في ظل الحديث عن الدين والعلمانية جرى تعريف العلمانية على لسان الباحثين والمفكرين بأنها الفصل بين الدين والدولة، أو فصل المؤسسة الدينية (الكنيسة) عن المؤسسة السياسية (الدولة)، ثم وجدنا الدكتور عبدالوهاب المسيري يفرق في تعريفه لمصطلح العلمانية بما أسماه “العلمانية الجزئية” والتي تعني فصل الدين عن الدولة، و”العلمانية الشاملة” والتي تعني (فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص)، بحيث تنزع القداسة عن العالم ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى. بل إنه قد أشار في كتابه إلى (إشكالية تعريف العلمانية) وإخفاق علماء الاجتماع شرقا وغربا في وضع تعريف محدد لها، مع وجود فصل حتمي نسبيا للدين والكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الموغلة في البساطة والبدائية.
ففي العصور الوسطى المسيحية، وظهور نظام اقتصادي اجتماعي جديد (النظام الإقطاعي)، وانقسام المجتمع الأوربي إلى ثلاث طبقات: طبقة رجال دين، وطبقة ملاك الأراضي، وأخيرا طبقة الفلاحين والعمال، ثم لجوء الإقطاعيين إلى تكوين طبقة الفرسان لحماية مصالحهم وجلب الضرائب، ما لبثت الكنيسة أن انضمت إلى قائمة الفساد وقويت شوكتها، وأخذ ميزان القوى يتأرجح بين سلطة البابا وسلطة الإمبراطور، وظهر المؤيدون لكل من البابا والإمبراطور، وادعى كل فريق منهما لصاحبه بأنه يستمد السلطة من الرب، وتمادت سلطة الكنيسة وشملت سطوتها الشأن العام، وحتى الخاص بالتفتيش في نيات الناس ومدى مطابقة عقائدهم مع ما تقول به الكنيسة، ثم اتهام من يخالف تعاليمها بالهرطقة والكفر والحكم عليه بالحرق حيا. إلى أن قام مارتن لوثر بانتقاد البابا علنا من خلال رفض بيع صكوك الغفران، فقدمته الكنيسة للمحاكمة، حتى كان التنادي بفصل الدين والكنيسة عن إدارة الدولة، واندلعت الثورة الفرنسية ما بين عامي (1789 – 1799) وسقوط سجن الباستيل ومحاكمة الملك لويس السادس عشر ثم إعدامه، مما ساعد على نمو الليبرالية والقضاء على سيطرة الكنيسة على الدولة، حتى رفع الثوار شعار “اشنقوا اخر ملك بأمعاء آخر رجل دين”.
هل هناك أنواع للعلمانية؟
هناك من فهم العلمانية -خطأ- أنها ليست طريقة واحدة، وأن ثمة فرقا بين علمانية متطرفة ضد الدين، وأخرى محايدة لا تعادي الدين، مما أدى إلى نفور جموع أتباع الديانات منها، وكسبت نفورا ورفضا شديدين خلال فترة تاريخية طويلة، فاضطر بسببها كثير من العلمانيين إلى التخلص من هذا المصطلح، والدعوة إلى تبني مصطلحات جديدة كالعقلانية والتنوير ونحو ذلك، تخلصا من الحمولة السيئة للعلمانية، بينما دعا آخرون منهم إلى تقديم العلمانية في صياغات هادئة لا تعادي الدين ولا ترفضه، وإنما تحفظ حقوق متبعيه وتحميهم من تطرف مخالفيهم، حتى ادعى بعض أن مشكلتهم مع العلمانية المتطرفة، لا العلمانية المحايدة. إلا أننا بنظرة متأنية نجد أن الإشكال في تطبيق العلمانية لا في (أنواعها)، وذلك على عدة مستويات:
الأول: تطبيق ينتهك أساس الحريات والحقوق، فلا يكون للدين فيها أي حرية، ولا يبقى للمؤمنين فيها مجال لإقامة شعائر دينهم، بل قد يتعرضون للاضطهاد بسبب معتقدهم.
الثاني: وهو أقل تطرفا من الأول، إذ يسمح بحرية العقيدة دون حضور مظاهر التدين في الشأن العام، وإصدار تشريعات تمنع تلك المظاهر الدالة على الدين، مثل إظهار الحجاب.
الثالث: التسامح مع أصحاب الديانات والسماح بحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحضورها في الشأن العام، فتصبح العلمانية على حياد مع الأديان مع فصل للدين عن الدولة.
هل العلمانية هي -فقط- المتطرفة؟
ومن العجيب أننا نسمع ونرى اتهام المتدينين لغيرهم بالتطرف ضدهم، ثم نجدهم فرقا مختلفة تتناحر حول فهم الدين، حتى رمى بعضهم بعضا بالكفر، وبالغ آخرون حتى كفروا المجتمع بجعله مجتمعا جاهليا، وعند الحديث عن العلمانية كان لرجال الدين دور كبير في ترهيب العامة منها، وأنها نوع من الكفر، أو اعتبار العلمانية نموذجا مستوردا لإشكالية مستوردة، وبما أن العلمانية تعني «فصل الكنيسة عن الدولة»؛ فلا حاجة لنا إذا للعلمانية، لأن الإسلام لا كنيسة فيه لنفصلها عن الدولة. كما توهموا وأوهموا العامة أن هذا النموذج تم استيراده عن طريق «نصارى الشرق»، بل وتم اتهامهم بالعمالة الحضارية للغرب ومعاداة الإسلام. وقال أحدهم: «ليس غريبا أن يكون أول من دعا إلى العلمانية بشعارها الصريح أو تحت أسماء أخرى كالقومية والوطنية هم نصارى الشرق، فإن الحياة المطمئنة التي كفلها لهم المجتمع الإسلامي – بل المحاباة الزائدة في الكثير من الأحيان – لم تكن لتطفئ نار الحقد المتأججة في صدورهم. ولئن كانوا يدركون أن هيمنة الشريعة الإسلامية هي العائق الأكبر لشفاء غيظهم ونفث أحقادهم، فقد استماتوا في إنهاء هذه الهيمنة وإحلال الأنظمة اللا دينية محلها، لكي تقضي على الإسلام».
هل العلمانية الية للمساواة بين الأديان فقط؟
وذلك أيضا مما فهم خطأ عن العلمانية، فإن من أوجه العلمانية هي مساواة الأقليات أمام القانون، وأن المواطنة هي الأساس، فلا فرق بين إنسان واخر على أساس الدين أو حتى المذهب داخل الدين الواحد، إلا أن البعض يحاول حشر الإسلام في صراع مع الأخر، وذلك من آفات العقلية الدينية المتزمتة، وهي من أكثر الإشكالات تعقيدا، ولا نزال نعيشها حتى الآن. وهؤلاء لا يعلمون أو لا يريدون أن يعلموا أن الحضارة العربية الإسلامية استعانت بغير المسلمين على كل الأصعدة العلمية والاستعانة بخبراتهم في جميع المجالات، وأن منهم من نبغ حتى في علوم العربية وعلوم الدين.
هل تهدف العلمانية إلى نظام حكم لا ديني؟
وتلك من المغالطات التي روج لها بعض رجال الدين ضد العلمانية، وأنها تدعو إلى محاربة الدين، مع أن الإسلام ينتشر في بلاد (الكفر) بشكل مطرد حتى أصبح في المركز الثاني ترتيبا في أكثر من دولة في أوروبا العلمانية. ومن المفارقات أن الذين يرجعون سبب تخلف المسلمين هو ابتعادهم عن الدين، لا يرون أن دول الغرب المتقدمة تقدمت وهي دول علمانية حيدت الدين وجعلته بعيدا عن الحكم والسياسة! ولو كانت العلمانية خطرا على الدين، فهل اختفى الإسلام من تركيا العلمانية أو فرنسا أو من دول أوربا العلمانية؟ والذين يقارنون بين الدين والعلمانية لا يعلمون أن الدول التي سارت في ركاب العلمانية وتقدمت حضاريا دون اقتران سياستها ونظام حكمها بالدين، ويتغافلون في المقابل عن أن العالم العربي الإسلامي مع تمسكه بالدين لم يبدع إلا في التخلف على جميع المستويات، ولم ينتج إلا نظم حكم استبدادية تقهر شعوبها مستندة إلى تأييد وفتاوى رجال الدين المؤيدين للحاكم المتغلب الذي يبرر استبداده بالدين. وإذا كان المتدينون يطالبون بحق حرية العقيدة وممارسة الشعائر وبناء دور العبادة في النظم العلمانية، ففي المقابل نجدهم لا يتسامحون في بلادهم مع دعوات الحرية الدينية وحق غير المسلم في ممارسة شعائره والتبشير بدينه المخالف للإسلام.
هل العلمانية تنشر الفساد والانحلال؟
وتلك أيضا من المغالطات التي يذيعها المتشددون، فإن الإنسان لا يجب أن يحتاج إلى دين لكي يردعه عن ارتكاب الموبقات والفواحش، فالأديان جاءت لتتم مكارم الأخلاق، أما الأسباب الحقيقية لانتشار الفساد فهي الفقر والمرض وعدم المساواة بين الناس أمام القانون، والتعدي على حقوق المواطنين، وكذلك فرض التدين بالقوة. وفي المقابل لا يمكن تحميل الأديان سبب العنف والإرهاب، بل السبب الرئيس هو أفهام وتأويلات وممارسات أتباع تلك الأديان، والهوس بالتشدد دون داع معتبر، في الوقت نفسه الذي يمارس في أتباع الديانات النرجسية بادعاء كمال عقيدتهم وتنزهها عن أي نقص، وأفضليتها على سائر ما عداها من العقائد، “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”.