الدولة العَصرية القابلة للحياة، تحتاج لضمان وجودها واستمراريتها إلى قاعدة حية تَمتلك من الأدوات والآليات التي تُمكنها من السير في ثبات واطمئنان نحو التقدم والرُقي. ولعل من أهم هذه الأدوات والآليات هو الحضور الشعبي الفاعل والمتفاعل في صياغة أطر التحولات التي يواجهها المجتمع وتُمَكنها من الانتقال من القرارات الفردية إلى المشاركة الجَمعية، عبر تَحقق الركن الأهم في بنية الدولة الهرمي والذي يُمثله برلمان منتخب يمتلك كامل الصلاحيات ويعكس التوافقات والتباينات في القاعدة الهرمية التي تُشكل أهم عُنصر تصاعدي في تسلسل الدولة الحديثة، فهي القاعدة والثقل وهي العمق للدولة ومصدر قُوتها في زَمن الرخاء والوفرة أو حالات التراجع والنُدرة.
كما أن هذه الدولة، تنمو وتتطور وتجدد نفسها في وجود مجتمع مدني حي، تخرج من رَحِمه مؤسسات وتجمعات، تُحركها وتُجددها وَتُمثل قاعدتها الفكرية وبيت الخبرة، تَحتاجه الدولة في بُناها وتَأخذها من جُمود الماضي إلى دَيمومَة الحاضر بكل تفاعلات الأفراد فيما بينهم ومع التجمعات التي تنتج منها، ومن ثم تنقلها إلى رِحَاب المستقبل بما فيه من غايات وطُموح وأهداف إستراتيجية.
ومن دون شك، فإن الأمم الحية عندما تُسطر دساتيرها وتكتب قوانينها، فهي تنظر إلى واقع المجتمع واحتياجاته الفعلية، وتطلعاته المستقبلية، متجنبةً محاكاة تجارب بيئات غريبة عنها، مستمَدة من خُصوصيتها الذاتية وتناغم تام مع صيرورة المجتمع، لا أن تتصادم معها. بمعنى ألا يكون وجود الدستور غِطاءً لإكمال شكلية الدولة وزخرفتها بقوانين مُستوردة. لكن إيمانًا وترجمة لرغبةً ذاتية في وجوده كمنطلق لمشروعية النهضة.
ومن الأهمية بمكان، الحرص على أن يخرج الدستور من جمود النص إلى حيوية التطبيق وتأطيرها بتنظيرات وقوانين تتوافق مع إرث القاعدة المجتمعية المتفق عليه، الذي يمثل هويته وحركته الآنية وتطلعاته المستقبلية بحيث يُصبح الدستور هو الضامن لحفظ جميع الحقوق والواجبات لجميع مكوناته، على أسس متساوية من المواطنة الكاملة لجميع أفراد وَطبقات المجتمع، متجاوزًا الانتماء القَبَلي أو الطائفي أو المذهبي أو الطبقي الرأسمالي.
كما يحدد هذا الدستور الأطر للمساواة في توزيع الثروات الطبيعية وضمان عدم تمركزها وتحولها إلى مصدر صُنع القرار وإدارة المجتمع من أي جهة، وفي أي اتجاه كان، ضمانًا لفصل المصالح الشخصية المرتبطة بينها وبين المصالح العامة للناس. فضلًا عن تكافؤ الفرص في الاستفادة الكاملة والعادلة من هذه الثروات دون تمايز وفرز وِفق أي من الانتماءات المشار اليها آنفًا.
وفي تثبيت هذه الأساسيات، يَخرج المجتمع من انغلاقه التاريخي المتعارض مع الدولة العصرية، ويكون أقرب إلى تحقيق أهدافه النهائية من تجاوز إشكالية ثنائية الدولة التي تَركن إلى القبيلة أو العائلة أو الطائفة أو رأس المال وغيرها، إلى دولة المواطنة. كما وتَخرج المصطلحات كالعيش الكريم والسعادة والرفاه من شعاراتها النظرية المطلبية والغايات الفردية، إلى فضائها الأوسع من الواقعية العملية.
والبديهي أن المؤسسة التشريعية هي “مصدر السلطات” النهائية، وهي المُخولة بِسن القوانين وإبداء المساءلات وطرح الثقة وسحبها. وهي تَخرج من صُلب القاعدة التي تحتضنها وتُفرزها بأدواتها وآلياتها في جو من الحرية التفاعلية التي تضفي على المجتمع حيوية واستمرارية. وعندما تتخلى القاعدة عن هذا الدور، رَغبةً أو رهبةً، وتصبح مَصدر القوانين عُلوية من رأس الهرم، فهي عندها تصبح إجبارية مُلزمة، وتصبح مكشوفة بلا غطاء شرعي وإن كانت مُحصنة بلبوس القوانين، لانتزاع الرأس ما للقاعدة من حق أصيل في رسم الأهداف الكلية والمطلبيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية وغيرها، المرتبطة بها والتي تُنظم صيرورة المجتمع الآنية –فهي تنبثق منه وإليه- وترسم كذلك ملامح علاقاته مع محيطه الجغرافي القريب والبعيد. كما وتحدد مدى التطابق والتباين مع القوانين والالتزامات الدولية وتأثيراتها على طبيعة المجتمع وخصوصيته القومية والدينية، والذي يُشكل الدستور مرجعيته وخطوطه الحمراء وحامي ثوابته التاريخية وهويته المتفق عليهما.
عندئذ، نصل إلى الحكومة الرشيدة، بتحقق العدالة الاجتماعية التي هي أصل كل حُكم ولها أرسلَ الأنبياء والرُسلْ، وسَعى في تحقيقها الدعاة والمصلحون وتصدى لها الثوار. وهي حكومة تستمد شرعيتها من القاعدة، بحيث تكون كما يراد لها أن تكون، قلبها وقالبها، وناطقها ومنطوقها، ومصدرها الشعب ومُنتهاه الشعب (from the people to the people).
إن هذا التسلسل الممنهج، في بنيته -إن تَحقق – يُصبِحُ سليمًا مقبولًا مع تطلعات المجتمع. وغير ذلك سيكون، مُشوه الحال، منتقَص الكمال، وصياغة أي حلول مُجتمعية بعيدًا عن هذا الخط البياني يَعني مآلها الفشل الحتمي ودخول المجتمع في دائرة القَهر وسَلب الحريات، وما لذلك من مخاطر التبعات. أقلها حدوث تجاذبات سلبية فاصطدام حتمي مآله انقسام هرمي في المجتمع يفصل القاعدة عن الرأس وصولًا إلى تآكل المشروع وَسُقوط المشروعية. ومنتهى الأمر انهيار كامل المنظومه المجتمعية وسقوط الدولة.
وهذا فَخ وقعَت فيه -وما زال- كثير من المجتمعات التي تتصارع مكوناتها بضغط مجتمعي داخلي وعوامل خارجية في آن، سعيًا في إحداث تغيير حقيقي في واقعها المُر الذي يَحمل حَملًا تَأخرَ مخاضه لمرحلة تجاوزها الزمن، وصولًا إلى عهد جديد يَرسم ملامحه جيل حائر، مُتَشكك يقف عند مُفترق طرق.. وهَش سَهل الاختراق من إعلام خارجي يمتلك تأثيرًا تدميريًا في القيم والأخلاق. هذا الإعلام بكل أنواعه يستطيع تحريك الشارع إلى أي اتجاه ووِفقَ أي خِطَط يُراد لها من مُحركيها، وبأدوات تَقنية يحملها كلَ فرد وأصبحت الآن جزءًا أساسيًّا منه. ولا نُبالغ إذا قُلنا إنها تحولت للكثيرين إلى مُخدرات لا يُمكن التنازل عنها.
وليس من المستبعد انتقال عدوى الصراع وتكرار سيناريوهاته التفصيلية المُدَمرة لقلب مجتمعاتنا الخليجية ذات البُنية الهَشةَ، إذا لم يتم تدارك الأمر بحكمة ووعي والقراءة الجادة بعيون الأبناء الغيورين على حال وصحة المجتمع والدولة لهذه الأحداث المتسارعة والتغيرات في المنطقة المتداخلة والمتشابكة معها في المصالح وفي التباينات، والتي لا تَزال تتصارع فيها قُوى التغيير مع الوضع غير المستقر والمتحرك الذي يَتَجَذر بُعده الزماني من مَرحلة قَرُبَ أفولها.
والمَشهد يَعكس أن النتائج والنهايات غير واضحة المعالم، لصعوبة التوافق والتصالح على الالتقاء على أرضية مشتركة أو حالة الوسط، بتقديم تنازلات جِدية في التحول إلى صيغة جديدة للمشاركة السياسية، أملًا في حفظ هذه الدول وضمان استمراريتها وسط كل هذه الأمواج المتلاطمة، حتى لا ينتهي بها الحال إلى التدمير الكامل في بُناها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. خاصة بعد فقدان المصدر الريعي -الذي على أساسه أسست هذه الدول- بَريقه ودافعيته وأهميته الإستراتيجية. والتي تُؤكد عليه دراسات واستشرافات بيوت الخبرة والاختصاص المالية والاقتصادية.
ومن جهةٍ أخرى، يُلاحظ تسارع الترتيبات الجيوسياسية التي تُرسم لهذه المنطقة بعد التقسيمات الأولى التي أعقبت الحروب الكونية وتوابعها، وهي تتم بذات الدول ولنفس الأهداف، والغايات، إنما بأدوات محلية داخلية، وأخرى خارجية مستوردة، وِفق حروب جديدة أساسها تِقَني. والمنظور أن هذه المنطقة تبدو مقبلة على تغيرات مُزَلزِلة من شأنها أن تَهز الوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي عامةً، والأمني بشَكل أساس، خاصةً أن الخارج الذي يَملك الأدوات الفاعِلة التي تؤثر في مجريات أحداث الداخل وِفق إستراتيجياتها طويلة الأمد، تُريد أن تَدفع بهذه التغيرات لمصالحها ومصالح ربيبتها، دون الاكتراث لأي تأثيرات سلبية على واقعنا، كوننا الطرف المتأثِر، ومسرح التصادم بين هذه القوى التي ترسم بصماتها على مستقبل المنطقة العربية برمتها، والخليجية على وجه الخصوص، بما يَخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية.
أما على صَعيد الداخل، فالسؤال المُلِح الذي يدور في أذهان المثقفين والكُتاب، وحتى سواد الناس، عَمّا يجب فِعلُه وفق إمكانياتنا الذاتية الحالية؟ لمواجهة هذه التحديات الكبيرة التي تُواجهنا، والخطط التي تٌرسم للمنطقة، دَفعًا لِكُرة النار التي شَرارتُها سَتمتد لِجغرافيتنا، لأننا سَلمنا طَوعًا أو كُرهًا، أن نَكون المسرح، وفي حالات ممثلين مساندين، وحالات أخرى ثانويين دون أن نَملك قُدرة التأثير على عملية الإخراج أو الخروج من المسرحية حَالْ الإعلان عن رَفعْ الستارة. وَيبقى السؤال مَطروحًا.