يمكن ملاحظة المزاج العام للمجتمع من خلال بعض المؤشرات النفسية والعاطفية، تفرزها أولا الطبيعة الدينية للمجتمع. وبقدر ما يكون النظام متوافقا معها، بقدر ما يكون مقبولا، نظرا لأن الدين في مجتمعاتنا يأتي أولا قبل الدولة، فهو ليس حالة خاصة ضمن الدولة بقدر ضرورة انتظامها معه. كانت هناك حالة من التوافق والرضا بين الرؤية للماضي وقبول الحاضر والتطلع للمستقبل، بمعنى أنه ليس هناك وضع يجعل المواطن في حالة حنين إلى الماضي أو الشوق إليه. لم يكن المواطن يشعر بأي نوع من المنافسة، فهو في عين الوطن، مع قيام الدولة بمشاريع التعليم والصحة التي كانت مرتبطة بأجندة اجتماعية كبيرة، من خلال المساعدات بجميع أشكالها العينية، بالذات التي كانت توزع على الطلاب مجانا خلال الصيف والشتاء، كذلك بالمغريات المالية لجذب الطلبة إلى المدارس وإلى النظام التعليمي.
درجة التعاطف خلال تلك الفترة كبيرة جدا، ولا تقتصر على المناسبات كالعزاء أو الزواج، وإنما يمكن مشاهدتها وملاحظتها بشكل يومي بين أبناء المجتمع، فهم كانوا يعيشون بين المسجد والمجلس. وأعتقد أن نمط التجمع السكاني الطبيعي والتلقائي الذي تغير لاحقا، كان له أثر كبير في إعلاء قيمة التعاطف هذه لدى المجتمع في تلك الفترة. كان المجتمع في تلك الفترة أكثر استجابة للتأثير الخارجي من الدولة، أو السلطة، الأمر الذي سنرى لاحقا أنه مر بمرحلة توازن. ثم بعد ذلك في منتصف التسعينيات وما بعد أصبحت دولة قطر دولة تؤثر بقدر ما تتأثر أو ربما أكثر مما تؤثر، حينما تغيرت ديناميات النظام المعرفي نتيجة لتغير دور الدولة محليا ومناطقيا وعالميا.
فقضية فلسطين، والمد الناصري، في ذلك الوقت، جعلا الشخصية القطرية تتأثر كذلك بالنظام المعرفي العربي العام، الأمر الذي خفف من تركيزها على تأثيرها في طبيعة إنتاج نظام المجتمع المعرفي، واهتمامها أكثر بالأيديولوجيا. ولم تستفق من ذلك إلا وقد كانت بنية النظام المعرفي الاقتصادية قد استحكمت تماما، ولم يعد هناك مجال للمفاوضة أو للمقايضة مهما كان ضيقا. المثقف في تلك الفترة كان الفداوي والخوي بالمعنى الحقيقي، وليس المجازي، الذي سنرى لاحقا أنه عاد إلى الظهور مرة أخرى، وهما مصطلحان معروفان ولا داعي لشرحهما.
يبقى أن أشير إلى أن محددات أو أقانيم النظام المعرفي لمرحلة ما بعد النفط، هي الريع والحكم والمجتمع والمسافة بين هذه الأبعاد الثلاثة، فكلما كانت هناك مسافة مثلى نوعا ما، كان هناك نظام معرفي أكثر إنسانية وتطورا، ويمكنه الانتقال بالمجتمع إلى مرحلة جديدة والعكس صحيح كذلك. بينما كانت المسافة قبل ذلك هي بين أفراد المجتمع والبحث عن سلطة تمثله، وتعبر عن إرادته بعيدا عن أي تأثيرات أخرى.
في السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات، سيطر خطاب الحكومة على النظام المعرفي في المجتمع القطري، وبرز الموظف المدني، والموظف العسكري، كرمزين لتلك المرحلة وكمرتكز لطبقة وسطى حكومية واضحة آخذة في التشكل، وبدأ النظام المعرفي في المجتمع بالسماح في اعتماد العلم كقيمة وظيفية في الحياة، وبالتالي في الانعتاق من الأشكال الريعية الوظيفية السابقة كالفداوي والخوي والخادم.
لذلك أسميت النظام السائد في تلك المرحله بنظام” التموضع”، بمعنى تمكين المواطن من الوقوف مستقلا إلى حدٍّ ما بين الريع والسلطة. وأعني بالسلطة، ليس المفهوم السياسي وإنما المفهوم الاجتماعي أي أصحاب السلطة، وهم العائلات الحاكمة في الدول العربية في الخليج .وأعتقد أن وجود هذه المسافة بين الريع والسلطة في ذلك الوقت هي التي سمحت بالاتجاه نحو دور أكبر للحكومة وللمجتمع، وليس بسبب طلب داخلي على ذلك، ولكنها رؤية كانت تتسق مع الوضع العربي السائد في حينه، المتمثل في المواجهة مع إسرائيل، ثم وقوع الحرب الإيرانية العراقية، وتأثيرها المباشر في المنطقة.
وكما ذكرت سابقا، فالريع هو الريع عبر تاريخ المجتمع القطري، لكن رؤية السلطة له هو الذي يسبب الاختلاف من مرحلة إلى أخرى، ويفرز بالتالي نظاما معرفيا بناء على ذلك الاختلاف والتبدل. الريع هو الريع، لكن رؤية السلطة له هي التي تسبب الاختلاف من مرحلة إلى أخرى، وتفرز بالتالي نظاما معرفيا بناء على ذلك الاختلاف والتبدل.
ويتضح ذلك بالنظر إلى المراحل التالية:
أولاً: مثلت الوظيفة الحكومية نطاقا فاعلا في تلك الفترة نتيجة للخطاب المعرفي الذي تبنته السلطة، مع احتفاظ المجتمع بصورته التراثية السابقة، المتمثلة بوجود الشيوخ ووجود الوزراء من كبار السن والوجهاء، ومجلس الشورى الذي كان في حينه مناسبا لتلك المرحلة، وفعالا جدا، وفي اتساق تام مع النظام المعرفي السائد حينئذ. مع أن وجود مسافة بين جميع هؤلاء الفاعلين جعل المجتمع إلى حد ما في مرحلة توازن.
ثانياً: البحث عن القطري بقوة، كان شعار تلك المرحلة، وتقطير الوظائف كان هدفها، إلى درجة أن أصبحت هناك روشته اسمها “أنا قطري”، الأمر الذي أحدث ردة فعل قاسية جدا عندما تخلت الدولة نوعا ما عنها، تحت دعوى التحديث أو التنويع أو المنافسة.
ثالثاً: غلبت لغة “التصحيح” على معظم تلك الفترة، بمعنى أن هناك وضعا خطأ علينا تصحيحه، لكنها لم تستمر حتى نهاية تلك الحقبة.
رابعاً: ظل المسجد والمدرسة يؤديان دورهما في اتساق تام، ولعل الملاحِظ يلحظ بسهولة متانة ثقافة ولغة ذلك الجيل، وتمكنه كذلك من اللغة الإنجليزية، وبمنهج ديني واحد ضمن المنهج العام التعليمي.
خامساً: شكلت الحكومة والديوان الأميري ثقل التفاعل مع المجتمع، وحل مشاكله بصورة أكثر مما كانت عليه سابقا من ناحية التنظيم والإدارة. وما زلت أتذكر توصية الديوان الأميري بشأن سماع الوزراء والمسؤولين لبرنامج “وطني الحبيب” وضرورة التجاوب معه وحل مشاكل المواطنين.
سادساً: تلك المرحلة الوطنية يمكن تقسيمها إلى فترتين، الأولى فترة ما قبل تحول بعض المسؤولين إلى تجار، والفترة الثانية بعدما أصبح هؤلاء المسؤولون تجارا. وهي بداية مرحلة خطيرة أثرت بشكل سلبي في المجتمع وعلى بنيته المعرفية فيما بعد، حيث أصبح الريع ينتج تجارا دونما هيكلية تجارية، وعلى الوجه الآخر يبقى المواطن لاهثا خلف جزرته.
سابعاً: ومع ذلك كان نمط العلاقات المجتمعية تتوسطه الأفقية إلى حد ما، حيث لم يزل المجتمع يحتفظ بكثير من رموزه وشخصياته، سواء من الشيوخ، أو من أعيان المجتمع وشخصياته، ولم تكن السلطة تعمل على شده إلى أعلى أو ربطه بها مباشرة إلا في بعض الأمور وليس كلها.
ثامناً: بقي القطري بعيدا عن المنافسة إلا في حدود ضيقة جدا، إلا أن الدولة لم تستطع أن تقيم توازنا بين إغراءات المنصب والوظيفة، وبين مجموع قطاعاتها، فتكدس الطلب على قطاع دون آخر، وعلى وظائف دون أخرى، الأمر الذي أحدث تشوها في الهياكل الإدارية، ولم تستطع كذلك ربط الجهاز التعليمي بمتطلبات التنمية، فوجدنا لاحقا خريجين يبحثون عن وظائف ووظائف تبحث عن خريجين.
تاسعاً: كانت هناك روح للمجتمع لا تزال واضحة، ففي كثير من الحالات كانت فعاليات المجتمع الشعبية تتدخل لدى الحاكم مناشدة إياه فيما يعتقدون أنه ضرر بالمجتمع وببنيته الاجتماعية، وهذا أثر للنظام المعرفي السابق كذلك.
عاشراً: كان مثقف تلك المرحلة هو الموظف الحكومي والعسكري اللذين كانا يمثلان جانبي الاستقلال والانفكاك من الإطار المعرفي للمرحلة السابقة.
أحد عشر: تبقى حقيقة واضحة يجب اعتبارها عند الحديث عن النظام المعرفي، وهي التفريق بين نظام معرفي تنتجه البنية، فهي التي تتكلم وليس الأفراد سوى لسان ينطق بها كما هو الحال في مجتمعاتنا، فالفرد في مجتمعاتنا لا يتكلم، وإنما البنية التقليدية الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزت وعيه دون حول منه، هي التي تتكلم في داخله، وبين بنية معرفية ينتجها الأفراد ويتكلمون بها، وتحتملهم وتحتضنهم داخلها لأنها نتاج طبيعي لإرادتهم كما هو موجود خارج عالمنا العربي.