إنها المصلحة العامة ربما ولكنها مصلحة السلطة التي يمثلها لين تسي قبل كل شيء، وهنا أصدر حكمه بالخبيث كما تصدر فيكتوريا حكمها بخبث نيته وأنها محض صراعٍ اقتصاديٍ لا علاقة له بالله أو مشاعر الإنسان التي تحدث عنها تسي.
التفسير السايكولوجي الإنجليزي للطيب والخبيث كتفسيرٍ حاضر ليست له تواصلية تاريخية، حيث ينتقده نيتشه ساخرًا من أن القيمة التي تعطى للفعل الطيب هي لا أنانيته أي تنزهه، وهذا التفسير طبقًا لمصلحة المنتفعين من الفعل الذي أثرت مصلحتهم فيه على حكمهم وإضفائهم القيم على هذه القضايا وانتهت بها في تناسي ذلك مع الزمن وبقيت القيمة لصيقةً بالفعل والحكم المطلق عليه دون معرفة لسبب ذلك، وهو غائب في معرفة علية تفسير الطيب مع الزمن، حيث يرى فريدريك أن سببية إطلاق الحكم يجب أن تكون دومًا حاضرة ومتجددة في وعي من يضفي على الفعل أو الشيء تلك القيمة. فالأخلاق هنا بهذا المعيار هي عكس ما يلصقونه بها من قيمٍ ثابتة فهي نسبيةُ الحكم كما نسبية الخير والشر هي نسبية الخبيث والطيب، فمعيار الحكم الأصلي على الخُلق هو المنفعة التي يتحصلها بقية الأفراد المنتفعين من الفعل وليس ما يتحصل عليه مؤدي الفعل الذي قد يكون القوي الذي يوهم بالقيمة السامية التي تتضاد مع إرادة القوة عنده.
مينولوجيا الأخلاق
يرى نيتشة أن منشأ التضاد بين الطيب والخبيث يرجع في الأصل إلى ذلك الشعور بوعي الرفعة والتفوق للعرق المسيطر والغالب أمام العرق الآخر، ويعبر عن ذلك بحق السؤدد الذي يسمح لصاحبه بالوضع اللغوي، حيث يذهب إلى أن أصل اللغة فعل من أفعال السلطة صادرٌ عن الغالب الذي يطلق على الفعل والشيء لفظة من الألفاظ فيتملكوا ذلك الفعل والشيء. يستمر في دعم رؤيته باستقرائه لمعنى مفردة الطيب التي يقترن معها النبل والنزاهة وما يقابلها الخبيث المقترنة المرادفة للفظة السيئ التي تشترك في الجذر مع كلمة البسيط في اللغة الألمانية واستقراءً عامًا لأصل المعنى في اللغات الأخرى، ويصل إلى أن هذا بنية جوهرية لأصل الأخلاق وفصلها، فقد تملكت الطبقة والأعراق النبيلة صفة النبل التي اقترنت بالطيب كألفاظٍ أطلقوها على الفعل وتملكوها لوصفهم وقابلتها تلك التي تعبر عن الأعراق التي دونهم من البسطاء والعامة والتي اشتركت في معناها مع السيئ والخبيث.
القيام بقياس لهذه الجزئية في الثقافة العربية يوصلنا للبحث اللغوي لمعنى الطيب والخلق الحسن والذي يقترن به مرادفًا له أيضًا النبل والشرف، نعم الشرف الذي يشارك تصاريف أخرى كالشريف والأشراف نفس الجذر اللغوي وهو الشرف الذي يقابله تضادًّا السيئ والسوقية والعامية. الأشراف والعوام هي توصيف لفظيٌ آخر تاريخي في الثقافة العربية وهذا ما جعل من الشرف وصفًا للأخلاق وهو أصلها هنا الذي امتلكته الطبقة العرقية المسيطرة وصاحبة السلطة، فصنعت منه معنًى للطيب والقيمة العالية والفاضلة للطيب الذي يعبر عنهم والخبيث الفاقد لتلك القيمة كمرادفٍ للطبقة التي يتفوقون ويسيطرون عليها. هذا الشرف، الذي أصبح بعد نسيان القيمة والعللية لمنشأ التضاد بين الخبيث والطيب في وصف الأخلاق، يعتبر الآن القيمة السامية ومرادفًا للطيب أي الخلق الحسن، بينما هو في بادئ الأمر توصيفٌ طبقيٌ وعرقيٌ للعرق المسيطر في واقعٍ تاريخيٍ معين قبل سقوط القبيلة أو الدولة الدينية في المجتمعات العربية في ظروفٍ تاريخية مختلفة.
القيم وجوديًا
يستشهد سارتر بقولٍ لديستوفيسكي “إذا كان الله غير موجودٍ، فكل شيءٍ مباح”، هذه القيم التي تقيد السلوك الإنساني وتوّصِّفه بين الجيد والسيئ أو الطيب والخبيث قيم مجتمعية كانت الآلهة هي ما يقوِّم سلوك المجتمع ويجعله يقوم بأفعالٍ معينة ويرفض أخرى طبقًا لرغبة الله كما يعتقدها. ابتدأها الفلاسفة ومنظرو الأديان بوصفها ذات سلطةٍ غيبية أكبر من الإنسان هي ما تحدد وجوده، ولذلك قام المجتمع على الأخلاق تلك وفقًا لرهبته من هذه القوة الغيبية التي نسميها آلهة وسقوط هذه القوة من وعي المجتمع يقوض أركانه، لأن هذه القيم لديه كان مصدرها الآلهة عنده وليس اختياره هو لنفسه. الأمر الآخر هو العاطفة التي تقف خلف هذه القيم باعتبار أنها صادرةٌ عن عاطفةٍ ما لا يمكن صدها وهو ما يرفضه سارتر بقوله إن الوجودي لا يؤمن بقوة العواطف ولا أنها قد تؤدي بالإنسان إلى إثبات أعمال معينة، فالإنسان مسؤولٌ عن كل ما يصدر منه عن عاطفة والأمر لا يمكن أن يُرجَع إلى غيبيات أو تدفقات غيبية يُلهَم بها أو يتلقاها كوحي وإنما تأويله وفق ما يحلو له.
حتى أكثر المجرمين عتوًا أو أولئك المذنبين، إنهم حين يرتكبون فعلتهم يحملونها تبريراتهم في قرارة أنفسهم ويحيلونها إلى عواطف وأسباب هم المسؤولون عنها وما هي إلا تأويلهم الخاص بهم لها. يقود سارتر تبنيه قول عدم وجود الله إلى عدم وجود القيم المعقولة أيضًا وهذا ما يعني عدم وجود الخير بصورة مسبقة بحيث إن عدمية الله تعني عدم وجود وجدان لا متناه يعقل ذلك الخير، وهذا يقود لوجودٍ إنسانيٍ بحتٍ كما يقول سارتر لا علاقة له بالله أو لقيمٍ هو مصدرها. يخلص سارتر في مذهب الوجودية، ابتناءً على سبق الماهية على الوجود، إلى أن الإنسان هو مشروع وجوده وأن مجموع أفعاله هو وجوده هذا في حرية التزامه ووضعه لقيمه التي يتخذها هو ويكون بها ذاته بناءً على فعله الذي يصدق هذه القيم التي يتبناها. ومع كل هذا التزاحم في فلسفة القيم التي لا يتسع لها مقامٌ للحصر ومع دراستها مينولوجيًا للعودة تقصيًا لمنشأها في الوجود ينتهي الجواب بتساؤلٍ آخر يطرحه الوجوديون واللادينيون على الطرف الآخر المتدين مثالًا بسطحية وبساطة، ما الدافع لك لتقدم على ما تعتبره أنت خيرًا؟، هل الدين والله هو ما يجعلك تقدم عليه وبالنتيجة أنه إذا ما انعدم الدين والله لن تقدم عليه؟… ثم ما الذي يجعلك لا تتركب هذا الفعل الخبيث أنت؟ هل الدين هو فقط ما يمنعك عنه؟.