إن قمت بجولة سريعة في مواقع التواصل الاجتماعي ستصدم بالكم الهائل من الآراء المعادية للمرأة والتي تنقلك، وأنت تطالعها، من هذا الزمن لتعود بك إلى أزمنة سحيقة مضت. لا أدري إن كان هذا الفراغ الذي تسببت به جائحة (فايروس كوفيد 19) هو السبب في تعزيز كل هذا الهجوم بل وتأجيجه ضد المرأة؛ فقد تكلمت بعض الصحف المتابعة لقضايا المرأة والقضايا الاجتماعية الأخرى عن تزايد العنف المنزلي في ظل تلك الجائحة مما دفع الكثيرين من مناهضي العنف لتسليط الأضواء على ما يحدث، فتحركت بالمقابل موجة دعوية جديدة، موجة صلبة تبدو بأنها أصوات فردية من هنا وهناك تدعو لإنعاش تلك المفاهيم البالية وتأصيل الأفكار الرجعية التي تؤطر دور المرأة وتختزل مواصفات شريكة المستقبل بكلمتين (ست بيت).
ويقصد هنا بهذا التعبير أن تكون المرأة عاملة تنظيف وطباخة ماهرة ومدبرة لشؤون المنزل ولشؤون الرجل الذي سترتبط به ومربية ذات كفاءة تهتم بأولادها بمفردها، وتنطلق الآراء من مبدأ أن التعليم ليس فرضا وشرطا مهمًا للمرأة التي يقتصر دورها على ما ذكرته في السطرين السابقين؛ فكما يقول الأصوليون بأن مكان المرأة بيتها.
أما مدعي الوسطية فقد راحوا إلى الرأي الذي يؤكد على أن النساء شقائق الرجال بل ويستشهدون بالآية الكريمة التي تدلل على المساواة في العلم بين الرجل والمرأة وبأنها ليست آية تخصيص كما وردت (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، ومع هذا فإن تمحيصا بسيطا يأتي برأي غير ذلك حيث يظهر أمامك الحديث التالي (ثلاث لهم أجران… ورجل كانت عنده أمة فأدّبها فأحسن تأديبها، وعلّمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران) فما المقصود هنا بعلمها وأحسن تعليمها؟ ثم أعتقها وتزوجها؟
بحثت عن التكليف الديني الذي يأمر النساء بالتعليم فلم أجد سوى اجتهادات من فقهاء أرادوا مواكبة المسيرة الحضارية. دعونا نفترض بأن الدين أوجب التساوي في الحق بالتعليم؛ فلماذا لايزال هناك رسم بيع وشراء في معاملات الزواج ناهيك عن المواريث؟! هنا،بدا الأمر لي مختلطا، وأرجعت ذلك إلى مسألة القوامة التي لن تزول رغم وجود، جدلا، الحق التعليم والذي يترتب عليه نزول النساء إلى سوق العمل والتمتع ولو بشيء قليل وغير منصف -بطبيعة الحال تبعا لعدم تكافؤ الفرص في الأجور- بالاستقلالية.
ولكن تبقى القوامة قائمة بالرغم من أن استشهاد الفقهاء بالمساواة في حق العمل يسقط بالتالي وجود قوامة وتبعية مفترضة ولكنني تابعت البحث فاستنتجت أن الهدف عند دعاة الوسطية من تعليم المرأة يمكن التعبير عنه بكلمات محمود مهدي الإستانبولي في كتابه تحفة العروس: (إن تعليم المرأة قضية حساسة وخطيرة، فإذا أحسن أعطى أعظم النتائج، وأفيدها للمرأة والأمة، وإذا أسيء أفسد المرأة وأضر بالأمة، فمن الواجب تعليم المرأة ما يساعدها على تأدية مهمتها كزوجة، وأم ومربية أجيال، ومديرة مملكة البيت ست بيت )
لست أدري ما حاجة المرأة بأن تكافح في طريق العلم لتنال درجة علمية رفيعة لا تقل عن قرينتها في الدول الغربية ثم تجلس في بيتها كـ ست بيت لتهدر جهدها في التعلم والدراسة والتحصيل الأدبي والعلمي وتهدر أيضا موارد الدولة والمجتمع التي توجهت لتلعيم الفتيات وتهدر أيضا على المجتمع القيمة المضافة لجهدها الممكن توظيفه في سوق العمل والفضاء العام، تهدر كل هذا من أجل فقط ولنستخدم كلماتهم البراقة “أن تحسن في تربية الأجيال وتدير (مملكة البيت)”.
لا أدري كيف ينتقون تلك الكلمات البراقة التي تجعل المرأة تصدق بأن واجبها الأخلاقي كزوجة هو أن تعلق شهادة نالتها وتدير مملكة المطبخ.
ومن جهة أخرى أصب اللوم كله على المجتمع بكل مؤسساته الإعلامية والتعليمية؛ إذ أننا قضينا أعمارنا نتابع دعايات المطبخ التي تقدم فيها المرأة العشاء للرجل الجالس على المائدة وكأنه بكل أبهته وسلطانه أحد الملوك ناهيك عن حصص التدبير المنزلي التي اختصت للإناث فقط في المدارس وكأن شؤون الإنسان الشخصية من تنظيف وطبخ واهتمام بالواجبات المنزلية تقتصر على النساء فقط.
نحن مجتمع يخلو من تنشئة الأجيال على الاعتماد على النفس ويعوّل على نساء المنزل في كل أمر يحتاج إلى تدبير؛ فكم مرة سمعنا رجلا يطلب كأس ماء من أخته وهو متكىء على أريكته والمطبخ يبعد عنه مترين أو أقل.. ألا يحدث ذلك؟ أو ينتظر أمه لتنظف له غرفته؛ بل أنه قد يدخل في صيام بوذي حتى الموت إذا لم تطبخ له الخادمة شيئا يأكله، وكل ذلك عزز مفاهيم صارت جوهرية وغير قابلة للنقاش بأن مكان المرأة هو المطبخ وبأن (سي سيد) لن يكوي قميصه؛ إذ إن ذلك عمل مهين ووضيع يخص النساء وحدهن، ولا أعلم لماذا يعد كي القميص إهانة كبرى!
وقد شهدنا نماذج مثيرة حولنا لرجال يحملون شهادات عليا إلا أنهم وفي الوقت نفسه يحملون تلك الثقافة البالية التي تحدثت عنها آنفا، ثقافة لم تعد تشرى بفلس واحد. وما زادني حرة هو تلك الأصوات المتصاعدة من المجتمع نفسه فما الفائدة من تلك الأصوات المتعالية والشعارات البراقة مثل (تمكين المرأة) (دور المرأة) وشقائق الرجال! وما حاجة المرأة في الدرجة الأولى لأن تكون شقيقة رجل كي تكون شيئا يذكر؟!
لن تؤثر الأصوات المنادية بالتمكين طالما الأصل مشوها وتبنى عليه كل الركائز؛ فنحن اليوم أحوج للتفكيك من متابعة البناء على أسس دعايات التلفاز وثقافة المدارس وحتى البيت، نحن أحوج ما نكون لفهم المعنى الحقيقي للعلاقة التي تربط شخصين كي يكونا أسرة ولتحديد مواصفات شريكة الحياة بعيدا عن تعبير (ست بيت) المرادف برأيي الشخصي لخادمة تعمل على راحتك، فما ضير أن يكون الرجل رجل بيت أيضا؟ وأن يخرج من مرحلة الطفولة ويكوي قميصه ويغسل صحنه وأن يشارك كأي إنسان عاقل في أمور الحياة اليومية من تنظيف وطهي إلخ من أعمال تم تفصيلها على مقاس أجساد النساء فقط.
نهاية، فالحياة القائمة على المشاركة وتحمل المسؤولية تحفظ كرامة الشخصين وتؤهلهما لعيش حياة سعيدة حقا وإن قدمت المرأة مساعدتها للرجل أو اهتمت ببيتها؛ فليكن عن طيب خاطرها ومن دواعي سرورها بعيدا عن جعل هذا واجبا وشرط ارتباط أساسي يضع المرأة في صورة ومرتبة أدنى ويحرمها من تحقيق ذاتها في عمل كريم يجعل لها دورا غير مهم في تحريك عجلة هذه العلاقة الزوجية، دورا لا ينقص عن دور الرجل في شيء.