مأزق اليسار العربي في وطننا العربي بكل أشكاله سواء كانت القومية أو الاشتراكية أو الماركسية، لا يختلف كثيرا عن الآديولوجيات الأخرى خاصة التقدمية منها؛ فجميعها تقريبا تعاني من انسداد أبستمولوجي شعبي على مستوى العقل الجمعي. بيد أن الأنكى من ذلك والأهم هو مأزق الغوغائية الدوغمائية في الطرح من قبل دعاتها وأنصارها. ولعلنا يمكن تلخيص هذا المأزق في مقاربة مقتضبة تتكون من أربعة محاور.
الأول التبعية الفكرية، حيث لم ينشأ التيار اليساري وخاصة الماركسي ضمن نسق تاريخي طبيعي يعكس التطور السوسيولوجي الاجتماعي نتيجة الحتمية الديالتيكية الهيجيلية أو الماركسية، قدر ما هو تقليد ونقل تجربة نشأت في ظروف مختلفة بالكامل، في تطور طبيعي امتد لمئات السنوات. وهذا بطبيعة الحال أدى إلى انفصال الفكرة عن الواقع وظهور خطاب أقرب إلى الرومانسية الثورية منها إلى الفعل الثقافي والسياسي.
ثانيا، الانسداد الأبستمولوجي، حيث إنه بعد الإخفاق المرير لليسار في المنطقة خاصة بعد هزيمة 67 والنكسة الجيوسياسية والمعنوية التي صاحبتها مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتوسعه الاستيطاني المستمر، أدى إلى ظهور تدين سلفي راديكالي عرف باسم الصحوة الإسلامية، رغم أن هناك عوامل أخرى أيضا دفعت إلى هذا التحول.
هذه البيئة كانت مناسبة جدا لتموضع آيديولوجيا الإسلام السياسي كبديل لتلك الأيديولوجيات السابقة التي زعم منظروها وساستها أنها الحل الأنجع لجميع مشكلات وأزمات المنطقة. مع مرور الوقت، هذا الواقع أدى إلى انسداد أبستمولوجي شعبي على مستوى العقل الجمعي وبات يرفض أو يتوجس من كل ما هو غربي تحت حجة قضية المؤامرة أو في أحايين كثيرة مجرد جهل ونقص في المعلومة. وفي الحقيقة ساهم ممثلو اليسار أنفسهم في غرس الكثير من المغالطات في ذهنية رجل الشارع البسيط المتمسك والمدافع عن دينه حول ماهية اليسار وأهدافه بسبب ضعفهم الأبستمولوجي، كما ذكرت، حول النهج الذي يزعمونه واعتمادهم على الغوغائية الدوغمائية في الطرح.
ثالثا، التموضع والتحالفات الفاشلة، بسبب الانحسار الشعبي عن أفكار اليسار، اختارت الأحزاب اليسارية أن تستمر في اللعبة السياسية على حساب المبادئ التي طالما نادت بها. فبعض تلك الأحزاب وصل الحد بها أن تتحالف مع الإسلام السياسي، وبعضها الآخر وصل به الحد أن يتحالف مع الأنظمة الاستبدادية الوظيفية الموالية للغرب.
كذلك بسبب انحسارهم شعبيا مقابل انتشار أفكار الإسلام السياسي والسلفية بشكل عام، وتحالفهم مع الإسلام السياسي، مع مضي الوقت بدأت تظهر ملامح شكل جديد من اليسار. يسار يحاول أسلمة اليسار. يسار مستعد أن يتصادم مع أفكاره التي ينادي بها مقابل أن يحظى بفرصة تموضع سياسي أكبر لتزيد حظوظه السياسية.
رابعا، محاولة استدعاء الماضي لحل مشاكل الحاضر. المأزق الذي يعاني منه اليسار العربي في مواكبته للتغيرات لا يختلف كثيرا عن مأزق الإسلام السلفي، خاصة عند أولئك الذين حنطوا اليسار إلى عقائد ولها أدبيات فكرية مقدسة يجب ألا تمس مثلها مثل التراث الديني المقدس عند المتدينين. فهناك العقيدة القومية، والعقيدة الاشتراكية، والعقيدة الماركسية مع طوائفها المختلفة مثل الماركسية اللينينية، الستالينية الماوية، التروتسكية. وهذا زادهم انفصالا عن الواقع، ولكن الأنكى من ذلك عندما يقوم أحدهم محاولا فهم الحاضر وتفسيره بأدوات الماضي دون مراعات المتغيرات، عن طريق الحصول على إجابات جاهزة عبر تقلبيه صفحات أدبياته المقدسة.
اليسار في الوطن العربي، كان منفصلا عن الواقع بنسبة كبيرة، وأصبح أكثر انفصلا خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والتداعيات الجيوسياسية والأيديولوجية التي لحقت هذا الانهيار على المنطقة العربية. اليسار في مجمله لم يكن أكثر من شعارات خاوية قامت بشكل أكبر على الغوغائية والتبعية الفكرية، وليس على البعد الأبستمولوجي والتطور الطبيعي للمجتمع نتيجة الحتمية التاريخية. وإذا كانت هناك استثناءات، فهي استثناءات عن القاعدة عبر مشاريع فردية ليس أكثر.
وعلى الرغم أن كل المؤشرات تثبت أن اليسار العربي على سرير الموت، بناء على حالة الضعف والتشرذم التي تشهدها القوى اليسارية في الواقع السياسي والاجتماعي، وكذلك قياسا على انتصار الأيدولوجيا الرأسمالية واستمرارها في تجاوز أزماتها الاقتصادية بخلاف توقعات ماركس، وكذلك أيضا كما ذكرت الكفر بالأفكار اليسارية والردة عليها أفواجا منذ بروز الصحوة الإسلامية وانتصار الرأسمالية والليبرالية بشكل عام، هذا لا يعني أنه ليس هناك أمل في شفاء المريض ولنا في بعض دول أمريكا اللاتينية عبرة.
المنطقة في أشد الحاجة للأفكار اليسارية، في أشد الحاجة للأحزاب السياسية اليسارية، بشرط أن يكون يسارا مصنعا محليا غير مستورد. لدى اليسار من جيل الشباب فرصة كبيرة في ظل وجود مواقع التواصل الاجتماعي، كأدوات ووسائل اتصال متطورة وسريعة وحرة بنسبة عالية، للوصول لأكبر عدد ممكن من الشباب العربي لإحداث التأثير والتغيير وزيادة فرصة التموضع السياسي، بالإضافة إلى أزمة كورونا العالمية التي أظهرت الكثير من مثالب وسوءات الرأسمالية المتوحشة. بيد أن هذا النجاح مرهون أيضا بمدى إيمان اليسار بمسلمات أصبحت من الضرورات والأساسيات في دولة المواطنة، وكذلك ليست ببعيدة عن القيم الماركسية مثل: المبادئ العامة لحقوق الإنسان المستمدة من الشرعة الدولية كالإعلان العالمي والعهدين الدوليين، وهذا بالضرورة يعني الاقرار بالحقوق والحريات السياسية والمدنية، والاقرار بمبدأ سيادة القانون ودولة المؤسسات واستقلال السلطة القضائية، والاعتراف بالتعددية السياسية في المجتمع وكل ما يترتب عليه من نتائج.
*مقدمة ملف “مأزق اليسار العربي“