استمعت أمس مناظرة فرج فودة في معرض الكتاب عام 1992 ولم تكن أول مرة أستمع لأجزاء منها لكن ما تميزت به مناظرة أمس على قناة وزارة الثقافة على يوتيوب عدة أمور كجودة الصورة والصوت، والأروع أنها جاءت بمبادرة من الدولة ممثلة في وزارة الثقافة، وربما كانت هذه رسالة مباشرة أو غير مباشرة لبعض الأطراف من الدولة بدعم فكرة التنوير أو مبدأ التدافع، خصوصا وأن الطرف الآخر الممثل في الشيوخ والإسلاميين لا يحبذ عرض هذه المناظرات لما فيها من حرية كلام وإلقاء للطرف الآخر دون تكفير وإرهاب نفسي.
وبعيدا عما دار في معظم أحداث المناظرة لكن وقفت على فكرة الإسلاميين من العلمانية ومبدأ فصل الدين عن الدولة عن طريق أهم رموزهم النخبوية في ذلك التوقيت وهم “د محمد عمارة، والمستشار مأمون الهضيبي، والشيخ محمد الغزالي” فالثلاثة جمعهم مبدأ واحد يخلط الدين بالدولة لكن اختلفوا في بعض التفاصيل الذي كشفها د. فرج فودة وأجاد استخدامها في بيان تناقض الجماعات واستحالة إجماعها على رؤية واحدة أو برنامج واحد، وربما هي الفكرة التي دفعت فرج فودة للإصرار على وجود برنامج سياسي للإسلاميين لعلمه المسبق أنه يستحيل على الجماعات أن تتفق على برنامج واحد.
وهنا المدخل الذي رأيته كنقطة ضعف للإسلاميين وخصوم العلمانية بالمجمل، وملخص هذا المدخل أن العلمانية لا تفرض برنامجا واحدا أو مشروعا واحدا أو نموذجا واحدا؛ فقد يستظل العلماني بمظلة الاشتراكية أو الرأسمالية أو الليبرالية أو اليسارية… إلخ، لكن الإسلامي المنتمي للجماعات لا يمكنه التظلل بأي عنوان أو فرقة أو نموذج لقُبح مبدأ الافتراق الاسمي لديه، ولظنه أن الشريعة الإسلامية ستوحد المسلمين تلقائيا لقدسيتها في النفوس.. وهم في ظنونهم تلك لم يناقشوا مسألة التطبيق، ولم يراعوا وجود فارق كبير بين الخيال والواقع في أذهان البشر بمن فيهم هم معشر الإسلاميين والدكتور فرج بما أنه يوقن باعتماد خصومه على الشعارات والعموميات فقد أيقن جازما أن هذا الاعتماد لا يمكنه صياغة برنامج واقعي.
الشيخ محمد الغزالي له كتب في تقبيح الاستبداد ونقد التراث الديني، لكن في الوقت ذاته تدور معظم أعماله في الدعوة إلى الشريعة وإلى تطبيق الدين كمنهج حياة شمولي أشبه بالأنظمة الدكتاتورية، وهي مفارقة لم ينتبه إليها الغزالي الذي لم يناقش كيفية تطبيق شريعته على نحو واقعي يخلو من الاستبداد، ففي حين يطالب بمشروع إسلامي يكافح الاستبداد ويحل محل الشيوعية والليبرالية برأيه؛ هو يثني أيضا في المشروع نفسه على نظام حكم الملك “عبدالعزيز آل سعود” في كتابه “الإسلام والأوضاع الاقتصادية” حيث يصف فيه النظام السعودي بالإسلامي الذي يطبق الشريعة. هنا يحدث التعارض بين دعوته إلى التحرر من الشمولية الاستبدادية وبين ثنائه ودعمه لأنظمة شمولية ملكية مطلقة بدعوى الشريعة.
عوضا على أن الشيخ ذكر مبادئ أساسية للنظام الإسلامي الذي يقصده دون بيان ماهيتها ضمن كتابه “الإسلام والطاقات المعطلة” بدءا من صـ 160 فما يليها، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر “1- الشريعة الإسلامية هي القانون الأساسي للأمة الإسلامية ويجب على كل دولة إسلامية تطبيق مبادئها ، 2- لا مشروعية للسلطة السياسية إن لم تمارس عملها فى نطاق الشريعة الإسلامية وعن طريق الشورى، 3- من يمارس السلطة هو من أهل لها إذا توافرت لديه الشروط الفقهية المعروفة، 4- يجب أن تمارس جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وفقا للمبادئ والقيم التي شرعها الله ورسوله، 5- كل مسئول في الدولة خاضع لأحكام الشريعة الإسلامية فى جميع تصرفاته العامة والخاصة” انتهى. ويظهر من كلام الشيخ الغزالي أن شريعته التي يتصورها لا تؤمن بمشاركة غير المسلمين، وأن الدولة ستراقب التصرفات الخاصة للمسؤولين، وأن من يمارس السلطة لابد أن يكون فقيها؛ وبالتالي يتأكد أن مشروع الشيخ الإسلامي هو دكتاتوري أقرب لولاية الفقيه يدقق في تصرفات الناس الفردية ولا يحترم حريتهم الخاصة، خلافا لرؤيته الناقدة للاستبداد ضمن كتابه “الإسلام والاستبداد السياسي”.
عوضا على أن كافة مناظري الدكتور فرج لم يطرحوا ماهية واحدة للشرع الذي يقصدونه، وهل نموذجهم الأسمى في الحكم مختلف عن الذي طبق في السعودية وإيران والسودان..إلخ أم هو نموذج جديد أكثر حداثة؟ فلو كان جديدا يتسم بالحداثة فهل يعلم هؤلاء أن الحداثة تفرض عليهم مبدأ المشاركة لا المغالبة؟ هل يعلمون أن الديمقراطية تفرض عليهم عدم تغيير طابع وهوية الدولة بحجة الأغلبية؟ هل يعلمون أن الحداثة ترفض الإطلاقية في الفكر وتؤمن فقط بنسبية الأفكار مما يعني أن دينهم وأيدلوجيتهم لا يمكنهم من خلالها الحديث باسم السماء؟ وهل يعلمون أن الحداثة تفرض عليهم الاستدلال على آرائهم ورؤيتهم بأدلة لا بمجرد الادعاء؟
لا أنتظر الإجابة ليقيني أن الإسلاميين لا يؤمنون بالعقل ولا بدوره في صياغة حقائق عالم ما بعد الحداثة، فالعقل وحده هو الذي يفكك الدوجما البشرية الناتجة من كثرة الشعارات والخطابات التي رأيناها في مناظرة معرض الكتاب، وهو الوسيلة الأسمى والوحيدة في صياغة دستور عادل يجمع الشعب على أسس اجتماعية واضحة كما رأينا في الدستورين الأمريكي والفرنسي، ولعلمي أيضا أن النموذج العلماني العربي الآن في بعض جزئياته عنيف لا يؤمن بالحوار مع الإسلاميين ولا جدواه كرد فعل على طغيان الأزهر ودور الإفتاء والجماعات ورموزهم الدينية في المجتمع.
فعلمانية أوروبا مثلا في القرنين 18 و19 يمكن أن تكون قد بدأت بشكل عنيف نوعا ما ردا على طغيان الكنيسة وعنفها ضد الآخر، ثم تهذبت العلمانية شيئا فشيئا حتى وصلت في القرن 20 بشكل حقوقي يؤمن بوجود رجل الدين وحقه في ممارسة السياسة وفقا لنظام علماني؛ وهنا تتجلى السمة الأبرز للعلمانية أنها تتميز بالمرونة شكلا وموضوعا. فمن ناحية الشكل يمكن للعلماني أن يتعايش مع غيره بل وخصومه في ظل نظام حقوقي، ومن ناحية الموضوع العلمانية انبثقت لاحقا وخصوصا بعد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بعد الحروب العالمية إلى شكل أشبه بالمبدأ الحقوقي في العدالة الاجتماعية والسياسية ضمن بندين هما أشهر من يُروّجا الآن كقيم ديمقراطية وهما “المواطنة وحقوق الإنسان”
وبالتالي فكرة العلمانية المضادة للدين أو الكارهة للتدين في أذهان الشيوخ لم تعد موجودة في الحقيقة سوى عند بعض الناقدين للأديان أو العابرين في العقائد وهؤلاء ما زالوا يعملون في إطار نخبوي ضيق بعيدا عن مناطق النفوذ أو المسؤولية في الدول، أستثني بعض الأنظمة السياسية – كالهند والولايات المتحدة – الذين صعد فيهما تيار يميني متطرف يجمع بين أصول الدين التراثي وبين المحافظة الشعبية مما أدى لشيوع مد قومي كاره لما هو غير مسيحي وهندوسي في كلا البلدين. ورأيي أن هذا الاستثناء عارض وطبيعي ضمن سياق تاريخي كرد فعل على ظهور الجماعات الإسلامية العنيفة ونشاطها في الغرب وآسيا، وأتذكر أنني تنبأت بمصير سيئ لشعوب إسلامية بريئة في حال شيوع ودعم المسلحين في سوريا والعراق ودعمهم بالمال والسلاح والإعلام، وأن هذا الدعم سيوجه في حقيقته لصدر كل مسلم يصبح معها مهددا في بلاد هو أقلية فيها.
إن ما ركز عليه فرج فودة لم يكن فقط تبيان خطر الجماعات أو زيف ما يسمى بـ”الحكم الإسلامي” ولكن أيضا كان يهتم بكشف خطورة استخدام الدين من قِبَل السلطة في إشارة إلى ربما أنه كان يقصد نظام الرئيس السادات، فالنظام العلماني كما أنه يرفض حكم رجال الدين هو أيضا يرفض توظيفهم لصالح الحكام، وهذه النقطة في أجزاء كبيرة منها لصالح الإسلاميين لو كانوا يعقلون؛ فالحكومة التي تستبد بالسلطة وتجيد توظيف رجال الدين لصالحها يسهل عليها التصدي للجماعات وتقديم نفسها كحكومة مؤمنة مثلما قدّم الرئيس عبدالناصر نفسه في مشاريع التصدي للعري في قانون الصحافة أو تطوير الأزهر وغيرها من خطاباته التي كان يعلن فيها تبجيله للشريعة الإسلامية وأنه فقط يرفض تطبيقها على يد الإخوان.
ولعل ما سبق كان يفسر لماذا رفضت أنظمة عبدالناصر والسادات ومبارك إعلان نفسها كنظم علمانية لأنها في الحقيقة كانت ترى أن العلمانية مبدأ يقابل الإسلام وأنه لا بديل للشريعة، حتى انتشر في زمانهم مصطلح “مدنية الدولة” وهو تعبير مخادع لا يملك الجرأة على الاعتراف بكلا الأمرين (الدولة العلمانية والدولة الدينية)، حتى في مناظرات الدكتور فرج فودة نجده يستخدم تعبير مدنية الدولة لكنه لا يستخدم العلمانية نظرا لرفض هذا المصطلح شعبيا وفي الإعلام ومن قبل المسؤولين، وعندما وصل الإخوان إلى فكرة ضرورة التنازل عن مصطلح (الدولة الدينية) لقبحه النخبوي، وسوء تطبيقه التاريخي، وصلوا إلى نقطة مشتركة مع أنصار مدنية الدولة بمفهوم جديد مخادع أيضا وهو “دولة مدنية بمرجعية إسلامية”
وعند البحث في هذا المفهوم الإخواني الجديد نجده يتفق في المضمون مع الدولة الدينية، وأن ما يسميها الإخوان بلجنة كبار الحكماء أو العلماء هي جماعة الحل والعقد التي صيغت في مصنفات الوهابيين وابن تيمية، وأن تلك الجماعة الحاكمة تملك صلاحيات مطلقة في تسيير شؤون الدولة بما فيها إقرار مواد الحسبة وفقا للمبادئ التي أعلنها الشيخ الغزالي في كتابه “الإسلام والطاقات المعطلة” أي أننا في الحقيقة كنا أمام أكبر عملية خداع إستراتيجي إخواني منذ نشأتهم في العشرينات، فالتنظيم منذ أن رأى النور وهو يطالب بالشريعة الإسلامية المصاغة في كتب الأقدمين ولم يجتهد في بيان ماهيتها سوى بعد تعرضه لهجوم ونقد لاذع من النخبة العلمانية في السبعينات، وأن التنازل الذي أحدثوه في مشروعهم الشهير بـ”المرجعية الإسلامية” لم يكن سوى مجرد مناورة لإمساك الحكم ثم القضاء نهائيا على كل مظاهر مدنية الدولة وحداثتها والعودة فورا لما آل عليه الأفغان.