قرابة العقد من الزمان، تعيش المنطقة العربية حالة من الزخم الشعبي غير المسبوق في تاريخها الحديث. عشر سنوات من الثورات الشعبية والثورات المضادة، هتافات ضد الديكتاتورية العسكرية والأنظمة القمعية. أحلام بالديمقراطية، الحرية والعدالة الاجتماعية. صعود سريع وسقوط مدوٍ لأصحاب الإيديولوجيا السياسية الإسلامية في مصر، تفجر حرب أهلية وحرب بالوكالة في كل من اليمن وسوريا. انقسام في ليبيا وبوادر حرب إقليمية. استقرار نسبي في تونس، مبعثه الترقب والقلق من انفلات الأوضاع. عشر سنوات من الآمال والأحلام والتطلع لمستقبل أفضل، عشر سنوات من الحروب والدمار، النزوح واللجوء. رغم ذلك، رغم المخاطر المحدقة بالجميع، ورغم عدم اليقين لما ستؤول إليه الأوضاع حال انفجار الجماهير في الشوارع والميادين، تتوالى الموجات الثورية موجة تلو أخرى. في الأولى بداية من العام 2011 تونس، مصر، ليبيا، سوريا، اليمن، والبحرين. وفي العام الماضي، العراق، لبنان، الجزائر والسودان.
عشر سنوات من الشعارات اليسارية، الحرية، الخبز، العدالة الاجتماعية. عشرات الملايين من المتظاهرين في الشوارع والميادين ضد الديكتاتورية والفساد وسياسات الإفقار والرجعية، نساء يحلمن بالحرية والمساواة مع الذكور في الأجور والتعليم والمواريث وشغل الوظائف العامة، أقليات عرقية ودينية تحلم بالتمثيل السياسي في البرلمانات والحكومات المركزية. شباب في العشرينيات من أعمارهم يحلمون بمستقبل أفضل.
عشر سنوات وبيئة خصبة للفكر اليساري كي يزدهر. يطرح رؤاه التقدمية، يكتسب الشعبية، ينظم صفوفه ويطرح للجماهير بديلا عن قطبي الثورة المضادة، العسكر والإسلاميين. يطرح بديلا شعبيا تقدميا ذو رؤية ومشروع اجتماعي سياسي واقتصادي. عشر سنوات ونحن “في انتظار جودو”.
في انتظار اليسار العربي الذي لا يأتي كان لزاما علينا أن نتساءل عن واقع اليسار العربي؟ لماذا فشل في الظهور وتنظيم الحراك الشعبي؟ أين هو من التيار الشبابي العالمي؟ هل تشكل أزمة كورونا فرصة لليسار كي يطرح رؤاه وبدائله عن النظم النيوليبرالية الحاكمة؟
للوقوف على إجابات عن تلك الأسئلة وغيرها، التقت “مواطن” بمؤلف (الشرق الملتهب: الشرق الأوسط في المنظور الماركسي)، (الماركسية والدين والاستشراق)، (الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية) و(انتكاسة الانتفاضة العربية) الباحث والأكاديمي البروفيسور جلبير الأشقر الأستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) في جامعة لندن وكان معه هذا الحوار:
- ليست الماركسية إطارا فارغا يمكن ملؤه بما يشاء كل فرد، بل لها ثوابت في المفاهيم والقيم.
- هناك حلقات ماركسية مختلفة عن النمط الستاليني حاولت الظهور في المنطقة، لكنها لم تتمكن من الخروج من الهامش بالرغم من الفرصة التي وفّرها “الربيع العربي”.
- استطاع الحراك الشبابي في السودان أن ينظم نفسه بشكل تنظيمي ينبذ المركزية ويحرص على الأفقية دون أن يعني ذلك نبذ التنظيم برمّته.
- منذ عام 2011، دخلنا في “سيرورة ثورية طويلة الأمد” ستمتد لسنوات عديدة بل عقود؛ فبعد الربيعين سيأتي ثالث ورابع.
- الإسلام لا هو “الحل” كما يرى الإخوان ولا هو “المشكلة” كما يرى بعض خصومهم. المسألة ليست مسألة دين، بل مسألة برامج اجتماعية واقتصادية وسياسية يمكن أن يلتقي حولها المؤمنون وغير المؤمنين.
- لو كان للحراك قدرة على الاستيلاء على السلطة لانتقل من احتلال الميادين إلى احتلال مراكز السلطة.
حاوره: محمد هلال
نص الحوار:
1- في حديث لموقع “نواة” التونسي، وصفت الماركسية في البلدان العربية بأنها “ماركسية محنّطة”، فكيف ترى واقع اليسار العربي اليوم عموما؟
الماركسية العربية محنّطة بمعظمها لعدة أسباب يعود أهمها إلى تكوينها التاريخي، إذ سيطر على ما يسمّى بالماركسية في المنطقة العربية، لفترة طويلة جدا، نمط من “الماركسية” محنّط بالأصل، هو ما سمي “الماركسية السوفييتية”، أو ما يمكن تسميته بالستالينية وهي مسخ للماركسية. هناك استثناءات بالتأكيد، فهناك مساهمات ماركسية عربية خلاقة في المجال البحثي، مع أن بعضها كُتب في الخارج بلغات غير العربية كنتاجات سمير أمين أو أنور عبد الملك. كما هناك مساهمات تطورت من ضمن نطاق الحركة الشيوعية العربية، أبرزها وأهمها مساهمة مهدي عامل بما تميز به من فكر خلاق ومسعى إبداعي. لكن الاستثناءات تؤكد القاعدة، فبشكل عام تميزت الحركات السياسية المنظمة التي ادّعت الماركسية في المنطقة العربية بالسطحية والابتذال. هذه الضحالة تساهم في تفسير الإفلاس الذي وصلت إليه الجماعات التي تدّعي النطق باسم الماركسية في المنطقة العربية في نهاية القرن العشرين.
ولا تزال رواسب تلك الماركسية المحنّطة متفشية حتى الآن في المنطقة، تتجلى من خلال المواقف المضادة لبعض الثورات التي قامت في إطار “الربيع العربي”، ومنها الثورة السورية على الأخص. فقد رأينا الكثير من أدعياء الماركسية واليسار يدعمون النظام السوري بالرغم من أنه قائم على بطش واستغلال فاحشين. فنحن أمام حالات تدّعي الماركسية، لكنها بعيدة جداً عن جوهرها. ولا أقول ذلك من باب الادّعاء باحتكار الماركسية الأصيلة، لكن هناك فرق واضح بين أن تدّعي احتكار التفسير الصحيح الوحيد لمنظومة فكرية معقدة، وبين أن تحدد الأطر الفكرية التي تتحرك ضمنها هذه المنظومة الفكرية والتي يمكن للنقاش أن يدور في إطارها. فليست الماركسية إطارا فارغا يمكن ملؤه بما يشاء كل فرد، بل لها ثوابت في المفاهيم والقيم، والحال أن قيم الديمقراطية والحرية والمساواة قيم أساسية في فكر ماركس وتشكل مناقضتها خروجا عن الماركسية، مهما ادّعى الخارجون.
2- فشل اليسار في انتهاز فرصة ثورات الربيع العربي كي يصبح قادرا على تعبئة الفقراء والمهمشين، فما الأسباب التي أدّت إلى هذا الفشل؟ لماذا فشل اليسار في “أن يكون يساريا” على حد قولك؟
السبب هو ما ذكرته من ثقل التقليد السوفييتي الستاليني في المنطقة العربية، الذي أدّى بالأحزاب الشيوعية العربية في الكثير من الأحيان إلى دعم الدكتاتوريات. فقد رأينا الحزب الشيوعي السوري يشارك في حكومة نظام آل الأسد، والحزب الشيوعي العراقي يشارك في حكومة النظام البعثي، والحزب الشيوعي المصري ينصهر في الاتحاد الاشتراكي، الحزب الحاكم في العهد الناصري. فإن كافة هذه الأحزاب “الشيوعية” قد ضربت عرض الحائط بالحرية والديمقراطية اللتين يفترض بماركسيين حقيقيين أن يقفوا في طليعة النضال من أجلهما. وفي الحقيقة، كيف تكون أطراف ما من دعاة الديمقراطية الصادقين وهي تتذيل بالأصل للنظام البيروقراطي البوليسي الذي كان قائما في الاتحاد السوفييتي؟
بالطبع، هناك حلقات ماركسية مختلفة عن النمط الستاليني حاولت الظهور في المنطقة، لكنها لم تتمكن من الخروج من الهامش بالرغم من الفرصة التي وفّرها “الربيع العربي”. وكانت تلك الفرصة كبيرة: في مصر مثلا، تميزت “ثورة 25 يناير” 2011 بتقدمية المنحى العام لشعاراتها والحراك الشبابي. طبعا، كان هناك أكثر من تيار سياسي داخل الحركة الشعبية، لكن التيار الشبابي المبادر والمحرك للأحداث بين2011 و2013 كان ذات منحى يساري ولو بصورة عفوية أكثر منها متبلورة أيديولوجيا. وقد رأينا تعبيرا سياسيا عن هذا التيار الشبابي في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية لعام 2012، تجلى بالتصويت لحمدين صباحي الذي مثّل آنذاك برنامجا يساريا ديمقراطيا ووطنيا وحصل على المركز الثالث في عدد الأصوات بما كاد يضاهي ما حصل عليه مرشح الفلول ومرشح الإخوان. كان ذلك تعبيرا عن وجود طاقة شعبية تقدمية كبيرة وقف الشباب في طليعتها بقيم طالما مثلها اليسار، كالتي لخصها شعار “عيش، حرية، عدالة اجتماعية “.
كل ذلك تم بغياب أطر منظمة أو ضعفها الشديد، وباللجوء إلى استخدام وسائط التواصل الاجتماعي التي سمحت بالتعويض جزئيا عن هزالة الشبكات التنظيمية الفعلية. سمحت تلك الوسائط بتنظيم التظاهرات وسائر أساليب الحراك، لكنها لم تسمح بالذهاب إلى أبعد من ذلك في فرض المطالب الشعبية سواء بالانتخابات أو بالأساليب الثورية. وبما أن قوى اليسار عجزت عن تنظيم الحراك في “الربيع العربي” الأول لعام 2011 في كافة ساحاته، كانت النتيجة أنه جرى تهميش التيار الشبابي الذي بادر بالثورة وتهميش التوجهات التقدمية، فغلب على المشهد السياسي في شتى الساحات الصراع بين قطبين مضادين للثورة هما النظام القديم والإخوان، وقد اتخذ هذا الصراع أشكالا شتى في مختلف البلدان.
3- لماذا يعجز اليسار عن شق طريق ثالث بين قطبي الثورة المضادة، أي الأنظمة الحاكمة والإسلاميين؟
تتعلق الإجابة عن هذا السؤال بسؤالك السابق، إذ إن الشرط الأول لتمكن اليسار من القيام بمثل هذا الدور إنما يكمن في أن يكون اليسار يساريا حقا كي يستطيع أن يجسّد على الساحة القطب الثالث، أي القطب الثوري، في وجه قطبي النظام والإخوان. لكن الظروف تبدلت كثيراً بين “الربيعين” الأول والثاني. ففي عام 2011، كان مثلث “الثورة-الإخوان-النظام القديم” هو الوضع السائد في البداية في ساحات “الربيع العربي”، إلى أن جرى تهميش التيار الثوري خلال عامين بحيث اقتصر الصراع على القطبين المضادين للثورة.
أما في “الربيع العربي الثاني” لعام 2019 الذي شمل السودان والجزائر والعراق ولبنان، فنلاحظ غياب دور بارز للتيارات الدينية المتزمتة يناهز دورها في الربيع الأول. بل نلاحظ أن التيارات الدينية هي جزء لا يتجزأ من السلطات التي هبّت ضدها الانتفاضات في البلدان الأربعة، وهذا فارق نوعي. ففي السودان كان حكم البشير حكما عسكريا متعاونا مع التيارات الدينية، وفي الجزائر تعاون الإخوان مع حكم بوتفليقة بما أفقدهم أي مصداقية، وفي العراق ولبنان فإن الجماعات الدينية المسلحة التابعة لإيران هي أهم أركان النظام. لذلك، فإن التيار الثوري لم يكن معرضا للوقوع في فخ التحالف مع أحد القطبين المضادين للثورة ضد الآخر مثلما حصل خلال “الربيع العربي” الأول. وهذا نتيجة طبيعية لإخفاق تلك التجربة الأولى إذ إن السيرورات الثورية هي سيرورات تراكمية من حيث الخبرة السياسية، وقد أدركت القوى الثورية خطورة تذويب هويتها.
بيد أن معضلة التنظيم تبقى قائمة، أي مهمة تنظيم الحالة التقدمية العفوية الشبابية والشعبية. في الجزائر مثلا، كان حراك العام الماضي مثيرا للإعجاب، لكنه بقي عاجزا في وجه الجيش بغياب جهة تستطيع أن تتكلم باسمه. ولا أقصد هنا إطارا تنظيميا هرميا، بل أي شكل من أشكال التنسيق المنظم القادر على النطق باسم الحراك الشعبي. هذا الأمر ذاته لم يتوفر في لبنان والعراق بما يفسر تعثر هاتين الانتفاضتين حتى الآن. أما الاستثناء الوحيد الذي يشكل تجربة شديدة الأهمية، فهو السودان حيث استطاع الحراك الشبابي أن ينظم نفسه عن طريق “لجان المقاومة” التي تضم أعدادا كبيرة وذلك بشكل تنظيمي يتميز بنبذ المركزية لتفادي تكرار سوء التجارب الحزبية المركزية التقليدية التي أفضت جميعا إلى البيروقراطية والمركزية السلطوية. بل يحرص الحراك الشبابي السوداني على الأفقية دون أن يعني ذلك نبذ التنظيم برمّته، وقد أوكلت “لجان المقاومة” دور قيادة الحراك الشعبي السياسية إلى “تجمع المهنيين السودانيين”، مع إبقاء رقابتها عليه. ويشكل الطرفان مجتمعين العمود الفقري للثورة السودانية التي لا تزال تجتاز مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر.
هناك إذا فروقات نوعية بين الربيعين في تفوق الثاني على الأول بالمضامين السياسية وتفوق الحالة التنظيمية في السودان على كل الانتفاضات الأخرى. وسوف نرى ماذا سيأتي، لكن المهم هو أننا دخلنا منذ عام 2011 وعلى صعيد المنطقة العربية بأسرها فيما أسميته “سيرورة ثورية طويلة الأمد” ستمتد لسنوات عديدة، بل عقود. فبعد الربيعين سيأتي ثالث ورابع، ولو استمرت التجربة على تلك الصورة التراكمية والتصاعدية نوعيا، سوف يبقى الأمل بتحقيق التغيير المنشود في نهاية المطاف.
4- الاستشراق الكلاسيكي والاستشراق المعكوس هما الفكرتان المسيطرتان على عقول أغلب المثقفين العرب، فكيف نخرج من فكرة أن الدين هو جوهر الهوية الإسلامية لنتمكن من قراءة الدين في ضوء الاجتماع والتاريخ؟
كما أكدت أكثر من مرة، فإن الاسلام لا هو “الحل” كما يرى الإخوان ولا هو “المشكلة” كما يرى بعض خصومهم. المسألة ليست مسألة دين، بل مسألة برامج اجتماعية واقتصادية وسياسية يمكن أن يلتقي حولها المؤمنون وغير المؤمنين.
فإن أنظمة القهر الاجتماعي والاقتصادي يمكن أن تكون علمانية أو دينية أو في منزلة بين المنزلتين، ويمكن، بل ينبغي، أن تجري مواجهتها ببرامج تحررية يلتقي عليها طيف واسع من القوى، من اليساري الماركسي إلى الإسلامي التقدمي القابل بفصل الدين عن الدولة. فالمسألة ليست مسألة دين، بل مسألة أهداف محددة في الحرية والديمقراطية والقضايا الاجتماعية والاقتصادية، تُبنى عليها الجبهات والحركات التي تجمع كل الذين يؤيدونها مهما كانت عقائدهم في شأن الدين. هذا ولا بد للحرية التي ينبغي تحقيقها أن تتضمن حرية المعتقد كركن أساسي من أركانها، وهذه الأخيرة تشمل حرية الإيمان على أنواعه وكذلك حرية الإلحاد.
5 – يعمل شباب أوروبا وأمريكا، على المستويين النظري والعملي على صياغة حركة ثورية جديدة مناسبة لزمننا الراهن. فما الذي يمنع شباب اليسار العربي، في زمن الثورة الرقمية ووسائل الاتصال الحديثة، من أن يشاركوا في هذه الصياغة والالتحام بالتجذر الشبابي العالمي؟
منذ الربيع العربي الأول والحراك الشبابي يتميز باستخدام التكنولوجيا والأدوات الرقمية للتواصل وهو متأثر بثقافة عالمية شبابية تقدمية، رأيناها تبلغ ذروة في الآونة الأخيرة تمثلت في عولمة حركات احتجاجية انطلقت من الولايات المتحدة. هذه مثلا حال حركة “أنا أيضا-Me too” لمكافحة التحرش الجنسي، وكذلك حركة “حيوات السود مهمة- Black lives matters” ضد العنصرية التي فجّرها مقتل جورج فلويد. وكان للمثال الذي قدمه “الربيع العربي” في عام 2011 وقعٌ عالمي مماثل، من خلال النموذج الذي شكله احتلال ميدان التحرير في القاهرة للعالم أجمع، وقد استوحت منه حركات شتى منها حركة “احتلوا-Occupy” التي انتشرت في الولايات المتحدة.
لكن مرحلة الميادين التي اشتهرت منطقتنا بها هي مرحلة أولية ولا تشكل نموذجا كاف لتغيير السلطة. فما معنى احتلال ميدان؟ معناه الضغط على السلطة من أجل تغيير من داخلها، ولو كان للحراك قدرة على الاستيلاء على السلطة لانتقل من احتلال الميادين إلى احتلال مراكز السلطة. فإن احتلال الميادين استراتيجية سلبية، والبقاء عند حدودها دليل على عجز. إن الثورة بحاجة إلى أكثر من ذلك، تتطلب حراكا شعبيا منظما، مؤطرا، قادرا على الانتقال مما يسمى حرب المواقع إلى حرب الحركة أو المناورة، مستهدفا مراكز السلطة. هذا غير موجود الآن في منطقتنا، غير أن الحالة السودانية قطعت شوطا كبيرا في هذا الاتجاه.
6- في ظل أزمة كورونا والصعوبات التي تواجهها المجتمعات فيما يتعلق بقدرة النظام الصحي وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، تنضاف إليها الخسائر الاقتصادية التي ستغطيها الدولة في النهاية، هل ترى أن الأزمة تظهر عوارا كبيرا في النظام الرأسمالي بصيغته النيو ليبرالية؟
كوفيد-19، الجائحة التي نحن بصددها، هي نتاج للعولمة بمعنى الازدياد الكبير في حركة الناس والبضائع على النطاق العالمي، لكنها بالدرجة الأولى نتاج للحضارة الانتاجية الصناعية بمرحلتها القصوى وما تسببت به من تجنّ للبشر على الطبيعة وعلى البيئة. وفي هذا المجال، فإن الاتحاد السوفياتي هو الآخر ساهم في خلق شروط الأزمة والحال أن شروط البيئة مزرية في روسيا الحالية، والصين التي ليست نيوليبرالية هي من كبار الملوِّثين.
فيروس كورونا هو رد فعل الطبيعة على البشر الذين خلقوا أسباب ظهور أوبئة جديدة وانتشارها من خلال تجنيهم على الطبيعة. لقد بدأت الحكومات تدرك خطورة المسألة البيئوية وتهتم بها منذ بداية قرننا الراهن، لكن ما اتفقت عليه وما نفذته حتى الآن يبقيان دون المطلوب بكثير. وقد شاهدنا قبل الجائحة صعودا هاما للوعي البيئوي لدى الشبيبة وهو أمر جيد جدا، ويمكن أن نتوقع ازدياد هذا الوعي بصورة كبيرة في ضوء الجائحة وآثارها. ولا بد لهذا الوعي من أن يصطدم بالنيوليبرالية لأن المطلوب لإنقاذ كوكبنا يتناقض بصورة حادة مع النيوليبرالية التي تقوم على حرية التجارة وانتقال الرساميل ومبدأ الربح كمسيّر أوحد.
7-هل سوف يتجه العالم بعد انتهاء أزمة كورونا يسارا؟ على الأقل في توفير الاحتياجات الأساسية من صحة ومأوى وغذاء ودفء؟
أدت السياسات النيوليبرالية إلى تقليص النفقات العامة بما فيها نفقات الصحة، لاسيما في البلاد الأكثر نيوليبرالية كبريطانيا والولايات المتحدة، بما عمق الهوة بين الأغنياء والفقراء بشكل خطير في المجال الصحي. غير أن الجائحة أظهرت للأغنياء أن الأوبئة لا تقف عند الحدود الفاصلة بين الثري والفقير. طبعا، يتمتع الأغنياء بسبل علاج أعظم بكثير مما لدى الفقراء، لكن أمام مرض لا علاج له كما هو حتى اليوم كوفيد-19، يتساوى الجميع. فبالتالي، أدرك الرأسماليون أن السياسة النيوليبرالية في المجال الصحي التي اتبعوها منذ عقود إنما انقلبت عليهم من خلال تيسيرها لاندلاع أزمة اقتصادية هي الأخطر منذ قرن، لو استثنينا مرحلة الحرب العالمية الثانية. هكذا فقد أظهرت الجائحة إلى أي مدى شكلت النيوليبرالية كارثة على البشرية، لكن هذا لا يعني أنها ستضمحل من تلقاء نفسها بسبب الجائحة. فقد صار أكيداً أن الحكومات سوف تزيد كثيرا من نفقات الصحة العامة، بيد أنها سوف تبقي على الأوجه الأخرى للسياسات النيوليبرالية في سائر المجالات. ولن تسقط هذه السياسات سوى إذا تطورت الحركات السياسية المناهضة لها وتمكنت من تغيير الأنظمة.
8- هل تستغل الأنظمة، الشمولية وغير الشمولية، أزمة كورونا من أجل فرض رقابة أكبر على مواطنيها؟ رقابة قد تهدد مفهوم الحرية؟
شكلت الجائحة ضربة للنضالات التي كانت جارية في شتى البلدان، لكن الأمر لم يدم طويلا. الأخطر من الجائحة هو ما كشفته من احتمالات استخدام التكنولوجيا الحديثة في تشديد الرقابة على الناس. فإن التكنولوجيا التي باتت لدينا في عصرنا يمكن تشبيهها بتلك التي تخيلها جورج أورويل والتي تسمح للسلطة أن تراقبك أينما ذهبت. وقد بات العمل السياسي السري شبه مستحيل مع حيازة الأنظمة على تلك التكنولوجيات. لكن هذه التكنولوجيا سيف ذو حدين، إذ أمكن استخدامها في النضال ضد السلطة كما رأينا في حالات كثيرة. ومهما حاولت السلطات ضبط المجال الإلكتروني، فإن ذكاء الشباب تمكن من خرق المراقبة. فليس المستقبل كابوسا بالضرورة، ولا تزال الاحتمالات والطاقات تسمح بالأمل بتغيير تقدمي، لكنه يرتهن بقدرة الحركات الثورية على ابتكار أشكال التنظيم الملائمة لعصرنا.