عند النظر لتحديثات الفلسفة الدينية وتأويلها للنظرة الدينية للعالم، إضافةً للنظرة السطحية العامة لجمهور المتدينين نجد تلك الصورة عن الله أنه خيرٌ محض ولا يصدر عنه إلا الخير كذلك وهو موجد كل شيء في الكون. تلك الظواهر والأحداث والسلوكيات الفاقدة للقيم باعتبارها مقابل تلك الحاملة للقيم المثلى منها يجب ألّا تكون صادرةً عن المثالية التكوينية والعلة الأولى واجبة الوجود.
لكن هذا لوحده سيحملنا على السؤال في حقيقة وجود الشر مقابل وجود الخير بناءً على فرضية الخلق والإيجاد، أن الله موجد كل شيء وكل شيء بالطبع تتضمن الشر كذلك وهذا مباشرةً ما سيدفعنا إلى التساؤل هل الله خلق الشر وهو خير محض؟!.. وهل هذا يعني أن الشر صادر عن الخير المحض؟! أو أن الخير يمكن له أن ينتهي إلى شر؟!
هذا بالتأكيد تناقض واضح وشتات لا يصل إلا إلى نسف مقدمات هذه النتيجة والنظر للخير والشر من منظار آخر وبطريقة أخرى لتصحيح المفهوم الحقيقي حول هذه المسألة. وجهة نظر أخرى تعرف أنه لا مفر من هذه النتيجة الحتمية للتنقيب في وجود الخير والشر إلا القول بأنهما لا وجود لهما أصلًا، أي أنه ليس لهما وجود في الخارج، وما حقيقتهما إلا حكم الحاكم في قضيةٍ ما وتصنيفها وفق هذه التسميات الموجودة في الذهن.
كما أننا لا نغفل أن تفسير المفهومين يختلف من فرد لآخر وحيٍّ لآخر، فما يراه الذئب خيرًا في إطعام أولاده وإسكات جوعه بلحم ذاك الحمل، تراه الخراف شرًا محضًا ووحشية، وتطلق هذا الحكم المناقض لحكم الذئب بشأن هذه القضية، والجلاد يجلد المحكوم ظنًا منه بخير يفعله في تنفيذ الحكم والمجلود يراه ظلمًا وقسوةً بحقه، وكذلك هم الجنود على الطرفين من ساحة المواجهة يرون ما يفعلونه خيرا وأن الشر هو ما يصارعون على الطرف الآخر ويتبادلون هذه الأحكام نفسها على ضفتي المعركة.
تتباين المفاهيم من ثقافة لأخرى ومجتمع لآخر ومن شخص لآخر أيضًا كما هي متباينةٌ بين أحكام الذئب والخراف. إن التفكير في الأمر مفزع ولكنه مثمر كذلك، يكسر حجرا آخر من أحجار الوهم ويفتح الباب لقضايا أخرى أكبر كحقيقة نظرية العدل الإلهي وغيابه عن هذه المسألة في كل حركة تفاعلٍ في الكون وغياب مصاديقه عن الكثير، بل إن الأمر سينسف الكثير من المقدمات الاعتقادية السابقة والتفكير في الكون والوجود من ناحية القِدَم وسقوط فكرة الحادث أو سقوط الوعي عن قوة الإيجاد إذا كان الكون حادثًا.
الله الشخص أو الوجود؟!
الإجابة عن هذا التساؤل له علاقةٌ مباشرة بموضوع النقاش هنا من حيث ارتباط اللاهوت الأساسي والمحوري بقضية وجود الوجود وتكوينه. يذكر ريتشارد دوكنز في حديثه عن اللاأدرية في كتابه وهم الإله أن آينشتاين كان واقعًا في مسألة شخصنة الله أو وصف القديم الموجد للوجود فرضًا على وجوده بوصف الشخص أو الذات ورفضه لشخصنة أو ذاتية الله، أي أنه لم يكن مع فكرة أن هناك شخصًا أو ذاتًا هي السبب في الوجود وإنما هي قوة أو أي شيء آخر.
إن هذا التفكر في مسألة الخير والشر ووجودهما كنقيضين كما هي كل النقائض في الكون وكونهما النقيضين الأوسع والأشمل وتناقض الحكم في تشخيصمها في المسائل عند الحكام يفضي إلى نفي قضية شخصنة الله أو الوجود وحتى وعي القوة الموجدة، ما يتركنا أمام رأيٍ آخر أقرب هو وحدة الوجود ونفي وعي علته.
يقول المناطقة باستحالة اجتماع النقيضين، وهذا صحيحٌ نسبيًّا كمقدمة يمكن الفرض عليها هنا، فيستحيل وفقًا لهذه القاعدة المنطقية اجتماع الخير المحض مع الشر أو الشر المحض مع الخير معًا في الشخص الموجد أي الخالق لأنهما نقائض بعضهما وهذا ما لا يستقيم منطقًا؛ لأن قبولهما معًا ينفي محضية أحدهما، وعلاوة على ذلك فهذا يرجع بالبحث إلى المربع الأول، ومعرفة المشكلة تكمن في استبدال أحد متغيرات القضية في مقدمات اجتماع النقيضين بحيث تصبح دليلًا على عدم شخصنة الموجد والإله الشخص فيقودنا إلى فكرة وحدة الوجود وقدمه بأكمله مع انتفاء وجود القدرة والمعرفة حاليًا لإثبات ذلك.
الظن بأن الزرادشتية فطنوا إلى ذلك فجعلوا من اللاهوت ثنائية القطب، أحدها الخير وهو اهورامزدا محب للبشر والآخر الشر العدو لهم بحيث صار العالم انعكاسًا لصراع أزلي وأصالة المكونين الاثنين معًا. يتحدث عن ذلك فريدريك نيتشه بقوله إن زرادشت رأى في ذلك الصراع القائم بين الخير والشر الدولاب المحرك للأشياء.
إلى جانب ذلك فالشر نفسه في الأديان الإبراهيمية تمثيل للملاك الهابط من السماء المنقلب عليها وعلى الرب والعاصي له في أمر السجود لآدم ولكنه هنا عبارةٌ عن مخلوقٍ ذي قدرات خارقة إلا أنه ليس إلهًا وسينتهي به الأمر في الجحيم مع البشر العصاة، وهذا الإنزال من منزلته هو نفسه ذلك الذي ألغى ألوهية المهام والاختصاص وإحالتها إلى ملائكة تدير أعمال الرب الواحد في الكون في الأديان الإبراهيمية.
و العَودُ بناءً على الاستنتاج السابق قد يصل إلى إشكالٍ آخر وهو ما أُشكِلَ على عدم اجتماع النقيضين في ذات الله (الشخص الموجد فرضًا) وهو كيف يُرفض اجتماعها فيه ويُقبَل وحدة الوجود وقدمه والنقائض مجتمعة فيه، بما فيها النقيضان الاوسع الخير والشر؟!، وهذا إشكال صحيح لولا أنه كذلك يمكن التنبه إلى أنه لا تجتمع النقائض المحضة في هيئةٍ واحدة وإنما وجودها هو وجود في هيئات مختلفة تخالف بعضها وليست في هيئةٍ واحدة، وهذا إذا ما افتُرِضَ في فكرة وجود الشخص الموجد فهو سينتهي بوجوب تعدده في هيئات مختلفة لكل نقيض من النقيضين وهذا يعني تعدد الشخص الموجد – إضافة إلى ما يبطل فرض هذا في بداية البحث – وبعبارةٍ أخرى تعدد القدماء (الآلهة)، وهذا بالتأكيد وهمٌ آخر يقود لإشكالاتٍ أخرى لا طائل من الخوض فيها في هذا المقام.
يجدر الانتباه أيضًا إلى الوجود وقوة موقف فرضية قِدَمِه نظريًا وإمكانية اجتماع النقائض فيه واستحالة اجتماعها في الذات الموجدة هو أنه يتمتع بالهيئات المختلفة التي تعرض هذه النقائض على العكس من شخصنة ذات واحدة أو ذوات متعددة موجدة، وهذا يسير إلى مسارٍ مختلف أمام الفكرة العامة عن الخير والشر والله والحدوث والقدم، فإذا ثبت قدم الوجود أي قدم العالم وتعدد الهيئات وتغيرها مع ثبوت استحالة الوجود من العدم فإن مسألة الحدوث تصبح كذلك محالا، لأن الوجود نفسه هو ذلك الوجود القديم وإنما تتعدد هيئاته وتتغير صوره من صورة لأخرى.
منطق الخير والشر
قد يكون الحديث عن الخير والشر مواجهًا بالاعتراض بمنطقٍ تجريبيٍ يستخدمه أهل الميثولوجيا البعيدون كل البعد عن التجريبية، والقول بالطبع إن ما سلف الحديث بشأنه هو حديث فلسفي وليس تجريبيًّا في تشخيص وتسمية الخير والشر بينما اعتراض أنصار الدين الحديث يقول إنها مفاهيم اعتبارية بحتة ولا تعني حقيقة وجود في الخارج.
هذا القول منطقيٌ أيضًا ولكنه من جهة أخرى سواءً كان الأخذ بهما اعتبارًا أو تحققًا فهما يعبران عن سلوكين موجودين في الخارج يظهران على الطبيعة ككل وليس السلوك الإنساني لوحده، مع الأخذ في الاعتبار أن حقيقتهما أيضًا نسبية كما يتبنى ذلك نيتشه وتشخص رجوعًا لأحكام ثقافية وزمانية وبالأولوية مصلحة صاحب الحكم تحدد شريّة وخيريّة القضية بالنسبة له لا لغيره، إلا أن هنالك خطوطًا عريضة عامة منخلعة عن الأحكام الثقافية والأيديولوجية تضع الحكم عقليًا بالسيئ والحسن في الوعي الجمعي من جهة وطبقًا لمصلحة مطلق الحكم من جهةٍ أخرى.
الأمر هنا أشبه بالتساؤل الكلامي، هل يصدر القبيح عن الله؟. لكن المشكلة هنا في تشخيص القبيح من قبل الكلاميين، والمعروف أن هذا القبيح هو ما تتفق عليه مرجعياتهم الثقافية وليس ما تتفق عليه كل الثقافات، والأمر أيضًا راجعٌ لكونه حكمًا ثقافيًا وليس وضع وجود بأكمله وهو حصرًا على السلوك البشري فقط، وهذا ما يجعل من تساؤلهم ناقصًا وليس إلا جزئيةً صغيرةً هي أقرب من المغالطة أو أنها أشبه بالفرار من الموضوع كتساؤلٍ وجودي يجب أن يكون أفقه أوسع وأعم خاليًا من فرض القناعات على أجوبة السؤال نفسه.
عودًا على مثال الذئب والحمل والمفترس والفريسة، هذا الكائن المعتمد في غذائه على إلحاق الضرر بالكائن الآخر وتوقفه عن ذلك يعني فناءه هو، والأمر كذلك بالنسبة للفريسة تقع دونما ذنبٍ بين براثن المفترس وبقاؤها يعتمد على فناء مهددها كما هو بقاؤه يعتمد على إلحاق الضرر وإزهاق الفريسة.
هذا الأمر المعقد الحامل على التعاطف مع الطرفين هو صورةٌ مصغرةٌ للحقيقة الكبرى للطبيعة، إنها فوضى من تفاصيل صراع الجزئيات ضمن نظامٍ أكبر ترضخ لفرضه الآلام وجودًا تحقيقًا للتوازن الطبيعي ضمن هذا النظام الذي نسميه الطبيعة، وهو أيضًا صورةٌ معاشة لنسبية الحكمين إذا ما نظرنا لهما في حدود النظام أي الطبيعة، والأمر يتعدى ذلك إذا ما وقف المفكر خارج حدود هذا النظام متسائلًا.
الطبيعة، هذا الكيان الأكبر الأعمى الفاقد للوعي وأجزاء نظامه الفاعلة بالشعور هو ما يعتاش على آلام هذه الكائنات وهي لا تفقه السيئ والحسن أو أيًا من تسمياتنا الاعتبارية، ونحن جزءٌ من هذا النظام ونتحمل هذه الشرور نفسها، بل ونرتكبها أيضًا في سبيل البقاء. وفقًا لكل هذه المعطيات ومختلف خطوط سيرها فإنها جميعًا ستصل لمفهوم الكيان اللاواعي مهما كانت تلك التسميات التي تطلق عليه والنظر للقضيتين الخير والشر بطريقةٍ أكثر علمية ومنطقية.
بين العرض والأصالة
شوبنهاور يقف مواجهًا اللاهوتية بتبنيه رأي أصالة الشر وجذريته بقوله إن الوجود أساسه الشر بناءً على معطياتٍ طبيعية وفلسفية تدعم وجهة نظره في فلسفته العدمية. في مجتمع مصغر للغابة -موطن البشر الأم- تقع الأرنب على قائمة طعام الثعالب، مئات الأرانب تعيش أمام عشرات الثعالب الأخرى في البيئة نفسها وتشكل مصدرًا وفيرًا للغذاء لمساعدتها على البقاء والتكاثر. تتناقص أعداد الأرانب وتزداد الفجوة بين أعداد وفياتها على يد الثعالب وبين مواليدها، بينما تزداد أعداد الثعالب تكاثرًا لتصل للمئات أمام الوفرة من الطعام الموجودة في بيئتها.
مع تناقص أعداد الأرانب تقل فرص صيد الثعالب وتحصيل الغذاء ما ينعكس على كثرتها تلك التي تبدأ في التناقص مع انعدام الغذاء تدريجيًا وصعوبة الحصول عليه، وهذا سيهيئ جوًّا آمنًا للأرانب للتكاثر والحفاظ على بقائها ما يعيدها لسابق عهدها أو أفضل. هنا ستعود الحلقة نفسها من التكرار في وفرة من الطعام وقلة من المفترسين ما يسهل الصيد ويحسن فرص البقاء والتكاثر للثعالب وتستمر الطبيعة في الدوران في هذه الحلقة المفرغة المملؤة بالألم والتي لا تكترث لذلك سعيًا لتحقيق توازنٍ طبيعيٍ وبقاء شيءٍ أكبر وهي الطبيعة العمياء.
لن تكترث لصلوات الفرد أو آلامه وإذا ما تدمرت حلقةٌ ما فيها فهي تعيد خلق أخرى دون ظهور غايةٍ محددة من ذلك ومن كل هذا التكرار المفرغ والصراع ضمن هذه الحلقة فيما يعرف بالانتخاب الطبيعي في طفراتٍ تستطيع إدخال الكائن حلقةً أخرى وتحسن فرص بقائه أو إبادته عبرها أو عبر أي تدخل خارجٍ عنها بما يسمى أيضًا بالانتقاء الصناعي. طريقة العيش هذه هي ما يسمى في الحقيقة شرًّا وما يقصد به الشر في الوجود أصالةً بصفتها الظاهرة الأصيلة والأجلى في قانون الطبيعة وإيقاع الحياة الوجودي.
الخير عارضٌ في الطبيعة وإن كان صادرًا فيها، فهو في المجمل صادرٌ عرَضًا عن الكائنات نفسها، بينما الشر يبقى كضرورة. حتمية وجوب صدور الشر من هذه الكائنات في المقام الأول يعتبر سببًا محوريًا للبقاء مثلًا، وهو أصالةً خارجٌ عن قدرتها من حيث وجوده تكوينيًا كقانونٍ طبيعي موجودٌ في الطبيعة بشكلٍ لا تقدر فيه مكوناتها مخالفته لاقترانه بالبقاء.
لن يستطيع المفترس التوقف عن قتل الكائنات الأخرى الموجودة على رأس نظامه الغذائي، فهذا يمثل تهديدًا وجوديًا بالنسبة له، وهو أيضًا ما يجعل من سلوكه المفترس شيئًا خارج إرادته كحتميةٍ وجوديةٍ بديهية، وهذا في الواقع شرٌ من منظور كل ضحاياه، لكن هذا المفترس يستطيع الإحجام عن أكل طفل ضحيةٍ ما أو حتى ردع غيره عن النيل منه في تلك اللحظة وإعطاءه فرصةً للنجاة، وهذا ما نسميه نحن وهو والضحية خيرًا، وبالطبع فإن سلوكًا كهذا يعتبر مخالفًا لضرورات بقائه فهو سلوكٌ غير مألوف ويشذ عن القانون التكويني الطبيعي للبقاء، وبالنتيجة يكون هذا الفعل صادرًا من الكائن المفترس نفسه مخالفًا أساسيات بقائه ويعني أنه سلوك عارضٌ على السلوك الأساسي في حياته ومعيشته، وبتعبيرٍ آخر أصالة الشر وعراضة الخير في سلوكه وإن كان حكم الشر مطلقًا من قبل ضحاياه فقط، وبتعبيرٍ أدق فإن الشر أساسي في وجوده، أي أنه تكويني، بينما الخير فهو مكتسب أو عارض.
هذا القياس البسيط والناقص يدعو لاستقراءٍ أعم يشمل حكم الضحية والجلاد، الفريسة والمفترس، فسلوك الشر خارج عن إرادة المفترس بينما هو شرٌ وضررٌ في رأي الضحية وعقلًا فإن إلحاق الضرر يتطلب علاقةً سببية لتحديد الجناية وإذا ما تتبعنا خط العلل فسنصل إلى العلة الأساسية التي حتمت على الاثنين أسلوب العيش هذا، وهي علة الوجود الأولى لوجود وجودٍ بهذا النظام. الوصول لعلة الوجود سواءً كانت تلك في نظر الدين المرجئة للاهوت أو تلك الفلسفية في قدم العالم، فإن الأولى بناءً على الاستقراء السابق تصل إلى قبح الفاعل وجعله مصدراً للشر، لتستمر الحاجة في إيجاد فهم أعمق لهذه المسألة وأكثر منطقية.