في صدد الحديث عن الإسلام والسيف ، أثارت الصورة المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي ووكالات الأنباء والصحف الورقية والإلكترونية، لرئيس الشؤون الدينية التركي علي أرباش، وهو يحمل سيفا أثناء إلقائه لخطبة الجمعة في آيا صوفيا، التي حولها أردوغان إلى مسجد بعد أن كانت متحفا تاريخيا – أثارت العديد من التساؤلات والاستهجان والسخط لمن يؤمن بالعلمانية والعدالة والتعايش وعصر الحضارة، وبنفس الوقت لاقت التأييد والاستحسان والتصفيق لمن يؤمن بعودة الخلافة ونشر الإسلام بالسيف والقوة وعودة عصور الغزوات الإسلامية لتحويل معابد الكفار إلى مساجد، والحضارات الموجودة إلى حضارة إسلامية بقوة المنتصر بالسيف.
في الحقيقة، لم يكن تصرف أردوغان نابعا من استغلال الدين في المجال السياسي فقط، فهو معروف بذلك التاريخ للتغطية على قراراته السياسية المحلية، وفي توسيع نفوذه الاستعماري، وفي تصفية خصومه، وفي دفع ثمن مغامراته العسكرية في أنحاء كبيرة من الوطن العربي. إلا أن الهاجس الأكبر الذي دفع “خليفة المسلمين الجديد” في تبرير تحويل المتحف التاريخي إلى مسجد، هي رغبته لتثبيت حكمه المتزعزع عبر صرف الأنظار عن الأوضاع الاقتصادية البائسة، والغضب الشعبي إزاء تعامل الحكومة التركية مع أزمة جائحة كورونا، وإنهاك جيشه في صراعات خارج حدود تركيا. ولهذا لم يجد أردوغان مخرجا لكل هذه الورطات السياسية، سوى الاستعانة بالإسلام لإعادة توجيه الأنظار إلى دوره العثماني في الدفاع عن الإسلام وإعادة حقوق المسلمين المغتصبة.
هذا الاستغلال البشع للإسلام في العصر التركي، كان نتاج فكرة أن الخلافة العثمانية، كانت بمثابة الدولة الحضارية والعلمية والفكرية الأولى، وأن الخلفاء العثمانيين، كانوا بمثابة الأنبياء والرسل والأولياء الصالحين. بينما الحقيقة التي ينكرها المتعصب العثماني، وتيار الإخوان المسلمين، تقول بأن تاريخ الدولة العثمانية كان الأقل إسهاما في ميادين العلوم والثقافة، بمقابل إنهماكها في الحروب والتوسعات الاستعمارية في الشرق الإسلامي وشرق أوروبا.
ولا يخفى على أي قارئ للتاريخ العثماني، أنه منذ احتلال العثمانيين للبلاد العربية في عام 1516 بعد معركة “مرج دابق”، ومعركة “الريدانية” في عام 1517، ودخول السلطان العثماني سليم الأول للشام ومصر، واستمرار احتلالهم لأجزاء من الوطن العربي حتى بدايات القرن العشرين، فإن العثمانيين بعد هذا التاريخ، لم يتركوا خلفهم سوى الخراب والكوارث، ولم يهتموا بالدول المسروقة وتطويرها، سوى ما يعزز نفوذهم وتوسع استعمارهم بشكل مخيف ومرعب عبر تغطية تلك الجرائم بشعار الخلافة الإسلامية.
فقد كانت القرون الأربعة التي استمر فيها حكم العثمانيين، أحد النقاط السوداء في التاريخ العربي الإسلامي، ولم يتشافَ العقل العربي المسلم من تداعيات الاحتلال العثماني، بقدر ما أصبح أسيرا لمفاهيم الثقافة العثمانية التي زرعت التواكل والقدرية والخوف والطبقية والأمية. ولا يمكننا أن نخرج من فقرة الجرائم العثمانية بحق الإنسانية، دون أن نمر على واحدة من أسوأ الجرائم ضد الإنسانية التي مارسها العثمانيون وهي جريمة إبادة الأرمن، حيث تعود هذه الجريمة إلى فترة الحرب العالمية الأولى والتي انهارت خلالها الخلافة العثمانية، ويعود سبب إبادة الأتراك للأرمن، بالشك الذي طال الأتراك من دعم الأرمن لروسيا أثناء الحرب، ويقدر بعض المؤرخين بأن حوالي مليوني أرمني كانوا يعيشون داخل أراضي الخلافة العثمانية مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، وبحلول عام 1922، انخفض عددهم إلى 400 ألف فقط.
هذا الجزء البسيط من سيرة الخلافة العثمانية، يجعلنا نفهم دورهم التاريخي في تعطيل النهضة العربية، وفي تدمير مقومات الصناعة والعمل وتشكيل الدول والحكومات والأجهزة الإدارية. كما يضعنا أمام حالة من الذهول والاستغراب والعجب، لمن يدافع عن القتلة والمجرمين، لا لشيء سوى أن هؤلاء كانوا يمثلون دولة الخلافة الإسلامية المنتظرة، وأن وجودهم، بمثابة الانتصار للحكم الإلهي المطلق، وأن الوقوف ضدهم، ماهو إلا إعلان الحرب على الله والرسول. ولم يتوقف الدفاع عن التاريخ العثماني، حتى يمكن أن نفهمه داخل إطار الإيجابيات التاريخية، كما في التاريخ الإسلامي وعصر الحضارة الإسلامية أيام المعتزلة وابن رشد وغيرهم من المصلحين في التاريخ الإسلامي. بل أصبح الدفاع عنهم أمرا مغموسا بالحزن والألم لنا، لهؤلاء الذين تنكروا للحقائق العلمية، ومارسوا أبشع الطرق والوسائل في تزييف التاريخ وظلم الأبرياء الذين قضوا تحت أقدام التاريخ العثماني.
ولعل أكبر جماعة وتيار مارس التغطية على العثمانيين، ودافع عنهم، وتمنى عودة الخلافة الإسلامية من جديد إلى الحكم التركي، هم جماعة الإخوان المسلمين، الذين استطاعوا التغلغل إلى تركيا، والمساهمة في إنشاء ودعم الحركات السياسية ذات التوجهات الإسلامية، وتغييب التوجه العلماني لتركيا الحديثة. حيث بدأت حملة أخونة تركيا مع نجم الدين أربكان الذي أنشأ حزب النظام الوطني بعد أن تحالف مع الحركة النورسية، وهو التيار الصريح في تبعيته لأفكار الإخوان المسلمين وتبنيه لمنهجهم عبر دراسة رسائل الإمام البنا وكتب ومراجع الإخوان المسلمين، ولكن لم يستمر هذا الحزب طويلا، إذ سرعان ما تم حله بعد الانقلاب العسكري في عام 1971.
ثم نشأت العديد من الأحزاب والتيارات السياسية الإسلامية التي كانت تمثل الخط الإسلامي للإخوان المسلمين، ونذكر منهم على سبيل المثال، حزب السلامة وحزب الرفاه وحزب الفضيلة وحزب السعادة، وصولا إلى حزب العدالة والتنمية الذي لا يزال يحكم تركيا بقبضة من حديد باسم تطبيق الشريعة وتمثيل المسلمين منذ وصوله إلى سدة الحكم في عام 2002، وعلى رغم نفي الحزب لتبعيته للإخوان المسلمين، إلا أنه يتقاطع معهم في كثير من الغايات والأهداف السياسية وعلى رأسها عودة نموذج الخلافة الإسلامية.
ورغم اعتراف رجب طيب أردوغان، رئيس الجمهورية التركية، بأن علمانية أتاتورك والدولة التركية الحديثة، في الحفظ والصون كما يقال، إلا أن أردوغان، من ناحية أخرى، فشل في الجمع بين الديمقراطية والإسلام، وانخرط في تحقيق طموحات شخصية له، إذ أدخل تركيا في حروب إقليمية بدوافع مذهبية. والأمر الآخر، وهو ما يزعج قيادة مصر وبعض دول الخليج العربي، أن تركيا لا تزال الحاضنة السياسية والاجتماعية والإعلامية، لكل معارض للأنظمة السياسية في تلك الدول، وأن تركيا فتحت المجال لهم بعد أحداث الربيع العربي لزعزعة استقرار تلك الدول وتمكين الإخوان المسلمين من إسقاط الأنظمة العربية وحكمها بشعار “الإسلام هو الحل”.
لقد أخفق من يدافع عن تركيا باعتبارها دولة الخلافة، في الدفاع عن وطنه الأم، واستساغ أن يكون أداة صغيرة في خدمة مشروع قومي لأمة أخرى لا هدف لها سوى الاستعلاء القومي، وعودة الحكم العثماني، واستعمار الوطن العربي من جديد. وما استخدام الدين والإسلام في الخطابات السياسية الأردوغانية، ومؤخرا تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، ما هو إلا استغلال بشع للعاطفة الدينية لدى العرب، وتسويق أردوغان بأنه حامي حمى الإسلام ومجدد الخلافة الإسلامية.
إن من يراهن على الإخوان المسلمين اليوم في قدرتهم على إنقاذ الوطن العربي من التخلف والاستبداد والجهل، ينسى أن تلك الجماعة، وبلسان منظريها، مثل سيد قطب والبنا والمودودي وغيرهم، قد اعترفوا بجاهلية المجتمعات العربية، وضرورة إسقاط الأنظمة العربية الحالية لأنها غير إسلامية. وما تدخل الإخوان المسلمين، بشكل مباشر أو غير مباشر، في الحرب في سوريا واليمن وليبيا، إلى أحداث مصر في العام 2011، وما بعدها من إثارة القلاقل بركوب موجة الربيع العربي، وتهديد الأنظمة العربية والخليجية بالثورة عليهم، ما هو إلا أحد أساليبهم السياسية في دعم أي توجه لإسقاط الأنظمة والوصول إلى السلطة باستغلال الشعارات الإسلامية.
ومن يرَ في حكم أردوغان بأنه النهاية الحتمية لقيام الدولة الإسلامية، فهو يراهن على الحصان الخاطئ، ولا يرى الأمور بشكل أوضح، بل ويفتقر للتفكير الإستراتيجي المستقبلي. فالرهان على تركيا، يجب أن يكون على الدولة واستقرارها، بعيدا عن حكم الإخوان المسلمين وتدخلاتهم السافرة، وأن تكون تركيا دولة لا تتدخل بشؤون الآخرين، ولا تفرض الوصاية باسم الدين.
فحزب العدالة والتنمية، لن يكون مجدد الخلافة الإسلامية، بل هو حزب يمتلك الكثير من الأخطاء الاقتصادية والسياسية، وبدأت شعبيته في التقلص، وبدأ يفقد قدرته على إقناع الناخبين ببرامجه الانتخابية، والدليل على ذلك خسارته بلدية إسطنبول خلال الانتخابات البلدية الأخيرة. كما أن السجون في تركيا ممتلئة بالمعارضين والإعلاميين وخصوم أردوغان. حيث سُجن عشرات الآلاف من المعارضين في انتظار محاكمتهم، بعد محاولة الانقلاب في عام 2016، وأُقيلَ 150 ألف شخص من العمل للسبب ذاته، في أكبر عملية تصفية للخصوم والمعارضة السياسية.
هنا نصل إلى نتيجة واحدة مفادها، أن جماعة الإخوان المسلمين، وتحالفاتهم مع الأنظمة المستبدة، وقد كشفت مؤخرا تسريبات خيمة القذافي، عن تواطؤ بعض رموز الإخوان المسلمين في زعزعة استقرار الأنظمة العربية، بأنهم تيار يمارس الخبث السياسي باستخدام الدين، وأن تركيا، عندما تضع تلك الجماعة تحت جناحيها، إنما تستغل تلك الجماعة وتأثيرها الديني، في محاولة لإعادة الحلم العثماني، ورفع السيوف، مرة أخرى على المنابر الدينية العربية، كما رفعها خطيب الجمعة في مسجد آيا صوفيا مؤخرا.