يعد كل من الفن والأدب وسائل للنضال من أجل مختلف القضايا التي يعايشها الفنان أو الأديب، ولعل في اختلاف المنظرين حول كون الأدب فنًّا أو أنه كيان مستقل عنه لشيء هين، أن ذلك راجع لكون المسألة ثانوية، بينما اعتبار الأدب وسيلة للنضال فهذا ما لم نشهد له خلافا قط، فالقطع الأدبية هي نتاج تجارب الأدباء في معايشة الواقع، فأحينا يسردون تلك الوقائع وأحيانا أخرى يروونها على ألسنتهم أو على ألسنة أشخاص آخرين، كما أنها قد تتخذ شكل الخيال وذلك في محاولة الأديب للاعتراض على الواقع ومقاربة احتياجاته بخيالات لما يجب أن يكون أو ما قد يكون لو لم نغير في الوقائع.
وبقدر ما يكون الأدب إحدى وسائل الترفيه أو عرفا محتكرا لدى الطبقات المثقفة والمخملية، بقدر ما ارتبط بالبؤس والفقر والمعاناة، فالأدب ذلك الشيء الزئبقي الذي يتخذ شكل القالب الذي يوضع فيه، فيتأثر بنفسية الراوي وأهوائه وتخيلاته، وكذا بزمانه وبيئته، وبالمجتمع الذي يعيش فيه وطبيعة نظامه السياسي والاجتماعي، ناهيك عن تركيبة نظامه العقائدي، ومن هنا تتمخض أنواع لا حصر لها من الأدب، تختلف مشاربها وأغراضها، لكن تظل جميعها وليدة الحاجة، وكونها تعبيرا عما هو غير مألوف، وما هو طرح ناقد أو جديد.
ونجد من بين هذه الأصناف المتعددة من الأدب نوعا وليد الحرمان والأسى، ألا وهو “أدب المهجر” أو أدب الاغتراب، حيث يكون الأديب مغتربا عن وطنه لأسباب متعددة منها ما يتعلق باختياراته الشخصية ومنها حالات يُفرض على المغترب أن يهجر وطنه، لكن المغتربين حتى وإن هاجروا أوطانهم فإنها لا تهجرهم، تظل جزءا من كياناتهم، فقوانين الطبيعة جعلت من الإنسان جزءا منها، وبذلك يصبح الوطن جزءا من الإنسان يحمله حيث حل واستقر.
وحرمان الأديب من وطنه، ذلك الجزء من ذاته، يرثيه طالما هو حي، ولكون الأدب مرآة للوقائع الأديب فإن ذلك يجعل من الأدب الوجه الظاهر لكل تلك المشاعر التي تخالجه من حرمان وأسى، فيسكب الأديب كل تلك المشاعر العميقة في قالب أدبي تختلف أشكاله من المذكرات والروايات والشعر إلا أنها جميعها تتسم بالقتامة والسوداوية والمغالاة في استخدام التشبيهات البليغة والمحسنات الأدبية فذلك ما تصنعه ذكريات الأديب حين يتعلق الأمر بالحنين للوطن، فدائما ما تضخم تلك المناطق أو الشوارع أو حتى الحجارة المركونة في الأزقة فتستحيل جميعها لوحات أدبية بالغة الجمال ومكتملة الحياة بمشاعرها، غير أنها في الحقيقة لا تعدو كونها جامدة وقبيحة كما كانت في الماضي.
وبذلك يغالي أدباء المهجر في رومنسية الخطاب، بيد أن بين أدباء المهجر الكثيرين من يتحولون إلى أصحاب قضايا ومناضلين من أجلها بالقلم والأدب، فلطالما كانت أدبيات المهجر ملاذا للمغترب من أجل الدفاع عن حقوقهم المسلوبة، فمنهم الملاحقون سياسيا بسبب قضايا الرأي أو الدفاع من أجل الديموقراطية، فتصبح الشمولية، ونقيضها الديموقراطية، محور أعمال الأديب، فيسكب كل تلك المظالم في كتب توعوية، أو في روايات دوستوبية تمثل الوقائع في أبشع مظاهرها وتتنبأ بذلك المستقبل الكئيب الذي ستؤول إليها الشعوب والأوطان، ومن الأدباء من يغترب هربا من وقائع اجتماعية ذات علاقة بخلفيات دينية أو بالعادات والتقليد، فيروح الأديب المغترب يحلل في بنية تلك المنظومات القيمية بأسلوب نقدي يبين بذلك بشاعة هذه القيم وخطورتها على الفرد والمجتمع فمنهم من يكتفي بذلك ومنهم من يتبنى أطرا أخرى فيحاول تسويقها للقراء على أنها الحل، سواء كانت أفكارا تتعلق بحركات تصحيحية أو أخرى تجديدية ينبغي أن تحل محل القديمة بشكل راديكالي.
وتعد كل الأنظمة الشمولية والمجتمعات المنغلقة ذات الفكر الواحد أحد أهم عوامل رواج مثل هذا النوع من الأدب –أدب المهجر- وذلك كون المهاجرين أحد الإفرازات الطبيعية لها، من خلال التضييق على حرية التعبير من خلال سن قوانين مطاطة تدين التفكير والتعبير خارج المسار المسطر من قبلها مسبقا، ويترتب عن ذلك نزييف خارجي لتلك الكفاءات الأدبية نحو بيئة أكثر مواءمة لطبيعة نشاطاتهم، نحو دول المواطنة التي تكفل التنوع وحرية التفكير والتعبير.
وبذلك تعد قوانين الرقابة الفكرية أحد العلل التي تسهم في رباء أدب المهجر، حيث تندرج ضمن قوانين الرقابة الفكرية نصوص تشريعية تخول للسلطات الرقابة على المؤلفات المنشورة داخل الدولة، وتمنع أي منشور مهما كانت صفته من التداول في سوق النشر إلا بإذن مسبق من هيئات رقابية، ويتعدى ذلك إلى الرقابة على سوق الكتاب حيث إن عمليتي تصدير واستيراد الكتب والمؤلفات تخضع هي أيضا للرقابة، الشأن الذي يضمن للنظام الاستحالة النسبية لتداول الفكر بحرية حيث تقوم هيئات الرقابة والضبط بإقصاء جميع المنشورات والمؤلفات التي تتعارض مع الفكر الواحد التي تتبناها تلك الأنظمة.
إلا أن جميع الأنظمة الشمولية تحمل بذور فنائها، حيث فرضت التطورات التكنولوجيا واقعا جديدا، فيه يستحيل على مثل هذه الأنظمة إقصاء التفكير والتعبير، وذلك عائد لكون تكنولوجيا الإعلام والمواصلات قد تجاوزت حدود الزمان والمكان، ولم تعد لتلك المؤسسات الرقابية القدرة على منع أي مصنفات فكرية حتى تلك التي تؤلف في المهجر والتي غالبا ما يكون أصحابها متابعين قضائيا أو تم تخوينهم بطريقة ديماغوجية من خلال مؤسسات البروباقوندا الإعلامية التابعة لمثل هذه الدول أو الخاضعة تحت نفوذها.
وبذلك نختم مقالنا هذا بمجموعة من الاستنتاجات التي ندرجها كما يلي:
- أدب المهجر لا يقتصر على كونه عملا أدبيا رومنسيا بحتا، بل يعد وسيلة مهمة ومأثرة للنضال من أجل القضايا العادلة.
- لم يعد من الممكن للدول الشمولية فرض الرقابة على الفكر وجميع مصنفاته الأدبية والعلمية، وذلك راجع لكون تكنولوجيا الإعلام والاتصال فتحت نوافذ آمنة وسلسلة للنشر غير التقليدي.
- أصبح أدب المهجر في الآونة الأخير أكثر تداولا في البلدان المحظورة أكثر مما كان عليه في السابق للسبب المذكور سالفا، ولم تعد إجراءات نفي الكتاب أو اضطهادهم سلوكا رادعا على الأقل على صعيد التعبير.
- يعد أدب المهجر من بين أهم المصنفات التي تزيد من الوعي الحقوقي لدى الشعوب المتخلفة، نظرا لوقعها المر على الشعوب، وخطابه المستفز في تعرية الحقائق، والجرأة في طرحه لجميع التابوهات الاجتماعية والسياسية.