أشعر أنها تضحية، أن تتحدث في موضوع شائك مثل موضوع الحاجة إلى تيار علماني في مجتمع يحارب التصنيف الثقافي، لكن تشجيعاً للشباب فقط للخروج من تابو الخوف من المصطلحات والمفاهيم إلى رحاب التداول والتناول سأتناول بعض النقاط حول مفهوم العلمانية والحاجة إليه، كما تشير الورقة التي أرسلت إلينا من ثلاثة جوانب محددة، وحيث إن الموضوع متشعب وليس من السهل تناوله هكذا دون تحديد اختصاراً للوقت وللفائدة.
- الجانب الأول: جانب المجتمع المدني.
- الجانب الثاني: جانب مفهوم السياق وكيف يمارس المجتمع حريته من خلال التفاعل مع سياقاته.
- الجانب الثالث: جانب الدولة كإطار عام.
في طريقي من البيت إلى الجامعة للتحدث عن العلمانية كحاجة أو لا حاجة شعرت بفراغ من حولي أخافني ليس خوفاً مادياً وإنما خوف ثقافي. وفي البداية كانت دعوتي للحديث عن التيار العروبي ثم تغير الموضوع ليصير حول الحاجة إلى تيار علماني، وربما كان من الممكن أن أتحدث عن التيار الشيوعي أو الليبرالي لو كان ذلك مطروحاً. إذ طبيعة المجتمع أنه يخاف من التصنيف -ومعه الحق- وسنرى بعد قليل لماذا يخاف؟ هذا اللاانتماء أخافني وأشعرني بحالة في المجتمع يمكن تسميتها “مثقف الكنبة” أو المثقف العام أو الكلي. هذا الفراغ من البيت للجامعة يجعل من المثقف حالة فوقية ولغة ليس لها مدلولات في الخارج أو الواقع، لا وجود لمنظمات المجتمع المدني تجعل من المثقف حالة عضوية أو مثقفاً عضوياً ينتجه المجتمع المدني. في مجتمع المثقف العام أو مثقف الكنبة، التيارات السياسية حالة نفسية وعاطفية في الأغلب كما هي في مجتمعنا هنا. وفي بعض دول الخليج الأخرى وجود مادي على الأرض للتيارات السياسية.
الآن ما الخطورة في وجود التيارات السياسية بشكل حالات نفسية أو عاطفية؟ الخطورة تتمثل في أنها تتحول مع الزمن إلى تُهم جاهزة للتصدير والإقصاء وملصقات لتحديد هويات الأفراد دونما أساس مادي ومعنوي واضح، ولا سبيل للأفراد للدفاع سوى السعي وراء البراءة وصكوك الغفران من حالة ثقافية هي في الأصل ممارسة للحرية، أو العيش متهماً أو مطارداً من قبل المجتمع، ثم أيضاً تؤدي إلى تضخم اللغة على حساب الوجود المادي.كم حضرنا محاضرات عن الديمقراطية ولم نصبح ديمقراطيين مثلاً، هذا للإشارة إلى أهمية بناء المجتمع المدني أولاً.
هذا مايتعلق بالجانب الأول المجتمع المدني، أما الجانب الثاني فيتعلق بأهمية مفهوم السياق. إن ممارسة المجتمع لحريته تتم من خلال السياقات التي ينتجها. والسياق هو اتجاه عام ينتجه المجتمع للشعور بالحاجة إليه. ولو تحدثنا عن أهم السياقات في المجتمع العربي فسنجد أن سياق الاستبداد أعمق هذه السياقات وأكثرها تجذراً ويمثل قطعا رأسيا أو عموديا في التاريخ العربي والإسلامي. وهو رديف لسياق العنف، كذلك سياقات أخرى ناتجة عنهما كسياق العصبية والقبلية، وسياق الريع أيضا بعد ظهور الدولة المشوهة في المنطقة.
هذه أهم السياقات؛ حيث إن أهمية فهم السياق تتمثل في أن المجتمع إذا ما تُرك دون قهر وإخضاع يقوم بدور ممارسة من خلال عمليتي الاختيار والإعدام في سياقته بطريقة تلقائية، وبهذه العملية يتقدم ويتطور، وهذه العملية تبدو واضحة في المجتمعات المتقدمة حيث التاريخ سيرورة إلى صيرورة لا تلبث أن تتحول إلى سيرورة أخرى “عندهم يصير بينما عندنا صار” لذلك نجد علمانية متعدده التوجهات فهناك الجامدة، كما كانت في الدول الشيوعية إلى علمانية تقبل بالدين، كما هي في أمريكا حيث يمكن للرئيس الذهاب إلى الكنيسة كل يوم أحد وفي بريطانيا الملكة رئيسة الكنيسة الإنجليكانية إلى علمانية تحارب الرمز الديني، إلى علمانية تحويل الدين من المجال العام إلى المجال الشخصي للأفراد.
هذه كلها سياقات يتطور من خلالها المجتمع في علاقته بالدولة. لكن نظراً لطبيعة نشوء الدولة في عالمنا العربي وفي منطقة الخليج بالذات حيث استلزم الأمر وجود الدولة دون مرورها بتعرجات وسياقات تجعل منها دولة لجميع دياناتها وأفرادها عكست هذا الأمر، فأصبحت الدولة هي من ينتج سياقات داخل المجتمع، وهي حالة استبداد، عكس أن ينتج المجتمع سياقاته وهي حالة حرية أو ممارسة للحرية، فنحن حالة تاريخية معاكسة.
أما المجال الثالث: مجال الدولة كإطار عام محايد. كان تفكيري حتى وقت قريب هو أنه لا سياق حقيقي في المجتمع العربي أو الخليجي يؤدي إلى ظهور تيار علماني بل كنت أعتبر أن كلمة علمانية ليست سوى مرض أصاب لغتنا العربية من زيادة الحديث عنها مع عدم وجودها كطائر العنقاء الأسطوري الذي نسمع عنه ولم نره بعد. وبعد مراجعة وجدت أن طبيعة قيام الدولة ونشأتها جعلتها تأخذ دور الكنيسة وذلك عن طريق احتكارها للحقيقة الاجتماعية الدنيوية تماماً مثلما كانت الكنيسة تحتكر الحقيقة الالهية، مما أدى إلى ظهور سياق العلمنة في تلك الدول بالمقابل، مثل هذا الأمر في مجتمعاتنا أدى كذلك إلى تيار يطالب بالعلمنة، سواء كان نفسياً وعاطفياً أو وجوداً حقيقياً حسب تطور كل دولة، بمعنى أن سياق الدولة الأزمة التي لا تتطور بقدر ما تتراجع أوجد مثل هذا التيار. الآن أشكال المطالبة بهذا التيار متعددة، فهناك من يطالب بفصل الدين عن السياسة حماية للدين ويتكرر ذلك كثيراً حيث إننا مجتمعات متدينة في الأساس.
وهناك من ينادي بحيادية الدول أمام مكوناتها ودياناتها وطوائفها أي بالدولة الإطار، وهناك من ينادي بالملكية الدستورية على اعتبار أن الحكم عندنا يمارس دينياً أكثر منه سياسياً يعني كعقيدة أكثر منه سياسة أو سياسة تتدثر أو تكتسي بجلباب الدين. الآن أنا أَميل إلى حيادية الدولة أمام مكوناتها وطوائفها ودياناتها أما الحديث عن الفصل فلا أعتبره ممكناً لأنه حتى في الدول الأكثر تقدماً في هذا المجال ليس هناك فصل واضح بين الدين والسياسة، وحيادية الدولة تعني دستوريتها بالضرورة فهي تملك والشعب يمارس خياراته في الحكم.
أنا أعتقد أنه قبل البحث في قضية التيارات الفكرية في الخليج علينا أن نفكر في وضع الدولة ونتداول الخيارات حولها بدءاً بالمطالبة بالمجتمع المدني وتوسيع خياراته وضرورة السعي حثيثاً لتشجيعه لينتج لنا ثقافة من داخل المجتمع لا تفرض عليه من فوق كأحد أذرع الدولة السياسية التي تدير بها المجتمع، بحيث تصبح الدولة مع الوقت إطاراً محايداً وينزل معها المثقف من الكنبة لينضم عضوياً في تيارات اجتماعية فاعلية تعمل على تطوير المجتمع من خلال حرية الاختيار المناسب وممارسة الإعدام لما لم يعد له حاجة أو منفعة بمعنى أن يتطور المجتمع من داخله من خلال إنتاج ما يحتاجه من فكر محايد لواقعه الذي يعيشه، فالعقل المستورد أخطر من الآلة المستوردة، فالآلة المستوردة تخدم الطرفين المصدر والمستورد، لأنها صماء لكن الفكر المستورد بالدرجة الأولى يخدم المصدر أكثر من خدمته للمستورد، حيث طبيعة العقل أو الجوهر الثبات وامتداداته ليست سوى محمولات.
باختصار وحتى نزيل الخوف من المصطلح وحمولته الشريرة في أذهان مجتمعاتنا نقول:
نحن لسنا في حاجة إلى علمنة بقدر حاجتنا إلى مجتمع مدني يفرز سياقاته من داخله. نحن لسنا في حاجة إلى علمانية لكننا في حاجة إلى ترك المجتمع يمارس حريته من خلال الاختيار والعدم أو الإعدام من بين سياقاته واتجاهاته بما يكفل له التطور. نحن لسنا في حاجة إلى تيار علماني لكن في حاجة إلى دولة الإطار أو دولة الحياد أمام مكوناتها أو دياناتها، بمعنى آخر نحن لسنا بحاجة إلى علمانية ولكننا في حاجة إلى دولة علمانية إذا ما استخدم المصطلح بكامل حمولته.