بداية هل الاغتراب مصطلح فلسفي أو اجتماعي أم اقتصادي؟ هل هو مصطلح أصيل في الفكر الغربي من حيث قدرته على تفسير قضايا إنسانية ومشكلات ثقافية؟ وهل تطور المفهوم بحيث تطورت طاقته الدلالية عما سبق؟ ربما كانت هذه التساؤلات ضرورية عند كل حديث في الاغتراب، ولكن الأمر هنا ضروري بشكل ما أو بآخر، ذلك أن معالجة ماركس للموضوع كانت نقطة تحول مهمة وجذرية، سواء في فلسفة ماركس أو في مفهوم الاغتراب ذاته. يعد البحث في الاغتراب لدى بعض الفلاسفة هو بحثًا في وجود الإنسان ذاته، بحثًا في رحلته من السماء إلى الأرض مرتدا بتغذية ارتجاعية إلى السماء. أي بحث في اغترابه لحظة أن طُرد من الجنة– وفقا للكتب السماوية – فحكم عليه بالغربة عن مملكة السماء ليشقى في الأرض باحثا عن وطن بديل وملجأ مؤقت، ولكن لا مفر من شعوره بالغربة وسعيه طوال حياته للعودة في دراما إنسانية سجلتها الكتب المقدسة وتفسيرات الأثر الديني وناقشها فلاسفة ومفكرون وعلماء اجتماع ومؤرخون. والاغتراب لدى البعض الآخر من الفلاسفة هو بحث في تجليات العقل الإنساني أثناء رحلته نحو الكشف عن مضامين النفس البشرية والطبيعة الحية المتغيرة باستمرار والمجتمعات الإنسانية المتطورة باطراد. ولدى فريق ثالث بحث في مستجدات العلوم الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، والتعبير عن تلك المستجدات بمصطلحات مناسبة ومعبرة قادرة على احتواء دلالات المصطلح.
وما بين تلك الفرق والجماعات العلمية تصنف التوجهات والمدارس الفكرية بحسب منظور البحث والتحليل والتفسير، ليبقى الاغتراب هو المصطلح الواحد الذي نشير به إلى ظواهر عدة، لذلك كثرت تعريفاته وتعددت دلالاته وكاد أن يضيع معناه من كثرة استخداماته، فحينما صار معبرا عن كل شيء اقترب من أن يكون لا شيء، فاختلط بين الإدراك العام له والوعي المتخصص به، وهو، وإن ظل مصطلحا محدود الاستخدام حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ ما لبث أن انتشر وتشعبت مفاهيمه منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم. وهذا التغيير إنما يشير إلى أزمة أكثر ما يرمز إلى حل أو تجاوب معرفي، فقد صار الاغتراب أحد المصطلحات الكلية في الفكر الفلسفي وتوسعت فيه أيضا النظريات الاجتماعية وأضفت عليه قيمة معرفية كبيرة خاصة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فكان أحد مناطق الصراع والتجاذب بين التفسير المادي والمثالي، فذهبت كل مدرسة لتفسير مخالف للأخرى وبالتالي انعكس هذا على تضمن المفهوم لمساحة كبيرة من طرق الفهم وأحيانا التشتت والغموض في تحديد ماذا يعني بالضبط.
- الاغتراب ما قبل ماركس:
نقطة البداية سنجدها عند الفيلسوف الألماني”فيشته”Johann Gottlieb Fichte” 1762- 1814″ نظرا لأن إسهاماته في تأسيس فكرة الاغتراب في الفلسفة الحديثة تركت أثرا واضحا في هيجل الذي قدم واحدة من أهم التفسيرات للاغتراب. ويعد فيشته وسيطا معرفيا بين كانط وهيجل من حيث إن فلسفته جاءت لتعالج بعض الإشكإليات التي عانت منها فلسفة كانط. فقال بأن الإنسان روح، وحياته في هذا العالم من خلال جسده ليست سوى ساحة وجود، وأن حريته الأساسية لا تمارس من خلال الحقوق المباشرة في الواقع بقدر ما تسعي للتحرر من هذا الواقع بفعل ممارسة وعيه الحقيقي، فكل إبداع يتم في العالم المحيط به إنما هو إبداع الذات أي الروح، التي تطرح إبداعها في الموضوع أي العالم الظاهر عبر عملية تخارج Entausserung”من الفعل ausser” والذي يعني: يجعل شيئا ما خارجيا أو مفارقا. ويقصد به فلسفيا أن الموضوع أو عالم الظواهر هو إبداع الروح، أو متخارج عنها، إذ يقوم العالم الروحي باستخراج العالم الموضوعي من ذاته ليجعله متخارجا عنه. وهو مصطلح قصد به معنيين”التسليم”بالمعنى الذي قصده روسو، و”التجرد”هو ما انشغلت به نظرية العقد الاجتماعي عموما ولا سيما لدى لوك وهوبز. والتخارج هنا فعل إبداعي تقوم به الروح حينما تكون مقيدة في جسد. وينسب الفعل هنا إلى هذا الجسد أو الشخص الموجود، وكأنها انفصلت عن ذاتها في صورة إبداع حر لتحل في جسد أو وجود عيني، أي تحل الحرية في الضرورة، وهذا المعنى يكشف عن حالة الاغتراب في قمة تفسيرها المثالي.
ومن ثم تصير” الذات”عند فيتشه نقطة الانطلاق، فمنها يمكن قيام معرفة حقيقية حينما تتمكن من إدراك ذاتها ومحيطها والمركب منهما، أي حينما تعي الذات ذاتها، ثم تكتشف خلال وعيها هذا أن إدراكها لذاتها فقط ليس هو كل الحقيقة، فتدرك على الفور نقيض الذات أو المتخارج عن الذات. ومن الذات ونقيضها ينتج مركب منهما أو يتم الكشف عن علاقتهما معا في وحدة واحدة. هنا لا يتحقق الإيجاب”الذات”سوى بإدراك السلب”نقيض الذات”. وعبر ثلاثية الذات ونقيضها والمركب منهما تنتج لنا الطبيعة الجدلية للمعرفة عند فيتشه، والنتيجة المثالية أيضا للفلسفة لديه. فالمعرفة الجدلية تتكون من تفكير أحادي إيجابي تدرك به الذات ذاتها، ثم تفكير أحادي سلبي تدرك به الذات نقيضها، ثم تفكير تحليلي يضبط المعرفة الكاملة من مركبهما. وهذا التفسير يكشف عن أهمية ودور السلب في اكتمال المعرفة لدى فيشته وقد استلهم دور وقيمة السلب من سبينوزا، ثم انتقلت من فيتشه إلى هيجل ومن ثم إلى ماركس وإن كان بصورة مختلفة.
وقبل تناول موقف هيجل من الاغتراب ينبغي أن نقدم لمحة متواضعة عن فيلسوف سوف يؤثر تماما في هيجل، وهو شيلنج”1775- 1854″الذي يتكون نسق المثالية المتعالية عنده من أربعة عناصر”الفلسفة النظرية، الفلسفة العملية، الغائية، فلسفة الفن”. ويذهب إلى أن شرط قيام المعرفة وأساسها وقضيتها الأساسية هو”الأنا” باعتباره – في نظر شيلنج- الجوهر الوحيد والأولي في بناء كل معرفة، لذلك انشغل بنقد مفهوم الجوهر عند سبينوزا والموناد عند ليبنتز ومشروع كانط النقدي، لأنهم لم يتوسعوا في فهم حدود عمل”الأنا”ونطاق تأثيرها ومستوى خصوصيتها. إن شيلنج يدعم فكرة الذاتية المتعالية أو”الأنا المطلق”كأساس للمعرفة النسقية. ذلك” الأنا”الذي يكسبه شيلنج صفات تشبه الوصف الإغريقي في إطلاقه، فالأنا: جوهر حي، منتج، مكتف بذاته متعين بذاته.
وإذا ما قررنا مسبقا أن فلسفة هيجل هو المركب بين المثالية الذاتية عند فيشته، والمثالية الموضوعية عند شيلنج ( حسن حنفي: فيشته فيلسوف المقاومة)، يمكن استنتاج أن تصورات هيجل عن الاغتراب لن تخرج عن حدود فهمه للإنسان بوصفه” عقلا”، هذا العقل يظل طوال فترة وجوده في حاجة إلى إدراك مفهوم”الكلي”والسعي إليه، وإذا ما افتقد تلك الكلية فإنه يغترب بذاته عنها، يغترب عن جوهره، فالجوهر هو طبيعة العقل. ويخطئ الإنسان حينما يحاول نفي هذا الاغتراب عن طريق الإيمان الأخروي، وكأنه يؤجل التوحد لحين البعث، وينكر هيجل بالتبعية هذا الشعور أو الموقف مؤكدا على أن نفي الاغتراب لا يأتي عبر تأجيله لما بعد الحياة، إنه نابع من داخل الإنسان وموجود فيه، أعني في طبيعته الجوهرية، مما يعني أن مفهوم الاغتراب عند هيجل ينبغي أن يتضمن صورتين هما الاغتراب عن البنية الاجتماعية والاغتراب الأخروي– الأخروي هنا يعني المجاهدة الفردية للإنسان باعتبار الخلاص مشروعا فرديا-، وكلاهما يدعمان ذاتية الفرد وشعوره بالاستقلال على حساب وحدته مع البنية ومع طبيعته الجوهرية.
وفي كتابه الأهم” ظاهريات العقل الكلي”1807 ظهر مصطلح الاغتراب في أنضج صوره وأشمل تفسيراته عند هيجل. والكتاب دراسة فلسفية يتناول فيها تجليات العقل البشري عبر تتبع تطوراته التاريخية مؤكدا على أن كل جوانب النشاط العقلي الإنساني إنما هي جوانب لتطور واحد مستمر قام به العقل الكلي عبر التاريخ – ليس في سياقه الزمني ولكن سياقه المنطقي – بمعني أنه لم يكن مؤرخا يتدرج مع الزمن بل يربط السياقات في صورة منطقية تثبت وحدة العقل الكلي.
ويؤسس هيجل نظريته تلك التي تعد مدخلا لدراسة مفهوم الاغتراب على مقولتين هما البنية الاجتماعية والفردية. وهيجل لا ينكر أن الفردية أو الذاتية أحد وجوه الإنسان التي تعبر عن خصوصيته، ولكنها سمة سريعة الزوال بموت الإنسان أو نهايته، لذلك يجب توظيفها في تأسيس شيء ما كلي أو جوهري، إذ لابد وأن هذه الفردية تلعب دورا ما عن طريق الجانب الآخر للعقل. هيجل هنا يكسب العقل طبيعة مزدوجة، الأولى تعبير عن الوعي والإرادة الذاتية وتلك تمثل خطوة أولية أو مرحلة من مراحل الطبيعة الثانية وتلك هي السمة الكلية للعقل التي تنشد الجوهري. إذن هناك عقل فردي وعقل كلي، وهذا العقل الكلي تكون مهمته تجاوز الخصوصية والتعبير عن حركة الفكر أي عن الوعي الإنساني. أما عن البنية الاجتماعية فهي المجال الذي يعمل فيه العقل الفردي، ومجموع العقول الفردية هذه تشكل بنية شعب ما، ولا يتحقق العقل الفردي دون مجال يعمل وينشط ويتفاعل من خلاله. ولكن هذا التمييز بين العقل الفردي والعقل الكلي من حيث الوظيفة والعلاقة والقيمة؛ سوف ينتج عنه مشكلات لا يمكن تجاوزها. ومن هذين المحددين المعرفيين” الفردية والبنية الاجتماعية”يمكن فهم تناول هيجل للاغتراب، الذي يعني: وضع ينشأ حينما يطرأ تغير في مفهوم شخص ما عن ذاته، إنه ليس شيئا يفعله المرء أو النتيجة المقصودة لتصرف صدر عن عمد، فالمرء يجد نفسه وقد حل هذا الوضع بساحته ( ريتشارد شاخت: الاغتراب، ترجمة: كامل يوسف حسين).
وعند غالبية المفسرين استخدم هيجل الاغتراب بمعنيين 1- إما بوصفه اغترابا للذات عن جوهرها، وإما 2- بمعنى اغتراب الفرد عن البنية الاجتماعية التي يحيا فيها، أي اغتراب عن جوهره واغتراب عن عالمه. المعنى الأول، الذي يقصد به اغتراب الذات عن جوهرها ويترادف مع ما تشير إليه كلمة Fremd الألمانية بمعنى” غريب”، ويعني بها أن يصبح شيء ما غريبا جراء انفصاله عن الأصل، وهذا المعنى استخدم على هذه الصورة من قبل علماء اللاهوت الإصلاحيين للإشارة إلى انفصال الفرد عن الله. والمعنى الثاني يقصد به اغتراب الفرد عن مجتمعه، وظهر في العصر الحديث في سياق التأصيل للعقد الاجتماعي حيث يتنازل الفرد للمجتمع عن جزء من خصوصيته في سبيل البناء الاجتماعي، إنه نوع من التخلي أو التسليم، فهو شيء مقصود تماما كما كان بالنسبة لمنظري العقد الاجتماعي، إنه يتضمن تنازلا واعيا أو تسليما وذلك بقصد ضمان تحقيق غاية مرغوب فيها أي الوحدة مع البنية الاجتماعية ( ريتشارد شاخت: الاغتراب). فالأول يعني الانفصال والثاني يعني التخلي طوعا أو التسليم، الأول لا إرادي والثاني إرادي. وسنتناول كل منهما بقدر من الإيجاز.
- الاغتراب انفصالا: يشير إلى فقدان الوحدة مع البنية الاجتماعية، وتاريخيا ظل الإنسان الفرد لا يفكر في نفسه سواء كذات أو احتىاجات سوى من خلال ما يحيط به سواء أفرادًا أو جماعات، ولا يتم هذا بقرار فردي يتخذه الشخص بقدر ما هو تصرف يبدو تلقائيا وطبيعيا، حيث تتشكل سمات الشخص العامة وفقا لملامح الجماعة التي ينتمي إليها، وعندما تنشأ مشكلة ما تمنع هذا الشخص من مداومة التكيف مع البنية الاجتماعية ينفصل عنها ويعود إلى ذاته ووجوده المستقل، ويبدأ رحلة من نوع جديد تبدأ من وعيه بالتنافر مع بنيته الاجتماعية فيدخل في حالة اغتراب حينما يجد أن البنية الاجتماعية ذاتها ليست متكيفة مع وعيه هو.
ثمة تفسير ثان للانفصال يتطابق مع رؤية شيللر: أن عالما يتجلى للإنسان فقط حينما يكف عن التطابق مع ذلك العالم. أي لا تجد الذات نفسها سوى بالابتعاد عن عالم التجربة الحياتية، عالم الواقع، لأنها كلما ابتعدت عنه تهيأت للتوحد مع عالم آخر أكثر جوهرية وثباتا، وفي الوقت نفسه يستطيع إذا ما ابتعد عن عالم الوقائع أن يدركه جيدا.
وهناك تفسير ثالث ويعني به فقدان الاستقلال، أي حينما يكون معتمدا على آخرين في تحصيل ثروة أو ممتلكات.
ويشير التفسير الرابع للاغتراب عن الذات، إلى مستوى آخر في فهم وظيفة البنية الاجتماعية وهو مجال فعل العقل الفردي للشخص، ولكن ليس هذا فحسب بل تتحول البنية الاجتماعية ونتيجة لمجموع العقول الشخصية إلى أنها تصبح عقلا متموضعا هي في ذاتها عقل – للتقريب نقول كأنها عقل جمعي– وهذا العقل المتموضع أيضا يصبح مغتربا عن الفرد.
ويدل هذا التفسير- الرابع- على أمرين، أن البنية الاجتماعية مزدوجة الأثر الاغترابي على الفرد، مرة لكونها كيانا أو مجال فعل العقل الفردي، ومرة لكونها عقلا متموضعا له سمات إجمالية كوسيط ربما لفكرة الكلية بعد ذلك. والفارق بينهما هو أن البنية الاجتماعية بوصفها مجالا هي بالنسبة للعقل الفردي مصدر تركيب وعي، والبنية بوصفها عقلا متموضعا مصدر إنتاج وعي. ويعتبر هذا التفسير أن ذات الإنسان الحقيقية هي تلك المتموضعة في البنية الاجتماعية، وبالتالي يخسر كثيرا إذا ما أخفق في إدراكها. ذلك أن الحياة الشخصية للفرد هي عضو في الكل الحيوي لهذا العالم وهو هويته الحقيقية. وأن المضمون الروحي للبنية الاجتماعية– طورها هيجل بعد ذلك في صورة الدولة– هي جوهر الفرد، فكلما تنامى اتصاله بها تجلى جوهره ووجوده الحقيقي. والتعبير الدقيق هنا هو عبارة العقل المغترب عن ذاته، أي عن البنية الاجتماعية القائم فيها الروح الجماعية التي يشكل العقل الفردي جزءا منها. هنا يشير هيجل إلى أن للعقل نوعين من الوجود، وجود فردي يمثًّل جزءا من الكلية، ووجود كلي يهيمن على العقل الفردي. والاغتراب ينشأ من انفصال أحدهما عن الآخر، أي عندما يتوقف العقل الفردي بالانفصال عن استلهام الكلية باعتبارها مبررا لوجوده.
- الاغتراب تسليما: ” التسليم أو التخلي أو التضحية”، فإذا ما كان المعنى الأول يتم علاجه بالاندماج في البنية الاجتماعية ودفع الشخص لذلك دفعا حتى لو لم يرغب هو في ذلك؛ فإن التسليم هنا هو عملية يجب أن يكون مرغوبا فيها بقوة من الشخص، ويجب أن تنبع من داخله.
اتخذ الاغتراب –إذن- معاني عديدة طوال مسيرته التاريخية بحسب السياق المعرفي والمرحلة التاريخية وهيمنة نوع معين من الثقافة. ولكن الثابت أن الفكر المعاصر وخاصة في القرن العشرين شهد تطورات مهمة في تفسير الاغتراب، وإن كان القرن التاسع عشر هو عصر تأسيس المعنى الفلسفي بحيث يمكن القول إن إبداعات القرن العشرين كانت محاكاة وتفسيرا وتعميقا للمعاني التي وردت لدى هيجل وماركس من قبل. وجاءت الاختلافات حول تحديد أطراف الاغتراب وطرق ومناهج حل مشكلته. مثلا بين الإنسان وذاته، بين ذات الإنسان والروح المطلق، بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان وقوة عمله… إلخ.
ويمكن إيجاز أهم صور الاغتراب كما وردت في الثقافة المعاصرة بشكل عام في المعاني الأربعة الآتية:
- نقل الملكية: ويعني نقل ملكية شيء ما إلى شخص آخر، أي حينما يؤول شيء من”أ” إلى “ب”هنا يشعر”أ” بالاغتراب حينما يفقد جزءا منه أو من إنتاجه أو إبداعه. لأن ما سلب منه ليس حقا لغيره. وفي هذا المعنى يجب توافر شرطين هما الإرادة أي إرادة الطرف”ب” في الحصول على ناتج عمل الغير، الشرط الثاني هو فعل”الاستيلاء” نفسه أي وضع اليد، الذي تتحول بمقتضاه الملكية إليه.
- الاضطراب العقلي: حينما يتعرض شخص لصدمة عنيفة ينتج عنها اضطراب عقلي يفقد فيها الصلة المنطقية بالأشياء المحيطة به، حينها يوصف هذا الشخص بأنه مغترب عن العقل أو الفهم. وفي معجم المعاني يعني “الاغتراب الذِّهنيّ: “علوم النفس”مرض نفسيّ يحول دون سلوك المريض سلوكًا سويا وكأنّه غريب عن مجتمعه، ولذا يلجأ إلى العزلة عنه. أو تركيز اهتمامه على أشياء معينة دون غيرها مما تفقده القدرة على رؤية شاملة للواقع بمعني أن عقله هنا لا يدرك كل العلاقات البينية والسببية بين وقائع الحياة الاجتماعية.
- الغربة: وله معنيان، إما شعور الإنسان بانفصاله عن الناس من حوله وشعوره بالوحدة وعدم القدرة على التكيف معهم، وإما بمعني الغربة عن الله والبعد عنه من خلال فقدان الصلة معه سواء بالشعور أو بالطقوس الناتجة عن غياب الولاء له.
- الانفصال: ويعني به انفصالا حتميا بين كيانات تحكمها وحدة ما، ويترتب على هذا الانفصال استقلال بين هذه الكيانات، وصراع في الوقت نفسه نتيجة الاحتكاك بوصفهم أجزاء لكينونة واحدة. وقد استخدم هيجل هذا المعنى في وصفه للكون باعتباره مكونا من أجزاء منفصلة ولكنها متفاعلة ومتكاملة في الوقت نفسه.
وسنلاحظ أن المعنى الأول، اقتصادي: مثل انتقال الملكية، والثاني سيكولوجي: مثل غياب الوعي وفقدان القدرات العقلية، والثالث فلسفي: مثل تآكل وتدهور العلاقات الإنسانية بين شخصين أو شخص وجماعة، أو جماعة وأخري. والرابع ديني: ويتمثل في الابتعاد عن الله. وهناك تصنيف آخر يتناوله كاتجاهين، اتجاه هيجل ونقله عنه جورج زمل Georg Simmel (1858- 1918) أستاذ علم الاجتماع الألماني، واتجاه ماركس ونقله عنه وفسره جورج لوكاتش تلميذ زمل في الوقت نفسه. وزمل رغم هيجليته لم يستطع تجاهل تأثير المجتمع الصناعي على مفهوم الاغتراب لدى الإنسان الحديث. ويعود الفضل إلى جورج لوكاتش في الكشف عن مفهوم التشيؤ كمعنى مركزي للاغتراب في رأس المال، فخلال عملية إنتاج السلع في النظام الرأسمالي يحول الإنسان إلى شيء حينما تصبح قوة العمل سلعة مثل أي سلعة أخرى مستخرجة من الطبيعة، فالشكل الحالي الذي تفرضه الرأسمالية على علاقة العامل بالإنتاج هي علاقة عبودية ومن ثم يصبح العمل في موضوعه عملا مغتربا.
ومن وجهة النظر الماركسية يبقى العامل الاقتصادي هو مؤسس تلك المعاني الأخرى باعتبارها بناء فوقيا ناتجا عن طبيعة العلاقات الاجتماعية/الاقتصادية. وهو ما سنعرض له الآن.
2 ـ صقيع الاغتراب عند ماركس
لا يمكن إنكار دور التصور الماركسي للاغتراب من حيث التركيز على تناوله بدقة وتحديد دلالته ودوره في تشويه القيم الإنسانية دون مبالغات فلسفية هائمة في سماء الوعي الفوقي. لأنه يهدف إلى التأكيد على مقولة أعتقد أنها بيت القصيد وهي أن ما طرحه ماركس في الاغتراب لم يزل يتجلى لنا في صور اجتماعية عديدة في شمال العالم وجنوبه، الأمر الذي يتنافى مع محاولات تغريب ماركس أو تجاهله أو إنكار حداثته المتجددة والنظر إليه من منظور تاريخي أو تأصيلي فقط.
وقد تناول ماركس مفهوم الاغتراب في أكثر من موضع: “مخطوطات باريس” و”العائلة المقدسة”و “الأيدولوجيا الألمانية” أي في الفترة (1843-1847) ثم غاب عن تناوله لمدة 12 سنة، وعاود الإشارة إليه من جديد في “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” (1859) والجزء الأول من “رأس المال” (1867) حينما أشار إلى فيتشية السلع. مما يعني أن الاغتراب ظل حاضرا في لب فلسفة ماركس، ومفهوما رئيسا في تفسيره للواقع الاجتماعي، بل وأحد أدوات ماركس التحليلية وهذا ما أكده روبرت توكر ) Robert C. Tucker1918-2010( حينما أشار إلى أن” العمل المغترب” ظل من حيث المعنى “العمل المأجور” عند ماركس، وتطور من خلال أعماله، سواء المبكرة أو المتأخرة، وهي تتناول خمسة أبعاد على الأقل تبدو متداخلة فيما بينها وهي: اللاهوتية، والسياسية، والنفسية والاقتصادية والتكنولوجية. فكل بعد منها يقابل موضوعا ميتافيزيقيا في جوهر الإنسان يؤدي إلى عزلته. وبالنسبة لماركس فتلك الأشياء أنتجها البشر أنفسهم لكي يتمكنوا من الهيمنة على الآخرين الذين لا يملكون السلطة المباشرة للسيطرة عليهم.
والجدير بالذكر فإن ماركس لم يكن أول من تحدث عن الاغتراب انطلاقا من اغتراب العامل عن عمله، فقد أشار كل من جون ستيورات مل وتوكفيل إلى أن استمرار الرأسمالية في نزعتها الاستلابية سوف يؤدي في مرحلة ما إلى تنامي الشعور لدى العمال بمدى الظلم الاجتماعي الواقع على كاهلهم. ولكنهما لم يطورا من المفهوم أكثر من الإشارة إلى وجوده وأثره السلبي في النظام الرأسمالي. فقد طرح “مل” مثلا حلا لهذه المعضلة بأن طالب بضرورة مشاركة العمال في الإدارة والإنتاج والإرباح.
فيما ينطلق التحليل الماركسي من أن الدوافع التي تشكل الإنسان المعاصر هي نتاج وانعكاس لطبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي، وبما أن هذا النمط هو حادث في التاريخ، فإن الدوافع –في معظمها– هي حادثة أيضا في التاريخ ومرتبطة شرطيا بالصورة التي تتشكل بها الرأسمالية وتطبع خصائص الإنسان الثانوية، فالرغبة في تأمين البقاء على قيد الحياة هو أحد الشروط الرئيسة لوجود الإنسان، ولكن الدافع للتملك ليس شرطا أساسيا له ولا خاصية من خصائص وجوده، بل اقترن حب التملك بظهور الملكية الخاصة. هذا التمييز الدقيق كان أحد مشاغل ماركس، ولكن كثيرين من أنصاره لم ينتبهوا جيدا لتلك القضية، وربما يعود ذلك إلى أن مخطوطات باريس التي ناقش فيها الاغتراب بقدر من الاهتمام ظلت مضمرة لسنوات طويلة في تاريخ الماركسية، فالفترة ما بين 1844- 1932 شهدت إصدار مؤلفات كثيرة جدا عن ماركس والماركسية غاب عن معظمها البعد المعرفي الذي ورد في المخطوطات.
إن إسهام كارل ماركس في الاغتراب يعد علامة فارقة ونقطة تحول كبرى لنظرية المعرفة في القرن العشرين حيث تناولت معظم المؤلفات عن الاغتراب التصور الماركسي وجعلته محورا من محاورها سواء بالنقد أو بالتعديل أو بالإضافة. ففي الفترة من ظهور ظاهريات الروح (1807) وحتى الكشف عن مخطوطات ماركس في (1932) لم يحتل مفهوم الاغتراب دورا ذا قيمة في الفكر الفلسفي أو الاجتماعي بوصفه مصطلحا تفسيريا لكثير من القضايا الإنسانية. فلا التأسيس الفلسفي الحديث له مع شيلنج أو شيللر، ولا التضمين الفلسفي له عند هيجل كانا قادرين على وضع المفهوم في تصوره الشامل المفسر كما تبدّى ذلك حينما تم كشف النقاب عنه على يد لوكاتش.
وعلى مدار ما يزيد عن القرن ظل المصطلح يراوح عدة دلالات في تقديري كانت تأسيسية، ثم تحولت بعد ذلك –أقصد بعد ظهور المخطوطات– إلى أدوات تفسير دارت في فلك الفكر الفلسفي وصارت جزءا مهما من أبحاث علم الاجتماع المعاصر. وهذا ما يؤكده أحد أهم الذين تناولوا مفهوم الاغتراب عند ماركس؛ إذ يقول إريك فروم: بالنسبة لفلسفة كارل ماركس، والتي تجد تعبيرها الأكثر وضوحا في “المخطوطات الفلسفية والاقتصادية” فلأن المسألة المركزية هي مشكلة وجود الإنسان، ككائن فردي واقعي حقيقي، يتحدد معنى وجوده من خلال عمله، والتي تتجسد “طبيعته” وتحقق ذاتها في الصيرورة التاريخية ( اريك فروم: مفهوم الإنسان عند ماركس).
وإذا ذهبنا مع فروم حول مركزية الإنسان كمحور لفلسفة ماركس بصفة عامة، يصبح من الضروري تفهم ماذا يعني ماركس بالإنسان؟ وكيف يتصور حريته؟ تذهب الماركسية إلى أن الإنسان هو صانع الإنسان وأن العمل هو الفاعلية السالبة التي يستطيع الإنسان عن طريقها أن ينفي الطبيعة وأن يعمل على إخضاعها لسيطرته محققا ذاته من خلال هذا العمل نفسه( زكريا إبراهيم: الطبيعة البشرية في فلسفة كارل ماركس) ومن ثم تصبح علاقة الإنسان بالطبيعة أكبر من مجرد كونها علاقة اتصال، بل هي بمثابة علاقة امتداد، فالإنسان لا يكتسب صفة الوجود دون أن يكون وجودا متحققا في الطبيعة، قائما عليها، مستمدا حياته منها، ومكتسبا تطوره من خلال نشاطه العملي فيها، فبدونها يموت فيزيقيا، وبدون العمل والتحكم فيها يموت كفاعلية، ولهذا قال ماركس بأن النتيجة الجوهرية للإنتاج هي وجود الإنسان، حيث يتداخل الطبيعي مع الصناعي، كما يتداخل التاريخي مع الآني، حتى ينتج لنا إنسانا فاعلا، ولكنها ليست فاعلية كما فاعلية العبد الذي يكتسب قوته من خلال الرضوخ لقوانين السيد، ولكنها فاعلية إنسانية حرة تضع الإنسان في صراع مع الطبيعة ليس من أجل الخضوع لها بل من أجل السيطرة عليها والتأثير فيها، أي لكي يخضعها لقوانينه هو في التطور.
ومن ثم فمفهوم الإنسانية في الماركسية يأخذ بعدا أكثر وضوحا، لأنه ينظر إلى التحرر الإنساني من منصة المحارب الطبقي كما يقول- ساخاروفا– فالماركسية في رفضها للمضمون اللا طبقي الإنساني، وصلت إلى حل مشكلة الإنسان حلا عيانيا- تاريخيا، وفي كشفها لمستقبل تطوره بينت الشروط الواقعية لتحريره.