تمر بعد أيام الذكرى الثانية لصدور حكم إدانتي ودخولي السجن في الكويت، بعد أن صدر حكم قضائي نافذ بحبسي لمدة شهرين تحت مسمى ازدراء الأديان على خلفية مقابلة شخصية لي على قناة الجزيزة تحدثت فيها عن التطبيقات الإسلامية للحدود الدينية ، وكذلك بسبب مجموعة من التغريدات النقدية للإسلام على منصة تويتر. تلك المنصة التي وجدت من أجل حرية الرأي والتعبير والفكر وتبادل المعرفة والتواصل مع الآخرين، ثم ما لبثت أن أصبحت في الكويت، وفي غالبية مجتمعاتنا العربية، وسيلة للسجن والمراقبة وتدمير حرية وكرامة الإنسان.
عامان قد مضيا، مع كل أحداثهما المحلية والإقليمية والعربية والدولية، فهل انتصر الإسلام في الكويت بعد أن تم سجني؟ وهل اختفى الفساد والظلم والتخلف والقهر والعنصرية والنفاق والجهل؟ وهل السجن والحبس هو الوسيلة المثلى لمعاقبة الرأي والفكر؟وهل سينتصر فعلا الإسلام بعد أن يسجن تابعيه ومعتنقيه بعد نقدهم له؟ وهل رب الإسلام بحاجة إلى السجون والمعتقلات وترويع الإنسان وإهانة كرامته واستلاب حريته حتى يخبرنا بعدم نقد الإسلام؟ لا شك أنها أسئلة عميقة لن نجد لها جوابا شافيا في مجتمعات وشعوب لا تزال تتعاطى الأديان بطريقة بدائية قائمة على الوصاية والكهنوت ومحاسبة النوايا والضمائر وملاحقة الناس على شكلهم وأفكارهم وميولهم وهمساتهم. فمن هي حرية الرأي والتعبير التي تحاربها السلطات السياسية العربية والمؤسسات الدينية ورجال الدين والفقهاء، ويتمسك بها كل كاتب ومثقف ومغرد في عصر اليوم؟ في الحقيقة يمكن اعتبار حرية الرأي والتعبير من أهم الحقوق الإنسانية، لما تخلقه من إبداع وتفكير ومحاججات فكرية لا متناهية، وليس هذا فقط،بل يمكن اعتبار هذا الحق في الرأي، أحد الوسائل المهمة للدولة نفسها في تعظيم مساحة الحريات لديها، ودعم الشفافية والمراقبة وتمكين الديمقراطية وممارسة العملية السياسية بكل تجاذباتها لمصلحة العامة والمجتمع. ونظرا لأهمية هذا الحق للإنسان في كل زمان ومكان، قامت ونشأت التشريعات القانونية والدولية لحماية هذا الحق بتفاوت وتباين يختلف بحسب النظام الحاكم ووعي الشعب وثقافة المجتمع.
إعلان حقوق الإنسان
ويعود أول اعتراف ضمني بحرية الرأي والتعبير إلى إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الذي صدر بعد الثورة الفرنسية عام 1789، حيث نصت المادة 11 منه على: “التداول الحر للأفكار والآراء هو أحد حقوق الإنسان الهامة، فيجوز لكل مواطن أن يتكلم ويطبع بصورة حرة مع مسؤوليته عن سوء استعمال هذه الحرية”. وعلى صعيد المجتمع الدولي، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تضمن حق كل شخص بالتمتع بحرية الرأي والتعبير. وتبنت الجمعية في عام 1966، العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يعكس ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،وتتمتع أحكامه بصفة الإلزام القانوني للدول التي تصادق عليه، حيث أكد في المادة 19 منه على حق كل إنسان في اعتناق الآراء دون مضايقة والتعبير عنها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود بالوسيلة التي يختارها.
لهذا تم اعتبار ضمان ممارسة حرية الرأي والتعبير بمثابة الركن الأساسي لبناء المجتمع الديمقراطي الحر، والدعامة الأساسية لحماية الأفراد من التعسف والظلم، وعلامة مميزة للمجتمع المدني في تثوير طاقات الأفراد وإشراكهم في إدارة شؤون الحياة العامة في الدولة. وتسبب غياب هذا الحق الإنساني، على مدار التاريخ، في الكثير والعديد من المظالم والترهيب والتجاوزات القانونية والأخلاقية ضد الأفراد وضد كرامتهم وكيانهم واعتبارهم البشري.
معارضو حرية الرأي
وينطلق معارضو فكرة حرية الرأي والتعبير من كونها قد تسمح بالانفلات والتسيب وإهانة المعتقدات والأعراض والرموز الدينية والتاريخية. ولهؤلاء نقول، بأن الهدف الأساسي لحرية الرأي والتعبير هو تنوير الرأي العام، ومده بالمعلومات والأفكار والمقارنات والتجارب والوقائع، وليس التعرض إلى سمعة الآخرين وأعراضهم، فهذه التجاوزات يمنعها القانون والأخلاق، وهي أمر وشأن طبيعي يحدث في كل المجتمعات، ولا يمكن التعويل عليها والاستناد عليها لتجريم ومنع حرية الرأي والتعبير بشكلها الإيجابي. بينما من يدعي بأن حرية الرأي والتعبير تم استغلالها للتعرض للمعتقدات الدينية وتحقير الأديان والرموز الدينية، نقول أيضا لهؤلاء، بأن ما يعتقدونه وما يؤمنون به ليس ملزما للآخرين تصديقه وتبجيله، ولا يمكن اعتباره حجة عليهم، لانتفاء القصد الجنائي في عملية طرح الرأي وتداوله في نقد الأديان والمعتقدات طالما لا يدعو إلى العنف والقتل والكراهية.
أما من يقول بأن نقد الأديان هو إساءة للمشاعر الإنسانية، فنرد على هذا القول، بأن مفهوم الإساءة إلى المشاعر الدينية هو مفهوم غامض وغير عقلاني ومبهم. فالإساءة إلى المشاعر ليست جريمة ملموسة مادية تحدث ضررا، بقدر ما تكون المشاعر إحساسا ذاتيا غير قابل للإثبات، وأيضا يختلف من شخص لآخر، ولا يمكن قياس الإساءة إلى المشاعر بشكل علمي يمكننا من خلاله تحديد درجات الإساءة ومفعولها. ولهذا قيل في أجمل توصيف للحرية، وخصوصا حرية الرأي والتعبير “أنت حر طالما لم تضر”.
بعد سجن عامين ، هل إنتصر الإسلام؟
الآن، وبعد مرور عامين على خروجي من السجن، لم أر الإسلام قويا أو منتصرا أو قد حقق أهدافه.ولم أر المسلمين في أفضل حال وأعز شأن وأعلى مكانة. ولم أسمع بأن المنجزات الإسلامية قد غزت الأسواق أو وصلت إلى الفضاء أو خلقت وصنعت الإبداعات والتجارب واللقاحات. بعد مرور عامين على سجني، رأيت الدين الإسلامي محاصرا بالمؤسسات الدينية والمذاهب الطائفية والصراعات المذهبية. رأيت الإسلام دينا فقد الكثير من التعاطف الإنساني، والدخول إليه عن قناعة واقتناع ومحبة. بل رأيته دينا محاطا بالأسلحة والقيود والممنوعات. دينا قد تحول من بث مكارم الأخلاق إلى سلاح بيد الجهلة من الفقهاء ورجال الدين والحكام.
لهذا هل يمكننا اليوم اعتبار قوانين ازدراء الأديان ، قوانين ذات قيمة أو فائدة للإسلام؟ وهل حقيقة الأمر أن الدين الاسلامي يجد قوته ومكانته واعتباره في كونه قابلا للنقد والتحليل والتفكيك كي يبين للناس وللتاريخ بأنه قوي الحجة وعظيم البنيان ومتين الأدلة؟ أم سوف تستمر المؤسسات الدينية الناطقة باسمه في تحدي القوانين الدولية وتجريم حرية الرأي والتعبير من منطلقات ضعيفة ومضحكة ولم تعد تمارس أو تطبق إلا في العصور الوسطى.
لقد تمت محاكمة العديد من العلماء والمفكرين والكتاب وغيرهم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، منذ نشأة الإسلام وحتى عصرنا الحالي، ممن مارسوا حقهم في الرأي والتعبير بخصوص الدين الإسلامي، لكن انتهى بهم الأمر، إما مقتولين وإما محروقين وإما منفيين وإما في السجون بتهمة ازدراء الأديان. وقد تعرضت عوائلهم وأطفالهم إلى فقدان المعيل أو الداعم لهم. فهل يقبل الإسلام مثل هذه التصرفات التي تمارس باسمه وهو من جاء رحمة للعالمين؟ وهل انتزعت الرحمة والرأفة والعدالة من قلوب القضاة والمستشارين عندما يصدرون مثل هذه الأحكام، وهم من باعتبارهم يمثلون الحق والعدالة والانتصار لحقوق الإنسان؟
إن حرية الرأي والتعبير، علامة على التطور والتقدم. فلم يحدث أي إبداع، ولم تتجاوز الأمم عثراتها، إلا بالنقد الصادق، وجرأة الكلمة، وصدق النصيحة. بينما في مجتمعاتنا،لم يتعلم المواطن العربي شيئا عن حرية الرأي والتعبير والفكر، لأن ازدراء الأديان جريمة في القانون والدين والمجتمع. لهذا بقي الثالوث المرعب (الدين، الجنس، السياسة) خارج النقد، بعكس ما قاله ديكارت “ما من شيء خارج النقد. وقد تأدلجت الشعوب العربية على ذلك، لأن فكرة الحرية، لم تتعامل معها بشكل حضاري وقانوني وأخلاقي، لأنها بكل بساطة غير موجودة في تربيتنا وفي تعليمنا وفي عقولنا.