العدالة والمساواة والمواطنة، هم الحلم اليساري الأول قبل اليسار العربي الذي كان طفا على الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية إبان الثورات الشعبية في أوروبا، مهد اليسارية، وموطن ظهور تشكيلاتها المختلفة. فاليسار، مصطلح يمثل التيار والشكل والطيف، الفكري والسياسي الذي يسعى إلى تغيير المجتمع وتحسين سبل العيش. تاريخيا، يرجع أصل هذا المصطلح إلى الثورة الفرنسية عندما أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية، ذلك التغيير المتمثل بالتحول إلى النظام الجمهوري والعلمانية. بينما يمثل تيار اليمين، ماهو عكس اليسار، بمعنى التأييد الفكري والسياسي والاجتماعي للملكيات والأرستقراطيات والقوميات والتقاليد. وكان ترتيب أماكن الجلوس في البرلمان، لمن يؤيد مثل هذه التوجهات في جانب اليمين داخل البرلمان. وعلى عكس التيار اليساري، كان تيار اليمين يؤمن بالطبقية، والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الأغنياء والفقراء. واستمر ذلك التقليد إلى اليوم، ففي البرلمات الغربية والأوروبية طريقة الجلوس نفسها لليسار السياسي واليمين السياسي.
لكن، ومع مرور الوقت، ومع ظهور قوى سياسية وفكرية معارضة داخل تشكيلات الفكر اليساري، شهد اليسار عدة تحولات وتغيرات، مثل بروز مسميات اليسار المتطرف، الذي انضم تحت لوائه الفكر الشيوعي المتطرف. أما يسار الوسط، فقد انضم تحت لوائه الأحزاب الشيوعية الديمقراطية، وكلها ترمز وتعني اتخاذ مواقف سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة عن السائد، إلا أنها لا تخرج عن عباءة الفكر السياسي اليساري. ولم تشهد الساحة السياسية الدولية وصول الأحزاب اليسارية المتطرفة اليمينية إلى الحكم، لقلة مؤيدي التوجهات المتطرفة، ولاستقرار الدول والنظم الديمقراطية في الغرب، وخصوصا في أوروبا، حيث إن تلك الدول قائمة حاليا على التعايش والاختلاف والرفاه الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
ورغم ما تغير بعد أحداث سبتمبر 2001، وبعد ثورات الربيع العربي، وما يشهده العالم اليوم بعد جائحة كورونا، إلا أن اليسار المتطرف لم يشهد فوزا ساحقا في أي انتخابات رئاسية، وإن حصل ذلك، فهو لا يعدو كونه إلا تحالفا مع تيارات الوسط لفترات محدودة لا تؤثر في شكل الحكم وتوجهه السياسي والفكري. بينما، وما نريد أن نتناوله في هذا المقال، هو اليسار العربي، وماهي نجاحاته وإخفاقاته؟ وهل شكّل فعلا التقليد الأعمى لليسار الغربي، أم انخرط في قضاياه ومشاكله العربية والقومية؟ وهل مازال اليسار العربي حلما للشباب العربي والأحزاب السياسية في خلق الثورات وإزاحة نظم الاستبداد التي يطلق عليها اليسار الرأسمالية الطفيلية؟
لقد دخل اليسار العربي، بمختلف تشكيلاته (القومية، الماركسية، الاشتراكية) إلى الوطن العربي منذ بدايات القرن الماضي، وانخرط في النضال آنذاك ضد الاستعمار وتحرير البلدان العربية من براثن القوى الغربية المحتلة لغالبية الوطن العربي. وكان اليسار العربي في ذلك الوقت، يمثل في مخيلة الشعوب العربية، المخلص والكاريزما والمهدي المنتظر في المخيال الديني، لما تحمله الأفكار اليسارية من مبادئ وقيم تحررية وديمقراطية وعدالة اجتماعية، والتحول إلى الدولة الوطنية المدنية. لكن أين اليسار العربي اليوم من يسار الأمس؟ وهل شهد اليسار العربي انتكاسات في مفاهيم الحريات والدين والعدالة الاجتماعية ودعم الأنظمة العسكرية، وغيرها من قضايا لا تزال محط نقاش وجدال أمام ما برز على الساحة العالمية من أفكار حداثية وعولمة وتقدم الرأسمالية وتفوق العلمانية وانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي القديم؟
في الواقع شكلت الأفكار اليسارية مرحلة وقتية لم تثبت جدارتها واستمراريتها في الوطن العربي، لكونها تجربة تقليدية غير منتجة، ولأنها نسخ تراثية للأفكار اليسارية الغربية. نظرا لما شاب أيديولوجية اليسار العربي من عصبية وانغلاق وجمود حول أفكارها وعدم قدرة اليساريين العرب على الفكاك من أيديوليجية الأجداد والمؤسسين. بل اتخذ بعضهم، ونكاية لما اعتبروه من تفوق العلمانية والليبرالية الغربية، في دعم الأنظمة السلطوية والدولة العسكرية، كمسار يعزز تواجدهم داخل تلك الهياكل القمعية بحجة مقاومة الوحشية الرأسمالية.
وبهذا انشغل اليسار العربي، بدلا من تحرير الإنسان العربي وترقية الوعي التحرري الديمقراطي العلماني، انشغل بمناكفة الرأسمالية والتعددية والديمقراطية، باعتبارها أدوات ليبرالية تهدف إلى السيطرة السياسية على إرادة الشعب. وانشغل اليسار العربي، في عهد الأنظمة الشيوعية والاشتراكية العربية قبل فشلها سياسيا، بمحاربة ومقاومة البرجوازية والملكيات الفردية والأسواق المفتوحة والديمقراطية الاقتصادية التي تعزز الفردية والاستقلالية والملكية، في سبيل توطين الأفكار اليسارية، في ضرورة التأميم العام وقيادة الشعوب لمصيرها وبناء الاقتصاد الاشتراكي القائم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج المجتمعية.
والمرعب في أفكار اليسارية المتطرفة أنها تعتبر الديمقراطية التعددية مجرد وسيلة للانقضاض على السلطة، وإن صناديق الاقتراع ماهي إلا وسيلة للوصول إلى السلطة وبالتالي فرض الاشتراكية على الدولة والشعب في آن واحد. وهنا تتشابه هذه الأفكار الفاشية، مع التيارات والجماعات والأحزاب الإسلامية في شيئين: الأول، اعتبار الديمقراطية الاقتراعية مجرد وسيلة للوصول إلى دولة الخلافة الإسلامية، وثانيا، أن النظرية الشيوعية أو الاشتراكية صحيحة دائما، وأن الفشل يمكن دائما في التطبيق. وهنا غاب عن منظري اليسار والاشتراكية، مفهوم الفردانية والحريات الشخصية. فما فائدة العدالة الاجتماعية في الدولة، بينما يعيش أفرادها ومواطنوها تحت سلطة ونير الاضطهاد والتشابه والتناسخ والقمع.
في الواقع، ظل اليسار العربي يحلم باستنساخ تجربة كوبا والصين وكوريا الشمالية اليوم وقمعية جمال عبدالناصر وفاشية الاتحاد السوفيتي السابق. وأمام هذه الأحلام المزعجة، سقطت أفكار اليسارية والاشتراكية والشيوعية في مهد دولها وجمهورياتها. سقطت بعد أن ثارت الشعوب على نظام القمع والوصاية والتدمير الذاتي. سقطت بعد أن كانت أحلام الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحكم الشعب لنفسه، لم تتحقق ولم تتجاوز الشعارات المرفوعة والبيانات رقم واحد في الفكر اليساري. سقطت بعد أن انشغل اليسار العربي في تصفية الحسابات ولعب الاتفاقيات وتجاوز المثاليات. ولم تفلح تيارات اليسار العربي، على طول الوطن العربي وعرضه، من تقديم رؤى واستراتيجيات مفصلية تخدم الشعوب العربية وتطلعاتها نحو الحرية والعلمانية والمواطنة. بل انشغلت بقضاياها الخاصة وحروبها الداخلية وكيفية الاستفادة من التحالفات مع الأنظمة العربية الحالية. وحتى في قضايا الكفاح المسلح للشعوب في أمريكا اللاتينية وغيرها، وفي مواجهة إسرائيل في العصر الحديث، اختلفت التيارات اليسارية حول الطرق والوسائل. خصوصا وأن اليسار العربي شهد تحالفات سياسية مع بعض الأنظمة العربية كنظام الأسد في سوريا، وحزب البعث أيام صدام حسين، وكذلك محاباتهم للموقف السوفيتي في تقسيم فلسطين تحت الانتداب.
وحتى نكون منصفين، وقادرين على تقديم الحلول والنصائح للتيارات اليسارية والاشتراكية والشيوعية في مجتمعاتنا العربية، نقول بأن فشل اليسار العربي في تحقيق انتصاراته الأيديولوجية، قد لا يعود بالضرورة إلى عقم الحراك السياسي والاجتماعي اليساري، بل يعود بشكل كبير إلى شيخوخة أفكار اليسار وعدم قدرتها أو قدرة المشتغلين فيها، على القيام بمحاولات إصلاحية جذرية تتلاءم مع الواقع والتطورات، كما تفعل الديمقراطية والليبرالية الغربية في تصحيح أخطائها، وهو ما نشهده اليوم بجدارة في الانتخابات الأمريكية القادمة بين ترامب وما يمثله من شعبوية، وبايدن الذي يراه الكثيرون كمصحح للديمقراطية الأمريكية بعد عثرات الرئيس الأمريكي.
إن الطبقة العاملة والحركات العمالية التي تشغل بال اليسار العربي، أو تستغلها في أسوأ الأحوال لمصالح الوصول إلى السلطة أو تهديد الأنظمة بالتوقف عن العمل لتنفيذ مطالبها، هي في النهاية نتاج التطورات الرأسمالية، واندفاع شعوب الريف نحو المدن للعمل والكسب وتحقيق الرفاه الاقتصادي الذاتي. وهنا أيضا، ومن الجدير ذكره، أن تلك الطبقات العاملة والحركات العمالية الشعبية الثورية وجدت الدعة والرخاء في منطقة الخليج العربي ودول النفط الغنية التي يعتبر فيها العامل موظفا لدى الدولة ويحظى بالامتيازات الاقتصادية العالية التي تجعله يقتني أفضل الملابس والسيارات وأفضل أنواع السيجار، ويقضي ذلك الموظف عطلته السنوية في ربوع المجتمعات العلمانية الليبرالية دون أن تتسخ ملابسه أو يشعر بأحوال العامل العربي في موريتانيا أو الصومال أو الدول العربية ذات الدخل المنخفض.
واليوم، لم تعد هناك دول مستعمرة حتى يلعب اليسار دور المخلص والمنقذ. بل أصبحت إرادة الشعوب والثورات الشعبية هي الوسيلة للتحرر، ولنا في ثورات الربيع العربي، وحركات التحرر الشعبية في فنزويلا وغيرها المثال الحي لإرادة الشعوب في الحرية بعيدا عن التنظيرات اليسارية وأحلامها. إن الفكر اليساري العربي اليوم، بمختلف تلاوينه واتجاهاته الفكرية والسياسية والاجتماعية، هو أسير للتاريخ ويقبع في مستنقع السكون الفكري والرثاثة الهيكلية، ويسكن عقليات لا تزال تفكر بالمؤسسين وأحلامهم وتطلعاتهم، دون أن يروا الواقع العربي وكيف تغيرت أفكاره وأدبياته السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية.
وحتى نطلق رصاصة الرحمة على الفكر اليساري، وكي يرى أتباع هذا الفكر مدى إخفاقه وجموده وتراجعه، فإننا ندعوهم إلى رؤية العصر الحديث، فهل تحقق أي نجاح للدولة اليسارية الاشتراكية الشيوعية؟ وهل نجحت أي تجربة اشتراكية في تعزيز منطق الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان؟ وهل صنعت أفكار اليسار والقومية حداثة اقتصادية منتجة و‘بداعية ومتقدمة؟ أم أن كل ما نراه من تفوق وإبداع وحريات وصناعة، هو في النهاية نتاج الرأسمالية والليبرالية والعلمانية؟ تلك القيم والأفكار والمنجزات الحداثية التي نقلت الإنسان من عصر الظلام إلى عصر النور والتنوير والحريات.