لطالما ارتبطت فكرة “اليسار” دائما بذلك التيار السياسي الذي يسعى لتغيير المجتمع إلى مجتمع أكثر عدلا ومساواة بين جميع أفراده وطبقاته، أما بالنسبة لليسار كمصطلح فقد نشأ مع الثورة الفرنسية حيث أيد جل النواب الذين يجلسون على اليسار تغيير النظام السياسي الفرنسي إلى نظام جمهوري علماني، أما عربيا فقد نشأ الفكر اليساري مع بروز حركات التحرر الوطني التي خاضتها المستعمرات في أواسط القرن الماضي للمطالبة باستقلالها كما ارتبط بالحركات المناهضة للاستعمار وللرأسمالية. لكن للسائل أن يسأل طالما أن اليسار أو اليسار العربي فى منطقتنا يحمل هذا العبء العظيم وهذه الغايات النبيلة: لماذا هذا التمثيل الضئيل في المجالس النيابية وفي الحكومات العربية خاصة؟ كثيرا ما ارتبط في السنوات القليلة الماضية التفكير في اليسار بالحديث عن أزمة اليسار ويذهب خصومه إلى وصف واقعه بالفشل والإفلاس التاريخي وإلى التنبؤ بقرب اضمحلاله.
فهل يمكن حقا الحديث عن اضمحلال اليسار نهائيا من المشهد السياسي والعام قريبا؟
حسنا إن الإجابة عن هذا التساؤل لا يمكن إلا أن تكون بالنفي ذلك أن الطبقة العاملة غالبا ما تفرز طبقة سياسية تعبر عن تطلعاتها وتوصل انتظاراتها وأصواتها، إلى جانب أن اليسار يعتبر المعبر الأول عن الطبقات التي تتوق للتحرر والانعتاق وهو ترجمة لجل التحركات الاجتماعية الرامية إلى التحرر من الاستغلال والاضطهاد. لكن تراجع تمثيلية القوى أو الأحزاب اليسارية في البرلمانات لا يعني أن اليسار قد تخلى عن دوره التاريخي في تثوير الشعوب، فعند النظر بموضوعية للواقع السياسي في الشارع التونسي سنلاحظ أن اليسار كان ومازال سباقا في طرح المشاكل التي تعيق التقدم المجتمعي إلى جانب مساندته للنضالات الاجتماعية وتنظيمها رغم أنه فقد الكثير من وحدته وتلاحم صفوفه ومن قدرته على المبادرة والتعبئة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدول العربية، وعلى رأسهم تونس، تعد دول “السنة أولى ديمقراطية” لذا من هذه الناحية ليس غريبا أن لا يتمكن اليسار من الحصول على نسب جيدة من التمثيلية سواء في البرلمانات أو الحكومات، ذلك أن الشعب كان ومازال يخشى هذه التيارات لما ألصق بها أنها ضد الدين وضد النمط المجتمعي القائم وهذه النقطة بالذات حساسة بالنسبة للوعي المجتمعي أكثر من مسألة الجوع والبطالة والاقتصاد.
هذا إلى جانب جملة من الأخطاء التي ارتكبتها التنظيمات اليسارية ولعل أبرزها وهي التي سببت نفور وخوف الشعب هو أن اليسار الذي نشأ في تونس كان وريثا لمشروع الحداثة الذي يهدف في العمق إلى اقتلاع الثقافة المحلية ونفيها والاستبدال بها ثقافة أخرى منقطعة عن سياقها التاريخي جاهزة ومستوردة (القيم الكونية) التي رغم نبل مبادئها إلا أنها تمثل تهديدًا لثقافة الشعب النمطية المرتبطة ارتباط وثيق بالدين والعادات. و من بين الأخطاء الأخرى نذكرها، النظرة العقدية للماركسية وتحويلها إلى دين ماركسي له طوائف (الماركسية اللينينية، الماوية، التروتسكية الخ…) ولكل طائفة مريدون ومنظرون يعكفون على النصوص ويقدمون لها تأويلات وفتاوى، وكلما طرحت مسألة من مسائل الواقع تم الرجوع والتفتيش في هذه الفتاوى الجاهزة (هناك من اليساريين اليوم من يقف مثلا ضد المثلية مستندا إلى موقف لينين). وبذلك أصبحت الماركسية دينًا جديدًا يبشر بمجتمع الجنة الموعودة الذي تسوده المساواة وقيم العدالة والسلم الاجتماعي، هذا إلى جانب عنصر النقد والنقد الذاتي الذي تتغنى به كل أطياف اليسار نظريا لكن في الممارسة فإن تقييمهم لتنظيماتهم كان يلقى فيها اللوم والفشل إما على أشخاص بذاتهم داخل التنظيم، وإما على خصم سياسي (عادة يكون من أحزاب أقصى اليمين)، وإما يلقى الأمر على عاتق الامبرياليات العالمية التي تمول الخصم وتشوه اليسار في منابر الإعلام المأجور (رغم نسبية صحة هذا الادعاء وواقعيته).
إلى جانب ذلك، فاليسار لا يطرح على نفسه أهدافًا معقولة وعاجلة وقابلة للتحقق بل يسعى إلى تغيير المجتمع ضمن صيرورة تاريخية معينة إضافة إلى أنه خارج الفعل السياسي فهو عنصر غير فاعل فهو إما ينتظر خصمه السياسي ليخطئ (يقوم بالفعل) ليرد حينها اليسار الفعل ليحظى بتعاطف الشارع، أو أنه يشاهد المشهد والأحداث ويكتفي بالمراقبة متغنيا بمقولة “دعها تتعفن” منتظرا أن ينتج هذا التعفن تغييرات تكون في صالحه، عندها فقط تحين اللحظة التاريخية لتدخله، وهو لعمري خطأ فادح. ومن بين الأخطاء الأكثر فداحة هو تبني تحاليل جاهزة لنظام الإنتاج في تونس بل وأيضا التصرف على أن الوضع الطبقي في تونس مماثل لنظيره في أوروبا وأن الطبقات مشكلة وهذا ساعد وأسهم في ترويج أطروحات خاطئة حول الدولة والهيكلة الاجتماعية وخصوصيات الصراع الطبقي والاجتماعي ولعل هذا هو السر في عدم القدرة على فهم البنى الاجتماعية ومنظومة القيم السائدة والتي تشكل أساس وحدة المجموعة ومنها الدين والأخلاق والمقدسات إلخ. إلى جانب ذلك إهمال حلقة مهمة في الثقافة وهي التراث العربي الإسلامي ومحاولة اقتلاع هذا الجزء وربطه رأسا بالتخلف والجهل ومحاولة تأصيل هوية بديلة (الأمازيغية).
وجل هذه الأخطاء يمكن في حقيقة الأمر تجاوزها إذا وجدت نية حقيقية للوقوف وقفة جريئة لنقد الذات والقيام بمراجعات شاملة لعل أبرزها التخلي عن الرومانسية الثورية وخوض تجربة حقيقية من الفعل السياسي والثقافي المتصالح مع ماضي هذا الشعب والمتماهي معه، وبهذه الطريقة فقط يمكن للشعب أن يعطي لهذه التنظيمات فرصة أخرى عليه أن يستغلها حقا ومن خلالها بإمكانه الإسهام في معالجة قضايا الواقع التي تزداد سوءا، بالإضافة إلى ضرورة القيام بجملة من التحالفات بين مختلف الأحزاب والقوى اليسارية ووضع جملة من الأهداف المشتركة والقيم التي تمكنهم من العمل التشاركي من خلال تحديد جملة التقاطعات التي تجمعهم مع هذا التنظيم أو ذاك، كالإجماع مثلا على أن هذه القوى المتحالفة تطرح جميعها مشروع التغيير لصالح الطبقات الكادحة كما يمكن صياغة ميثاق يساري أو مدونة عمل تشاركي تحتوي جملة من النقاط والاتفاقات التي تهدف إلى تشكيل تحالفات مع جملة الفصائل والقوى والأحزاب ذات التوجه اليساري وبذلك يمكن أن يكون لها وزن في البرلمان أو الحكومات وبذلك يمكن أن تحقق إسهامات هامة ولها وزنها ولا تكتفي فقط بدور المعارضة فقط.
وبذلك نخلص من كل ما سبق أن اليسار العربي عامة والتونسي بشكل خاص سيبقى موجودًا في المشهد السياسي لأنه لابد من فصيل سياسي يعبر عن تطلعات الفئات الشعبية والعاملة، ولا ينقص هذا اليسار ليكون فاعلا إلا بداية أخرى تسبقها جلسة مع الذات لفهم أخطاء الماضي وإعادة ترتيب البيت من جديد والتصالح مع الشعب بماضيه لفهم حاضره ولمحاولة تحسين مستقبله وبذلك يكون قد حقق هدفا ليس هينًا، لأن كسب ثقة الشعب قد تربحنا الكثير من الوقت الضائع في سبيل تكوين حزب ثوري قادر على أن يقود الجماهير إلى هدفها الأسمى “الثورة”.
الهوامش:
1- الهاشمي الطرودي: اليسار واقعه و افاقه، مجلة أطروحات 1988, ص19.