يقول فولتير: كن رجلا ولا تتبع خطواتي، قد تكون هذه الجملة هي من الإرهاصات الأولى للفلسفة الوجودية في الفلسفة الحديثة. وعلى الرغم من أن فولتير لم يكن ملحدا بالمعنى الاصطلاحي للإلحاد في وقتنا الحاضر، أو على الأقل كما نعرف، إلا أن هناك جانبًا كبيرًا في فلسفته يؤسس إلى فردانية الإنسان ويدعو إلى الحرية التامة في التفكير كونه صاحب كيان وقرار مستقل.
في القرن المنصرم، بسبب الحروب التي خاضتها أوروبا خاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية، تجلت لدى الإنسان الأوروبي، وخاصة الشباب، النزعة إلى السؤال “ما قيمة وجودي وحولي كل هذا الموت العبثي؟”. لم يكن سؤالًا عبثيا، كان حتميا في ظل تلك الحروب الطاحنة والموت يحاصرهم من كل مكان. كان حتميا أن يسأل الإنسان الأوربي نفسه عن معنى وجوده وجوهر ماهيته في هذه الحياة. هذه الظروف أدت إلى بروز الفلسفة الوجودية التي أسس لها الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغور في أواخر القرن التاسع عشر. وكان أبرز من نادى إلى الفلسفة الوجودية في القرن العشرين لتجاوز تلك الأزمة الوجودية وارتبطت الفلسفة الوجودية باسمه هو الفيلسوف والأديب المسرحي والروائي الفرنسي جان بول سارتر.
الوجودية ليست فلسفة لها محددات وأطر واضحة المعالم قدر ما هي فلسفة تنطلق من فكرة رئيسة واحدة: الوجود سابق الماهية، فقط. ولهذا هي لا تدعو إلى حقيقة واحدة ولا إلى هدف محدد. الوجودية تريد أن تؤكد أن الإنسان هو أساس الوجود ومنطلقها، وماهيته مرتبطة به ككائن حر مستقل يستطيع أن يحدد حياته بنفسه. ولهذا كل فلسفة أو ديانة أو آديولوجية، تقول عكس ذلك، ليس لها معنى في الفلسفة الوجودية. يقول سارتر: إن الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها إلى الوجود، والإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه.
تلك الظروف التي عاشتها أوروبا، ليست ببعيدة في جوهرها عن الظروف الحالية التي تعيشها منطقتنا العربية والإسلامية؛ فكل الظروف المحيطة تقريبا تدفع الإنسان العربي في منطقتنا إلى هاوية الإحباط وحافة الانتحار، فضلا عن الانتحار ذاته. وحتى عندما ثار هذا الإنسان وحاول تغيير واقعه سنة 2011 وقدم كل التضحيات الممكنة، إلا أن الواقع لم يتغير بل زاد في ردته النكوصية؛ فالحريات الفردية مفقودة وفي تدهور دائم، والعصبيات الطائفية والدينية في أوجها، والاستبداد السياسي لم يتغير وزاد سوءا رغم تغير الشخوص، والحالة الاقتصادية الفردية في انحدار مستمر حتى في تلك الدول التي كانت تتفاخر بنفطها وغازها. ولعل ما يزيد الإنسان العربي حدة في إحباطه هو مقارنته بنماذج الدول التي تجاوزت كل هذه المحبطات، أقلها على المستوى الأدنى.
ما هي خيارات الإنسان العربي لمواجهة كل هذا الاحباط.. هذا العبث الوجودي الحياتي؟ كيف يمكن أن يعيش في ظل الشعور باللاجدوى؟ في كتابه “أسطورة سيزيف” يقتبس الفيلسوف الفرنسي الجزائري ألبير كامو مقولة الشاعر الإغريقي كاليماخوس: يا روحي لا تطمحي للمستحيل ولكن استنفذي حدود الممكن. ومن هذا المنطلق يؤسس كامو لفلسفته الوجودية العبثية التي تتمايز قليلا عن الفلسفة الوجودية الأم، أو بمصطلح آخر السارترية.
يرى كامو أن لدى الإنسان ثلاثة خيارات في رحلته للبحث عن المعنى بعد شعور العبث الذي تولد بين ما يريده الإنسان وما يقع من حوله: فإما أنه سينتحر في نهاية المطاف بعد السقوط في هاوية العدمية المطلقة في عدم جدوى إيجاد معنى وإما استحالة وجود أي معنى من الأساس. بيد أن كامو يرفض هذا الخيار ويرى أن الانتحار الجسدي ما هو إلا اعتراف في حد ذاته بجدية الحياة وهذا مناقض لجوهر عبثها أصلا، وهذا يعني أن هذا الخيار يزيد العبث عبثا أكبر. وإما أنه سيحاول أن يستمد معنى حياته من سلطة أو قوة ميتافزيقية عليا، سلطة تقدر ماهية الإنسان قبل وجوده. في الإسلام على سبيل المثال: وجد الإنسان ليخلف الأرض ويعبد الله، ثم يموت ثم يبعث ثم يحاسب ليكون مصيره الجنة أو النار. بيد أن أيضا، يرفض كامو هذا الانتحار العقلي وينظر له كذلك كعبث إضافي، لأن مصير الإنسان بعد تفكير بسيط أن يكتشف التناقضات العبثية بين هذا المعنى المقترح الوهمي وجوهر الجود.
وأما، كخيار ثالث وأخير، أن يحاول الإنسان أن يصنع معنى خاصا به، يتفرد به.. معنى يتناسب وفهمه لجوهر وجوده. معنى يتناسب مع ماضيه وواقعه وأهدافه. وفي طبيعة الحال هذا مخالف ولا يتوافق وجوهر الخيار الثاني. الأديان بطبيعتها تقدم مصلحة الجماعة على الفرد. الأديان تخاطب العقل الجمعي قبل العقل الفردي. الأديان لديها إجابات عامة لكل الناس رغم كل حجم الاختلافات الكبيرة والعميقة والمتأصلة بينهم.
وخير ما أختم به هذه المقالة أبيات الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبوماضي:
جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حر طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى أنني أدري ولكن..
لست أدري!
وطريقي، ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور
أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير
أم كلانا واقف والدهر يجري؟
لست أدري!
ليت شعري وأنا في عالم الغيب الأمين
أتراني كنت أدري أنني فيه دفين
وبأني سوف أبدو وبأني سأكون
أم تراني كنت لا أدرك شيئا؟
لست أدري!
أتراني قبلما أصبحت إنسانا سويا
أتراني كنت محوا أم تراني كنت شيا
ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا
لست أدري… ولماذا لست أدري؟
لست أدري!
*مقدمة ملف “الشباب العربي وصراع المعنى“