خمس سنواتٍ مرت من عمر كانفجار للزخم المستمر منذ ظاهرة الربيع العربي التي طافت الكثير من بلدان الوطن العربي. بعد خمس سنوات يسترجع الحوثيون مناطق شاسعة كانت الشرعية قد استعادتها في بداية حرب اليمن لتكون الجماعة الطرف المسيطر على الكثافة السكانية التي تمده بالعنصر البشري الأكثر تطلبًا في دوره العسكري من الحرب. قادمًا من موروث ميثولوجيٍ تاريخيٍ ثقيل يحكم قبضته ويمسك زمام دولته بالحديد والنار لإعادة صياغة الوعي الجمعي وصبغه بصبغته الجامعة للطائفية والتمييز العرقي أيديولوجيًا في مركبٍ واحد، محاولًا تكرار التجربة الإيرانية أو الإيرانية نفسها تحاول تكرار تجربتها ولكن باحترافيةٍ أكبر وخبرة أربعين عامًا من الثورة والصراع. التخوين، المحاكم، الاختطافات، والإخفاء القسري كلها أساليب يتخذها تجاه خصومه في تأليب الرأي العام المحلي الذي يقبع تحت سلطته على معارضيه سعيًا لإحكام سيطرته الأمنية وحماية مؤخرته.
تستولي الجماعة على مؤسسات الدولة تباعًا عبر صناعة سلطةٍ سلالية تطمئن لجانبها من حيث الإيمان بالقضية ووحدة الهدف، وتصل لذلك عبر التخلص من مراكز القوى وإعادة هيكلتها وتنحية عناصر الأنظمة السابقة حتى بعض الشخصيات التي تعاونت معها سابقًا. رجوعًا للوراء للعام ١٩٧٨م حين خرجت الجماهير الإيرانية وقواها السياسية تطالب بمحاكمة الشاه بهلوي حيث اصطفت جنبًا إلى جنب كل قوى المعارضة تلك التي تقبع اليوم لاجئةً في أوروبا كشماعةٍ يعلق عليها النظام الإيراني مبررات سياساته القمعية بعد تصنيفه إياها كمنظمات إرهابية كمجاهدي خلق. الكثير من تلك القوى العلمانية والقومية اصطفت لرحيل الشاه إلى جانب الرجل الديني المنفتح عليهم والذي يجاملهم مديحًا لرئيس الوزراء القومي السابق محمد مصدق ونضاله ضد الملكية، كما كلام الإمام ودعوته للديمقراطية لعشرات السنين مضت. الحركة الدينية ترتب نفسها وتصنع من عناصرها كيانًا آخر موازيًا للجيش والدولة وتستولي عليه شيئًا فشيئًا كما تقضي على رفاق الثورة أعداء العقيدة في آنٍ واحد. البيئة المتدينة خلقت جوًا مناسبًا لصناعة جيشٍ مكونٍ من أبناء الشعب وخصوصا الطبقة الفقيرة والمتدينة والتي تعتبر في البيئة التي يحكمها الحوثيون أخصب وأكثر مرونةً لتقبل المشاريع الطائفية. دخول الحرب مع دول التحالف وقوى الداخل كان مفيدًا لتجربةٍ إيرانيةٍ دامت ثمانية أعوام من الثورات الداخلية لقوميات متعددة كمحافظة كردستان الكردية والأهواز العربية بالإضافة إلى الحرب الخارجية شكلت عامل قوةٍ بيد النظام الديني في طهران ما سمح لها بتجييش الشعب ككل وصناعة دولةٍ أكثر عمقًا في الوسطين الشعبي والمؤسسي. هذه التجربة استفاد منها الحوثيون وحققوا الكثير عبر تكرار الإستراتيجيات التي اتبعها النظام الإيراني في حربه وصناعة قوى التعبئة الشعبية وجعلت منه في موقع قوةٍ أكثر من تلك التي كان النظام الإيراني عليها في حربه مع العراق.
يحس الحوثيون والمحور الذي يقف خلفهم بمصيرية المرحلة ولذا فهم يعملون في آنٍ معًا على الصمود وإحراز الانتصارات العسكرية وتمييع قضية الشرعية واستعادة الدولة في المحافل العالمية والدبلوماسية مع بناء دولةٍ قمعيةٍ عميقة كتلك التي تقف خلفهم عبر إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وصناعة أجهزةٍ قمعية بديلة لتلك المتهالكة في إرث النظام السابق وتخرج من رحم الجماعة إلى جانب المكون الاجتماعي كقواعد تنظيمية ضمن أصغر التقسيمات الإدارية للمناطق صعودًا للمركز كقواعد تعبئة واستخباراتٍ داخليةٍ تحافظ على أمن جبهتها الداخلية وتقمع أي تحرك أو صوتٍ مناهضٍ في الداخل. قمع الحريات والأصوات المعارضة، الاختطافات، الإخفاء القسري، التعيينات السلالية، الإقصاء، غياب الخدمات، جباية الأموال والضرائب، عدم دفع الرواتب والاستحقاقات وفرض فكر الجماعة كفكرٍ يمثل الشعب والدولة تحت مسمى الهوية الإيمانية اليمانية يعري الجماعة الحوثية من أقنعتها لتظهر كوجه آخر لدولة طالبان الأفغانية. ومع الكثير من المواراة والاستتار على استحياء يتكشف امتداد النظام الإيراني في اليمن يومًا بعد آخر وتقف حركة أنصار الله الحوثيين عاريةً أكثر أمام الشعب اليمني والرأي العالمي، ولكنها هنا ربما قد نجحت في تغيير الكثير من المفاهيم في توصيف عمقها الخارجي كجانبٍ حميدٍ وقيمةٍ حسنة على عكس امتلاك القوى المعادية لها على الجبهة السياسية والعسكرية لعمقٍ خارجي وهو ما يوصف بالخيانة، ولذا فالحقيقة كانت نسبية إذا لم يكن خلف الحقيقة حقيقة.
على الضفة الأخرى
على الجانب الآخر شرعيةٌ حاولت التحايل على الاتفاق السياسي عقب الربيع العربي في ٢٠١١م المبادرة الخليجية التي قضت بتزمين الفترة الانتقالية، فكانت رغبةً من القوى المسيطرة على الحكومة والرئيس هادي في تحقيق مزيدٍ المكاسب عبر تمديد الفترة الرئاسية وتقسيم الأقاليم التي قضى بها الحوار الوطني الشامل وفق خارطةٍ قد تستطيع ربما الحد من قدرات الحوثيين ومقدراتهم، ولعل هذا كان شرارة الحرب. تسيطر جماعة الإخوان المسلمين حزب التجمع اليمني للإصلاح على مفاصل الشرعية وكوادرها على الجانبين المؤسسي والعسكري وخصوصًا بعد فرار الرئيس هادي من اليمن وإعادة تشكيل ما يسمى بالجيش الوطني الذي تسيطر عليه الجماعة وتسجل ٧٠ في المائة من أفراده كرقم وهمي من القوة البشرية. تراجع قوة جماعة الإخوان في المنطقة إجمالًا والهزائم التي تتلقاها أمام غريمها في اليمن بالإضافة لعمقها السياسي والعقائدي خلق للشرعية الكثير من الأعداء في صفوف التحالف العربي وأصبح يغير من وجهة نظر المجتمع الدولي تجاه الحرب في اليمن بعد أن كانت انقلابًا أضحت صراعًا تقليديًا بين قوى شرعية تطالب في السلطة.
جنوب اليمن الذي كان أسرع المناطق تحررًا من قبضة الحوثيين هو الآخر أصبح طرفًا ثالثًا معاديًا للشرعية التي تسيطر عليها الجماعة بعد تبرؤ الإمارات ميدانيًا من الشرعية وصنعها لمشروع سلطة الأمر الواقع في الجنوب على غرار تلك في صنعاء أنصار الله الحوثيون. السعودية التي أصبحت ترى مجاهدي البسيج والنظام الإيراني في حدودها الجنوبية وما تخبئه الأيام لها في قيام نظام فقيه آخر على حدودها يجعلها تتمسك بورقة القشة هذه وهي تغرق في المستنقع اليمني وتحاول خلق بدائل لجماعة الإخوان. المجتمع الدولي قد يرى من المشروع الشيعي لإيران محاولة فرض قوتها أمام السطوة الأمريكية والغربية في المنطقة والقبول بها كأمرٍ واقع في المنطقة، بينما جماعة الإخوان المسلمين في اليمن فهي شيءٌ آخر ربما أكثر سوءًا باعتبارها ملاذًا أو وكرًا للإرهاب العابر للحدود.
جرائم الحرب، التصفيات، الاختطافات، التنصل عن مسؤولية دفع الرواتب، فساد الحكومة، الجيوش الوهمية، غياب الدولة والانفلات الأمني في مناطق سيطرة الشرعية تركها عاريةً أكثر في الداخل والخارج أمام محاولات حوثية لإيجاد تلك الأخيرة (الإدارة الأمنية) في مناطقها. سيطرة جماعة الإخوان على الشرعية غير من وجهة نظر المجتمع الدولي حول الحرب من حربٍ لاستعادة الدولة لحرب طائفية بين القوى السنية والأخرى الشيعية وعرّت الشرعية من قضيتها الحقيقية التي كان من المفترض أن تتبناها. الشرعية هي الأخرى تقف عاريةً تمثل جماعة الإخوان ومصالحها دون تمثيلٍ حقيقيٍ لليمنيين وفتراتٍ رئاسيةٍ منتهية لاستفتاءٍ رئاسي هش جاء كمحاولةٍ ليكون طوف نجاة في مرحلةٍ حساسة تبعت الربيع العربي. أما في المحصلة فقد ذهبت تطلعات شباب الربيع أدراج الرياح بعد أن امتطتها جماعات التطرف ووصلت عبرها للسلطة والحيز السياسي المحلي والإقليمي، ويعاني ما يقارب الثلاثين مليون مواطن من ظروف تجهيلٍ وتجييش وتجويع تفنيه وقودًا للحرب التي تكمل عامها الخامس ولا تبشر بأي مستقبلٍ مشرقٍ على المدى البعيد. وعلى الجانبين تقف جماعتان دينيتان عاريتان تسيطران على الدولة وتقودان حربًا طائفيةً وعبثية ذات عمقٍ وامتدادٍ خارجيٍ تحت مغلفاتٍ وطنيةٍ سعيًا لتحقيق مصالح الخارج المتنافس وأملًا في الانفراد بالسلطة.