تركت أحداث الربيع العربي انطباعا عاما حول الأصول الجذرية لحزمة مشاكل المنطقة العربية التي تعاني منها بعد أن خلفت خيبة أمل كبيرة لدى نخب مجتمعات المنطقة وانتهت بالسلطة في يد جماعات الإسلام السياسي. لقد أثبتت أن مينولوجيا التخلف الحضاري في سباق الأمم الجاثم على منطقتنا ذو أصول تاريخية قديمة تعود للاحتلال العثماني للمنطقة والجمود المعرفي والحضاري الذي رافقه أمام تقدم الحضارة الغربية المتسارع. وعلى سبيل الاستطراد يمكننا إلقاء نظرة خاطفة على أسباب تراجع قوى عظمى في القرن التاسع عشر والعشرين كإسبانيا والبرتغال أمام توسع المملكة الإنجليزية، والذي ينتهي بأبرز علل هذا التراجع الذي كان هو جمودها الحضاري ووصولها لنقطة معرفية ظنت أنها نهاية ما يمكن أن يصل إليه العلم والحضارة، على العكس منه الذي بقيت إنجلترا دوما في سعي حثيث للتقدم المعرفي والحضاري.
الشواهد على ذلك كثيرة تاريخيا ففي الحضارات الأموية والعباسية الأولى والثانية بكل جوانبها المظلمة والدامية كانت حالة ازدهار ثقافي ومعرفي مع ما احتوته من مكونات خلفها إرث الحضارات التي أسقطتها الدولة الإسلامية لتتأثر هي الأخرى فيها. ما أود قوله هو أن علة أزماتنا الأولى لم تكن ذلك الجدل حول الديمقراطية والديكتاتورية، وإنما الوعي الجمعي للأغلبية في مجتمعاتنا العربية، ومع أنه وفي هذه النقطة بالذات يختلف فرج فودة ويرى أن الحكومات العسكرية الديكتاتورية تنتهي لحكومات دينية، ليرجع علة ذلك للديكتاتورية العسكرية المتحكمة بالسلطة، إلا أن الحقيقة التي رأيناها في ثورات الربيع العربي تخلص إلى أن الديمقراطية هي الأخرى انتهت بالسلطة لشكل اخر من الحكومات الدينية. كما لا ينكر أيضا دور الأنظمة السياسية العربية في تشكيل الوعي الجمعي بهذه الهيئة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وعمدا أو لغياب استشراف للمستقبل مع توسع السطوة الدينية على الرؤية الشعبية للحياة والعالم. وهذا ليس دحضا لرؤية المفكر المصري فودة فرؤيته لم تكن مخطئة كما سنأتي عليه ولكنها جانبت الصواب من جهة ما. ولا أظن المرشد الإيراني أخطأ حين وصف ثورات الربيع بالصحوة الإسلامية ودعاها لإقامة حكومة إسلامية على غرار حكومته في إيران ورفض العلمانية الغربية الكافرة. من هذا نستنتج أن الديمقراطية لم تكن تقل خطرا عن الديكتاتوريات العسكرية السابقة سوى أن المعبد كان مستترا في الأخيرة، وانتقل للعيش في البلاط في الحالة الأولى.
أصل المشكلة
بالرغم من اختلاف توليفة المجتمعات العربية ومذاهبها وتنوع الأقليات الموجودة فيها وكون العلمانية كنظام مجرب لقرون طويلة مضت منذ الثورة الفرنسية وما بعد الإصلاح الديني في أوروبا لتوفير ظروف مناسبة وعادلة لهذا التنوع ولظروف العصر ومتطلباته إلا أن فرصة اختيارها من شعوب المنطقة المؤمنة في خيار ديمقراطي أمر أقرب للمحال. وبوصف العلمانية كحل حقيقي وحيد يهيئ للتعايش المجتمعي ويحفظ حقوق الأقليات ويحقق عدالة اجتماعية أمام القانون لمختلف فئات وأطياف الشعب بعيدا عن القوانين والتشريعات الدينية والقومية التمييزية لا زال استيعاب ضرورتها في الوعي العربي لدى الأغلبية منعدما. للأسف فإن وصول مرشح السباق الرئاسي يعتمد على ديانته ومذهبه والتزامه الديني ليحظى بالقبول الشعبي، انتقاد جماعة الإخوان والجماعات الدينية لرؤساء ومسؤولي مرحلة ما قبل ٢٠١١ كان متمحورا للأسف حول التزامهم الديني ومدى قربهم من الشريعة بعيدا عن أي انتقاد حقيقي يختص بمسؤولياتهم تجاه الشعوب وأمام القانون.
وليس من المستغرب فشل مشروع الدولة العلمانية في ما يقارب كل الدول العربية عند أي استفتاء بين علمانية ودينية الدولة في هذه المرحلة، ما ينتهي بنا في الأخير إلى الميل للرأي السابق بفداحة التجربة الديمقراطية في المنطقة العربية ومالاتها. إن هذا يعني أن أصل المشكلة العربية قائمة في الوعي الجمعي للأغلبية المجتمعية ولكل مكونات المحتمع العربي من أديان وأقليات، فكل مكون يعارض لحد ما ديكتاتورية السلطة حين تكون بيد الطائفة أو المكون الاخر ولكنه لن يمانع في ديكتاتورية طائفته. إن هذا الطرح لا يعني التشجيع على الديكتاتورية ولكنه يحاول الإشارة لأهمية الأولويات وفداحة القفز عليها، فالعلمانية هي أولوية أساسية تسبق الديمقراطية. كما أنه لا يعني تحيزا تجاه الديمقراطية وإنما اعتبارها كعامل مهم لنجاح العلمانية وكخطوة ثانية تحافظ عليها قبل أن تفشل وتتحول لسلطة دينية قمعية كما يتنبئ الراحل فودة.
فالتجارب العلمانية في منطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال في رائدتيها التركية والإيرانية كانت إرادة دكتاتورية ولو أن الزمان عاد بها لتحاول عرضها بطريقة ديمقراطية فستفشل، وبالفعل فقد نجحت هذه التجارب في إقامة دول علمانية في اثنتين من أكثر دول المنطقة الشرق أوسطية تأثيرا بقيادة رضا شاه بهلوي في إيران وأتاتورك في تركيا، ولكن جمود ديكتاتورية هاذين البلدين وعدم تحقق تجربة ديمقراطية حقيقية عادت بهما للوقوع في شرك الحكومة الدينية القمعية ذات اللون الواحد وفشل التجربة العلمانية كما تنبأ المفكر المصري فرج فودة لتتحول إيران لجمهورية إسلامية وتصل الجماعات الدينية مؤخرا لرأس هرم السلطة في تركيا، كما هي سوريا ليست ببعيدة عن ذلك. شواهد هذه التجارب الحية تعود بنا للتأكيد مجددا أن الديمقراطية ضرورة ملحة لنجاح أي تجربة علمانية في المنطقة واستمرارها.
الثورة الثقافية
هذا الطرح يصل إلى أن الحل الحقيقي لأزمات المجتمعات العربية يكمن في وجوب تحقيق تغيير في تركيبة الوعي الجمعي وتحريره من سطوة المعبد وكهنته لتحقيق ديمومة للشقين العلماني والديمقراطي في معادلة الأنظمة الحديثة. هذا التغيير إذا ما تم توجيهه وتبنيه عبر إحداث ثورة ثقافية تحدث صدمة حضارية كتلك التي أحدثها نابليون في مصر، تصل لتصبح موضوع الرأي العام الأول للعقد المقبل وتنقل المنهج التعليمي والفنون لمستوى الثورة. إن إمكانيات هذه الثورة الثقافية في الانفتاح الحضاري العالمي وسهولة الوصول للمعلومة وكلفة الإعلام البسيطة مع ثورة التواصل الاجتماعي يجعل المنطقة قريبة من فرص تحقق هذه الثورة أمام المد التركي والفارسي الساعين لاستنساخ تجارب دينية قمعية حديثة في المنطقة سندفع كعرب ثمنها باهضا. هذه الثورة تحتاج إلى أن تمثل وقفة جادة أمام التشكيل الديني للوعي الجمعي وليس فقط جماعات الإسلام السياسي، ورغم تكلفة هذه المواجهة فإن الظفر من نصيب هذه الثورة حتما في ظل التقدم العلمي الحاصل وتوسع دائرة محاكمة التابوهات الدينية في الأوساط المثقفة وظهورها على السطح في المواضيع المتداولة في الشأن العربي. تحقق هذه الثورة ونجاحها يفرض حدوث تغيير شامل في أهداف وطبيعة الأنظمة التعليمية في المنطقة وتحييد الدين من كل عملياته من مدخلات وتفاعلات ومخرجات لتحقيق ديمومة الثورة دون انتكاسها وتحصيل مخرجات تعليمية تدعم الثورة الثقافية، والتي ستحقق زوال الدولة الدينية وتؤسس مجتمعات علمانية ديمقراطية حديثة.
إن المسؤولية في المقام الأول تقع على النخب المثقفة والسياسية للنهوض بعملية التغيير هذه قبل أن تتبناها الأنظمة، كما أن المنقذ الوحيد للمنطقة العربية ككل هو استمرار هذه الثورة وتحقيقها في تلازمية ثورية كتلك التي حدثت في أحداث الربيع العربي، تعبر الحدود وتغير من الوعي الجمعي وتحمل النخب الكفؤة والمؤهلة للسلطة لرعاية مصالح الشعوب. ولا يمكن أيضا الظن بأن تحقيق تغيير كهذا بمعزل عن بقية دول المنطقة يمكن أن يحقق استدامة لأي مشروع علماني في المنطقة كما يظن البعض، فما نلاحظه حاليا أن مجرد دولة واحدة أو اثنتان في الشرق الأوسط استطاعتا زعزعة أنظمة الحكم في كثير من دول المنطقة وغيرتها وبعثت فيها صراعات دينية أصولية لا يمكن أن تقف أثارها ورقعة انتشارها عند حدود بلد معين، وإنما ستتجاوز المنطقة في صورة إرهاب عابر للحدود. منتهى القول هو أن العلمانية طوق نجاة المنطقة الوحيد أمام مشاريع الأنظمة الكهنوتية العابرة للحدود للدول المؤثرة في الشرق الأوسط، كما أن الثورة الثقافية هي الخالق الأبدع للمجتمع العلماني قبل كينونة الدولة العلمانية، الضامن الوحيد لديمقراطية صحية والحل لأصل مشاكل المنطقة العربية وفصلها.