تتكرر الكثير من المشاهد ومظاهر اليسار المؤمن في خط السير التاريخي السياسي للمنطقة العربية التي يبرز فيها رجل الدين كملمع أوساخ السلطان وبصورةٍ وقحة وفجة قد لا ينتبه لها رجل الدين نفسه من شدة تقمصه لهذه المهنة. الأحزاب الدينية اليمينية التي تنتحل المثالية دوماً هي الأخرى اللاعب الأكبر لدور رجل الدين في بلاط السلطان، ولعل ذلك كان واضحاً بشدة في كثيرٍ من الأنظمة السياسية العربية كاليمن، عمان، سوريا، السعودية وليبيا… إلخ. لكن ومع ظهور هذا الأمر جلاءً إلا أنه يقابله في نفس الوقت ذات السلوك على الطرف الآخر، اليسار العربي والذي لم يستطع يوماً الوصول بانتخاباتٍ حرةٍ للسلطة العربية إلا من انقلاباتٍ أفضت لحكوماتٍ توليفيةٍ بين العسكرية و البرجوازية والاشتراكية، منتهيةً لأشكالٍ من الأنظمة العاجزة عن تحقيق فلسفتها الثورية أو إقناع المواطن العربي بجدوى رؤيتها للعالم الذي تقدم إياها له. الحزب الاشتراكي اليمني مثالاً، بعد أن قامت جماعة الإخوان بتصفية رموزه تباعاً طوال عقد التسعينات، وجد نفسه متحالفاً مع الجماعة اليمينية المتطرفة التي قتلت رموز الحزب وأعضاءه بفتوى تكفيرهم وإهدار دمهم ضمن تكتل حزبيٍ أملاً في إزاحة الحزب الحاكم عن السلطة والحصول على فتات يتقاسمه الحزب مع الجماعة اليمينية المهيمنة على هذا التكتل المتكون من كل النقائض.
الحزب الناصري الاشتراكي هو الآخر تحول (لمقاتل) في ربوع الوطن العربي يتبادل رواده قصصاً عن عبد الناصر كتلك التي ترويها الجدات، واختتام سمرهم بإقامة صلاة المغرب في جماعة. ونظام الأسد وإن كان أشد الأنظمة العربية يساريةً لم يخلُ من سَحنةٍ طائفيةٍ تجعل من الأقلية العلوية الأكثر سيطرةً في البلاد، وتتكرر ظاهرة اليسار المؤمن حتى في واحدةٍ من أشدّ الأنظمة العربية يساريةً. اليسار المؤمن هو نفسه ذلك الكيان، الذي صُفّيَت كوادره على يد جماعات اليمين العربي وأحرقت مبادئه ومنعت من التداول بين فئات المجتمع لتصبح أكثر إحراجاً من تداول المواد الإباحية، وهو مجموع تلك القوى التي ركب نفس هذا اليمين على ظهرها في أحداث الربيع العربي ووصل للسلطة في مصر، ليبيا، تونس واليمن.
الولاء للفكرة
أحزاب اليسار العربية، الاشتراكية الديمقراطية مثالاً، تقف وحيدةً من أعضاء سذج في الغالب يمسكون زمام إدارة هذه القوى وقلوبهم تملؤها رهبة الدين والعقيدة التي تصل بهم لمحاكمة مبادئ أحزابهم وفكرها. الأمر بتعبيرٍ أدق هو غياب الولاء للفكرة أو الوفاء بها، بحيث تبقى الفكرة حبيسة سلوكين عامين لدى اليساري العربي هما حديثه اليساري الجريء واستغفاره آخر النهار عن ذلك. أي بمعنى أن معظم اليساريين، حسب تجربتي الشخصية الواسعة، يعيشون بظاهرين متناقضين تماماً عن بعضهما بصورةٍ لا تمكنهم من محاكمة الاثنين للخروج بنتيجة تفيد اعتناق ظهورٍ واحد، أحدهما يمثل الفكرة اليسارية والآخر المكونات الثقافية الاجتماعية والدين في الشخصية. تكوّن قوى اليسار العربية وأنصارها كان في بداية الأمر مجرد حالةٍ خاصةٍ في مجتمعات تقليدية وقعت تحت تأثير الزعامة الكاريزمية والشعبوية في ظروف القرن المنصرم وخروج الاستعمار وفقدت هذا الزخم وزالت بزوال هذا التأثير، فيما بقي الفكر اليساري ذاته بعيداً عن التطبيق الشعبي وضعيفاً جداً أمام التبشيرية الدينية لقوى اليمين، والذي قد تدلك قراءةٌ بسيطة لحياة وحديث رموز قوى اليسار لتجدها في الغالب أنها أكثر تديناً من قوى اليمين العربية نفسها.
أسلمة اليسار
إحدى مشاكل اليسار العربي هي أنه وفي حالةٍ من ضعفه قبال الأكثرية المتدينة والمغيبة الوعي وقدرات قوى اليمين الإسلامي، مع احتمال رهبة المعتقد عند منظري هذه القوى أنفسهم، جعل من قوى اليسار تحاول إضفاء صبغةٍ دينيةٍ على مشروعهم السياسي. حزب البعث الاشتراكي نشأ من أساسه محاولاً إقناع العرب بأن الاشتراكية العربية هي عين إرادة النبي محمد، بينما الأكثر سخريةً من ذلك أن منظري ورموز الأحزاب الاشتراكية الماركسية في بلدانٍ عربية كاليمن والعراق لا تخجل من أن تدعي كذلك اشتراكية محمد بن عبدالله ودينه الإسلامي لمنح اعتقادٍ يمنحهم شرعية فكرهم كتمثل لإرادة اللاهوت للبشر وآخر لصنع مساحةٍ شخصيةٍ لهم للتصالح مع النفس وتأنيب الدين والمعتقد الذي مازالوا يرهبونه ويحاولون التخلص من المذهب السياسي فيه بوجلٍ كبير. محاولة أسلمة الفكر اليساري انتهى به ليتماهى في الأخير ويذوب أمام تضخم الذات الدينية المتطرفة في المجتمع، ليتحول الفكر اليساري لدردشاتٍ ينتشي بها أنصارها في الغرف المغلقة خوفاً من كل شيء، أو لينتهي بهم كشيوعيين يقيمون الصلاة أو أئمةٍ يقودون الشيوعية. هذه الحالة التي يعيشها اليسار العربي بعد خيبات مشاريعه التي اعتمدت على السلطة والقوة والانقلابات ولم تُقِمْ علاقةً فكريةً صادقة مع الشعوب جعل منها في الأخير مطايا لليمين المتطرف الذي يستطيع أن يصل عبر انتخابات حرة ونزيهة للسلطة بإرادة الأغلبية.
حياد الفكرة
العربي عموماً مهما كانت توجهاته السياسية أو ديانته ومعتقده يقع للحظة حبيس أزمةٍ في تكوين الشخصية والهوية تجعله كمنارة الشاطئ، مهيبةٌ من الخارج خاويةٌ من الداخل، وهذا القصد في ثقته بنفسه وذاته كحيوانٍ مفكر، فعلى سبيل المثال الإنسان العربي في الغالبية منه لا يجد في نفسه الثقة حتى في القيام بسلوكيات معينة أو التعامل مع أبسط طوارئ حياته اليومية ويبقى حبيس طلب التوجيه الديني للتعامل مع كل طارئ وجديد في نمط حياته منتظراً فتوى رجل الدين وإرشاده له حسب الشريعة. بنية الشخصية العربية التي يكررها المجتمع العربي بتفاوتٍ بسيط تجعل من الفرد عالقاً في أزمة قياس الفكر والمعرفة وحتى العلوم الحقيقية بمسطرة الدين والشريعة كمعيارٍ لقبولها عنده من عدم ذلك، مع أنه يحاول التحايل على الشريعة كثيراً ويحاول أن يجعل منها ملائمةً لما يقيس عليها من أمورٍ مختلفة إلا أنه يعجز في الأخير لأن صورة الشريعة هي ذاتها الثابتة منذ آلاف السنين. واليساري العربي هو جزءٌ من هذا المجتمع وطبقاته، وبالطبع يعيش الظروف نفسها التي تشكل هذه الشخصية المهزوزة الثقة في معظم القضايا بما فيها قضية إنتاج أو اعتناق رؤيته الخاصة للعالم.
إن هذا الطرح والنقد لا يعني بالضرورة وصف اليسار العربي بشكلٍ من أشكاله كالشيوعية مثلاً، وإنما يعتبر لفتةً لوجهة نظرٍ أخرى تناقش أسباب انحسار وتراجع اليسار العربي أمام قوى اليمين بشكلٍ عام، وهذا لا يعني بالضرورة عداء الدين وإرغام القناعات. إن محور ارتكاز هذا النقد في الأساس، كي لا يكون مجرد طرحٍ سلبيٍ، هو أنه وإن لم يستطع اليسار إثبات حُجيّة دعوته وصلاحها فإنه على الأقل يحتاج إلى تحييد الدين وتجريده عن التكونُنِ كذاتٍ مقابلة للذات اليسارية عند الفرد والمجتمع اليساري كخطوةٍ أولى للنجاة وإيجاد مساحةٍ هامة للوقوف أمام التطرف اليميني. هذا التحييد مثلاً يصبح أقرب لتحويل المعتقد الديني لعلاقةٍ روحانيةٍ شخصية مع الإله، أو اعترافٍ هامشيٍ عن مسؤوليته السببيه خلف هذه الفوضى في قرارة الذات اليسارية الوحيدة.
ظاهرة قطب ومحمود
ذات مقالةٍ تناقش لباس المرأة ويرى كاتبها أن المرأة العارية على الشاطئ لا تثير شهوته البتة على عكس تلك المرأة المتدثرة بعباءتها ونقابها وتترك حافزاً لدى المرء للتطلع أكثر لمعرفة ما تخفي تحته وما يرافق ذلك من صورٍ في المخيال الجنسي للفرد، في محاولةٍ من الكاتب تجاوز القيود الدينية حول المرأة وإظهار وفائه ليساريته إلى جانب محاولة ترويض الشريعة التي يؤمن بها.
كاتب هذا المقال كان أحد أهم أقطاب ومنظري حركة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية عالمياً فيما بعد، سيد قطب، قبل أن يرضخ لمخاوفه من العقيدة التي يؤمن بها، أو ما أسميته الذات المتدينة قبال الذات المفكرة، ويقرر إظهار توبته عن الأفكار اليسارية التي تبناها خائفاً منها مستغفراً في محراب ليله.
مصطفى محمود هو الآخر أيضاً حالةٌ من هذه الحالات اليسارية التي بغضت اليمين، ففي كثيرٍ من كتبه يبغض الإسلام السياسي والترهبن الصوفي ودخل في سجالاتٍ كتلك التي خاضها قطب في مقاله المشار إليه أعلاه، ففي كتابه الله والإنسان يظهر كمفكرٍ قارب الإلحاد وفي مقالٍ له يصف المرأة نفسها بخيمةٍ ذات ثقبين، في إشارةٍ لاحتجاجه على اللبس الذي تفرضه الشريعة على النساء.
وفي محاضرة لسيد كشك يذكر لمحمود مقالاً حاول تبرير الشريعة وإسقاط حد الزنى والسرقة عن مرتكبيها لأنهم حسب تعبير محمود لا يمتهنون الزنى والسرقة إذ أن الزاني والسارق لا ينطبق عليهما اللفظ إلا حين يكونان ممتهنين لذلك، لذا فالعقاب لا يقع عليهما، ولعل الساحة الميثولوجية التي تحول فيها محمود في آخر مسيرته لكاهنٍ يعصر المعرفة لتلائم مقاس الشريعة تظهر جلياً هاتين الذاتين داخل اليساري العربي، في المجمل لا الكل، ولنعمم تلك المقالة التي قالها احد أصدقاء محمود، لنصف اليساري العربي بالقول: ” إنه وإذا ما اعتنق العربي مذاهب اليسارية، فإنه يعتنقها وهو على سجادة الصلاة”.