السعادة ، الرفاه، البهجة أو أي من تلك المعاني المرتبطة بتعريف اليودايمونيا عند اليونان ظهرت اليودايمونيا أو بالأحرى السعادة كجزءٍ مهمٍ من البحث الفلسفي ودياليكت مدارسه المختلفة منذ القدم. ارتبط مفهوم السعادة أساسًا بالفرد والحضارة والفلسفة السياسية للدولة، فبينما تقدم رؤى الإسلام السياسي غاية الحكومة في فكرة تهيئة المجتمع للخلاص الأخروي، تتفق الفلسفة اليونانية عند أساطينها الثلاثة (سقراط، أفلاطون، أرسطو) على أن غاية قيام الحكومة هي السعادة والسعادة وحدها، رغم الاختلاف الطفيف حول تفسير مفهوم السعادة عندهم.
تحقيق الاكتفاء والاعتماد على الذات تعتبر غاية اجتماع أرقى المكونات الاجتماعية وهي المدينة والذي بدوره يحقق الرفاه، أي السعادة، تبنى أرسطو هذا الرأي في غاية تجمع البشر ضمن نظام الأسرة والقرية ثم المدينة أخيرًا لغايةٍ أساسية تكمن في رفع الحاجة من خلال الاجتماع، منتهيًا إليه كغايةٍ أيضًا لقيام النظام السياسي الحاكم، وهذا التدرج يصل بمنطقية أرسطو إلى اليودايمونيا المجتمعية، أما بالنسبة لمعلميه سقراط وأفلاطون، فهما يتفقان في التشخيص المباشر للسعادة كغايةٍ أساسية لتجمع البشر في المجتمع ورضوخهم تحت سلطةٍ سياسية.
السعادة في حد ذاتها مفهومٌ بسيطٌ وقريبٌ من الجميع بقدر ما هو معقدٌ وبعيدٌ عنهم في الوقت نفسه، ولم تصل البشرية لتشخيصٍ أو تعريفٍ حقيقي لها، ما يجعلها مبهمةً بقدر الوجود نفسه ويجعل من الجدل الدائر حولها مجرد آراءٍ عبر السير الفكري للمجتمع الإنساني. البحث في مينولوجية السعادة ترك أثره في المعتقدات الإنسانية أيضًا قبل أن تكون موضوعًا من موضوعات الفلسفة السياسية أو أن تستقل بفرعٍ فلسفيٍ خاصٍ بها وهي الدايمونيا.
فكرة التناسخ الهندوسية والجينية تؤصل بصورةٍ غير مباشرةٍ، لكن جلية، للألم ضمن حلقة التكرار التي تعلق فيها الروح، ولذا كان الخلاص الوحيد من الألم اللانهائي هو النيرفانا، فالكون كما هو واحدي الترابط والأصالة في نظرية وحودية الوجود، الهندية الأصل قبل انتقالها للفكر الصوفي والعرفاني الشيعي في الإسلام، تجعل من الزهد وقمع الرغبات السبيل الوحيد للعودة للأصل والغياب عن المحسوس وفقدان الوعي به.
في الفكرة الهندوسية والجينية تتحرر الروح من حلقة التكرار الجسدي في حيواتٍ جديدةٍ بعد كل موت وتعود لأصل الوجود، أما في الرؤية الإسلامية فهي تحرر الروح من سجن الجسد والحياة لتعود لأصلها الذي تبقى في حنينٍ دائمٍ له كالناي الذي لا يصدر إلا أحزن الألحان نحيبًا وحنينًا لأصله المقطوع منه (الشجرة) كما يعبر عنه مولانا الرومي في قصيدة الناي. إن الرؤية النيرفانية للحياة تؤيد بصورةٍ غير مباشرةٍ رؤية شوبنهاور للعالم بين أصالة الشر والخير في الوجود بمقياس الحياة الدنيا، فهي تعني أصالة وسيادة الألم على العالم في حين لا يتوفر فيها خلاصٌ وحيدٌ إلا بالتحرر من الحياة، وهو من جهةٍ ما نفسه الخلاص الذي عبر عنه شوبنهاور بطريقته.
قد يكون من المثير للسخرية البحث عن فلسفةٍ للسعادة عند شوبنهاور، لكن في حقيقة الأمر أن كل مواضيع الفلسفة وفلسفة الوجودية الشوبنهاورية على وجه الخصوص تنشأ جميعها من إرادة الحقيقة كما يقول نيتشه في كتابه الأخلاق، والدافع لهذه الإرادة هو البحث عن السعادة. ما يأتي من الخارج، من الروح ومن الجسد، هكذا وضع أرسطو تقسيمه مباهج الحياة لثلاثة أقسام، وهو ما سخر منه شوبنهاور في كتابه حكمة الحياة بقوله إنه لا يُبقي من تقسيم أرسطو شيئًا سوى العدد. ويرى فيلسوف الوجودية شوبنهاور أن السعادة أو مباهج الحياة ونعمها تتعلق بثلاث قضايا هي (ما هو عليه الشخص، ماذا لديه وما هو موقعه من تقدير الآخرين).
في القضية الأولى تشترك عوامل شخصية تربوية وأخرى بيولوجية ليس للفرد يدٌ فيها، إذ إنها تعني شخصية الفرد من هيئته وجماله انتهاءً بخبراته وتعليمه وكل ما يؤلف شخصيته، أما بالنسبة للقضية الثانية وهي ما يمتلكه الشخص من الثروة، والأخيرة هي سمعته وحديث الآخرين عنه وموقعه منهم. هذه التوليفة هي العوامل التي تحدد السعادة عند شوبنهاور، على العكس مما يرى سقراط والرواقية من أن الأخلاق والقيم هي المحدد الوحيد للسعادة وحكم أفلاطون استحالة سعادة شخصٍ لا يتمتع بالعدالة والأخلاق كاستحالة تعاسة شخصٍ يتمتع بها.
جان بول سارتر يتفق من جهةٍ ما مع أرسطو من حيث أهمية قيمة الحياة ومعناها كسببٍ مهم للسعادة، وهو ما يمكن وصفه بوجود معنًى وهدفٍ للحياة كشرطٍ أساسي لتحقيق اليودايمونيا، ومعنى الحياة وقيمتها هو ابتكار بشريٌ محض، فحسب الرأي الوجودي لسارتر فالوجود سابقٌ للماهية، ما يعني أن الحياة فاقدةٌ للمعنى بالأصل حسب تعبيره.
تفسير سعادة الأشخاص والجماعات التي تعيش ظروفًا اقتصاديةً مختلفة وقد تتمتع بعضها أو لا تتمتع من الأساس برؤيةٍ خاصةٍ للعالم يجعل من إيجاد الغاية في الحياة عاملًا مشتركًا لتحقق السعادة لديها، فعلى سبيل المثال قد نرى إرهابيًا أيديولوجيًا يقضي عمره في الصحراء وفي جبهات القتال والسعادة تغمره دومًا على العكس منه رجلٌ ثريٌ متخم بالأمان لا يقدر حتى على تذكر إحساس السعادة، وما الذي قد يجعل فتاةً كمارلين مونرو تمتلك متغيرات معادلة شوبنهاور الثلاث تعيش حياةً تعيسةً تنهيها بالانتحار؟!
مينولوجيا السعادة والألم
ليست السعادة إلا حالةً مؤقتةً بين زوال ألمٍ وقدوم آخر، إنها أقرب للتعبير عن حالة الفراغ من الألم بين ألمٍ وآخر، هكذا يعرف شوبنهاور السعادة تعبيرًا عن سيادة الألم وأصالته في الوجود، وهو ما يمكن أن نكتشف علاقة عمومٍ وخصوصٍ من وجه مع الفلسفة السياسية المسيحية وحتى الإسلامية من جهةٍ ما.
يبرر القديس أوغسطين فساد الدولة ورداءة خدماتها تجاه مواطنيها بأن الحياة على الأرض بمجملها هي ما أسماه بمدينة الشيطان، أي أنه لا يجب توقع تحقق السعادة كغايةٍ أساسية لنشوء مفهوم الدولة والسلطة السياسية على الأرض فذلك لا يتحقق إلا في مدينة الله في السماء بعد الموت، ولذلك لا يجب لوم السلطة الدينية على تقصيرها تجاه الشعب حد تعبيره.
من جهةٍ ما تتفق الغاية السياسية للمذهب السياسي في الدين الإسلامي حتى اللحظة على الغاية الجديدة للحكومة التي ابتدعها أوغسطين في الفلسفة السياسية المسيحية، فالسلطة السياسية وفق النماذج التي تصدرت مشهد الحضارة الإسلامية بدولها ودويلاتها لم تقم على أساس تحقيق السعادة للمجتمع الذي تحكمه بل صبت جل اهتمامها على مسؤوليتها في إعداد المجتمع لملكة الله.
و مع أن اليودايمونيا نفسها كانت غائبة عن ساحة الفكر الإسلامي ككل إلا أن الاعتقاد باستحالة تحقق مثاليةٍ سياسية في صور السلطة السياسية الحاكمة آنذاك كان هو المتجذر في اللاوعي الإسلامي وهو ما يوصلنا للعلاقة التي أشرنا إليها حول أصالة الألم عند شوبنهاور في الوجود.
من جهةٍ أخرى يبرز تساؤلٌ آخر حول التعرف بالنقائض، أي أن الحرّ لا يعرف إذا لم يكن هنالك برد، والنهار لا يمكن معرفته إن لم يكن هنالك ليل، والموجود الثابت لا يمكن إدراكه إن لم يكن هنالك نقيضٌ يوازيه أو يشغل وجودًا مناقضًا أمامه مهما كانت مساحة تأثيره، هذا التساؤل هو “هل كان للسعادة أن تدرك إن لم يكن هنالك ألم؟!..”.
أما بحث اليودايمونيا هذا ينتهي حتى الآن إلى أن السعادة والألم قضيتان دائمًا ما أرجئت مسؤوليتهما تجاه ثلاثة موضوعات عامة في البحث الإنساني هي السلطة السياسية، الفرد أو الإرادة الإلهية.
بحث هيكتور عن السعادة
هيكتور الذي يعيش حياةً منظمةً ومرتبة ومتوقعة النتائج، يعمل كطبيبٍ نفسي في نيويورك وهو يلتقي بمرضاه الذين إذا ما استمعت إليهم كشرق أوسطي فستصاب بالذهول من شدة تفاهة أزماتهم النفسية، وهو الذي يدركه هيكتور أيضًا، في حين أن هيكتور نفسه يدرك أنه لا يستطيع جلب السعادة لمرضاه وشفاءَهم في الوقت الذي لا يعرف هو نفسه ما هو معنى السعادة.
” لقد نفد صبري” تخبره إحدى مريضاته في جلسة علاجٍ معه، لينفد صبره هو الآخر ويصرخ في وجهها بمعنى نفاد الصبر مستشهدًا بامرأة تلد دون ماء في جنوب أفريقيا وطفلٍ آخر يُقتَل والداه أمامه بالإكراه، ليثير غرابة تأزمها لقاء حياتها المرفهة التي تعيشها في نيويورك وتنتهي بها بالتعبير عن نفاد صبرها في حياتها.
يقرر هيكتور الذهاب في رحلةٍ بحثًا عن السعادة، تبدأ من الصين لأفريقيا ثم حبٍ سابقٍ له في لوس أنجلس تاركًا صديقته تنتظره في نيويورك. وعلى طريقة قواعد العشق الأربعين بدأ هيكتور يدون قواعد السعادة في مفكرةٍ تركتها له صديقته في حقيبته، باحثًا عن السبب الذي يجعل من أناسٍ في مجتمعاتٍ مختلفة أو متخلفة عن الحضارة تتمتع بهذا الإحساس العالي من السعادة في الوقت الذي تغيب فيه في مجتمعاتٍ متقدمة.
في طريقه لأفريقيا على طائرةٍ منعدمة الأمان، تجلس بجواره امرأةٌ أفريقية تحدثه عن كتابٍ لمؤلفٍ أمريكي يعرفه هيكتور حول السعادة وتعطيه إياه قائلةً “الناس في بلدك يحتاجونه أكثر منا”. يلتقي بصديقه القديم في أفريقيا عند وصوله ويطلب منه البقاء والعمل هناك معه لكنه يعتذر ويقول أنا طبيبٌ نفسي ولا حاجة لي هنا، فأنت تعتبر ضرورةً بينما أنا أُعتبَر إضافة، الطب النفسي يأتي مع البذخ، كلما زاد تقدم المدينة كلما زاد عدد الأطباء النفسيين فيها لكل مترٍ مربع.
هذا يتركنا أمام تساؤلٍ غامضٍ آخر هو “هل فعلًا أنقذتنا الحضارة؟ وهل ندفع سعادتنا ثمنًا لذلك؟!”، فالمفارقة العجيبة التي يقابلها هيكتور هي سعادة الناس في هذه المجتمعات التي تفتقر للأمن أو الخدمات مقارنةً بنوع المرضى الذين يقابلهم في بلده ونوع مشاكلهم التي قد تكون ساذجة لتكون سببًا يقف في طريق سعادتهم. يواجه هيكتور الكثير من المغامرات التي قد تودي بحياته وتجعله يتمنى عدم قيامه بهذه الرحلة، إلا أنه يتذوق حقًا طعم السعادة حين ينجو من كل مشكلة تواجهه، ليصل لوس أنجلوس أخيرًا ليقابل حبيبته أيام الجامعة التي أصبحت أمًا، ليزور صاحب الكتاب الذي أهدته إياه رفيقته في الطائرة في أفريقيا.
ينتهي الفيلم للتعبير أن اليودايمونيا أو ما نسميه قمة السعادة هي تلك المشاعر التي تحتاج للخوف والأمن والحب والفقد والألم لتحقيق الإحساس الحقيقي للسعادة، يمكنها أن تكون نيرفانا أو حالةً من الاتحاد أو مهما كان اسمها، وسواءً كانت قابلةً للفهم والدراسة أم لا، فهي لا يمكن أن تنتج عن رتابة الحياة وروتين الحضارة، فهي مجمل إحساسات البشر المجتمعة معًا لهذا الغرض الذي يمكن توصيفها بمسببات السعادة، وهي ذاتها من زاويةٍ أخرى تفسير شوبنهاور لها بوصفها فترة زوال الألم وانتظار ألمٍ آخر.