الكتابة أو الحديث حول الحريات في الكويت، وتحديدا حول وعن حرية الرأي والتعبير، هي كمن يمشي في حقل ألغام لا نهاية له في الأفق. فمفهوم حرية الرأي، وتفسيره سياسيا أو اجتماعيا، يتخذ عدة أشكال وطرق في التأويل والتعبير بناء على الدستور الكويتي في بعض الأحيان، وبحسب العادات والتقاليد والدين في أحيان أخرى، أو فيما يقرره أعضاء مجالس الأمة. وهو ما جعل من المبادئ العامة للحريات في الكويت متزعزعة وغير واضحة المعالم، فضلا عن مخالفتها لأسس المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
تقول العديد من الفلسفات والأديان والمدارس الفكرية أن الحرية جزء من الفطرة البشرية، فهناك ردود فعل طبيعية عند الإنسان لعدم الخضوع والرضوخ، وإصرار على امتلاك زمام القرار حينما يواجه ما يهدد حريته، لكن هذا النزوع نحو الحرية المطلقة قد تم تلافيه بعد نشوء القوانين والدساتير التي تحدد علاقات الأفراد مع المجتمع والدولة والآخر، وبعد أن تنازل الإنسان عن جزء من حريته من أجل الصالح العام، أي من أجل الدولة التي أعطاها الفرد الصلاحية في التشريع وحفظ الحريات، على أن يكون الفرد ممثل الأمة من خلال الديمقراطية وتداول السلطة والدفاع عن الحريات.
وفي الدستور الكويتي، فقد نصت المادة (30) من الدستور على أن “الحرية الشخصية مكفولة” وفي المادة (35) منه على أن “حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان طبقا للعادات المرعية، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب “. وأيضا المادة (36) من الدستور تنص على أن “حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما، وذلك وفقا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون”. هذا بالإضافة إلى المواد الأخرى والمتعلقة ببعض القضايا المتصلة بالحريات، منها ما هو يتعلق بالصحافة والتجمعات وحرية المراسلة وتكوين جمعيات النفع العام.
لكن ما يعنينا في هذا المقال، هو ما يتصل ويحدث في الكويت من انتكاسات واضحة ومخالفة للدستور الكويتي فيما يتعلق بحرية الاعتقاد وحرية التعبير والرأي. فقد شهدت الكويت وعلى مدار سنوات طويلة تفريغ الدستور من محتواه، وخصوصا فيما يخص قضية الحريات، وإحلال آراء بعض نواب مجلس الأمة أو الناشطين أو الضغط الشعبي على آلية اتخاذ القرارات المتعلقة بالحكم على بعض الآراء المخالفة لتوجهات التيارات الدينية أو السياسية.
فكما أن الدولة تنص على أن دين الدولة الإسلام، إلا أن ممارسة حرية الاعتقاد كما ينص عليها الدستور الكويتي تواجه ضغوطا كبيرة بتقليص ممارسة الشعائر الدينية لبعض الأقليات والمذاهب الدينية، بالإضافة إلى أن مفهوم حرية الاعتقاد يحيل إلى عدم الاعتقاد أيضا. ولكن، في الجانب الآخر، تعاقب دولة الكويت من خلال السجن كل من يفطر في نهار رمضان، وكل من ينادي ويدعو إلى تغيير المعتقد ونقد الإسلام والعبور إلى أديان أخرى لا تتوافق مع الإسلام، وهذا يعتبر من أكبر المخالفات الجسيمة في مفهوم حرية الاعتقاد. وإذا كانت الحكومة تدعي بأن الكويت وطن يضم جميع الأطياف والمعتقدات، فلماذا لا نرى ذلك الشعار واقعا ومطبقا على أرض الواقع؟
هنا، بإمكاننا القول بأن السلطة السياسية لها آراء وتوجهات خاصة منفصلة عن الدستور، يطغى عليها عامل الموازنات والتحالفات والصفقات السياسية، أكثر من كونها سلطة تؤمن بالحريات وحق المواطن في النقد، وربما هذا يعود في بعض أسبابه لطبيعة مكونات المجتمع الكويتي غير الواعية في غالبيتها لمفاهيم الديمقراطية والمجتمعات المدنية الحية، وأيضا لنمط الحكم في مجتمعاتنا العربية الذي يمنع ويعتبر كل نقد يوجه إلى نظام الحكم أو الحاكم أو الدين، يعتبر خيانة وطنية وتعديًا سافرًا على الوطن، إلا أن ذلك التصرف السلطوي من ناحية أخرى، قد وضع المجتمع ومكوناته المختلفة أمام ما هو أخطر من تلك التوجهات الحكومية، إذ برزت على المشهد السياسي والاجتماعي نتائج تلك التنازلات، وهي الصراعات والحساسية الطائفية والقبلية التي لا تكاد تهدأ ولا تستكين، ورفع القضايا بشكل مفرط وهستيري ضد أصحاب الرأي، وانتشار مفاهيم الواسطة والمحسوبيات والفساد كثقافة مجتمعية ربحية، وهو ما أثر بالتالي في القضية الأساسية لكل الأمم والحضارات وهي قضية الحريات التي بدونها ولولاها لما حدث أي تقدم وتطور وابداع.
إن إشكالية ومأزق الحريات في الكويت، وفي غالبية المجتمعات العربية والإسلامية، يكمن في تجزئة الحرية بحسب مفاهيم وأفكار فئات المجتمع، فما يكون رأيا حرا عند الطائفة السنية، على سبيل المثال: نقد المرجعية الدينية للطائفة الشيعية، هو ليس بالضرورة حرية رأي لدى الشيعة والعكس صحيح مع الطائفة السنية. فمفهوم الحرية في الوعي والعقل الكويتي لا يزال يتبع منظومة العوامل الدينية والاجتماعية والسياسية والموروثة، ولم تصل إلى المفهوم العام الذي جاء بعد عصر النهضة الأوروبية وعصر الأنوار.
وهذا الأمر ينطبق تماما على التيارات العلمانية والليبرالية أيضا، فالعديد من المواقف السياسية، كموقف اتفاقية السلام مع دولة اسرائيل التي اتخذتها دولة الإمارات العربية المتحدة، مارس بعض الليبراليين جانب التخوين والعمالة واحتقار رأي المنادين بالسلام، وهنا تناسى هؤلاء مفهوم حرية الرأي الذي يطالبون فيه، بل وداسوا في بطنه كما يقال.
وهذا إن دل فإنما يدل على قصر نظر وغياب وعي وسطحية في معالجة القضايا من مفهوم ليبرالي يؤصل لحرية الرأي والتعبير مهما كانت الآراء مخالفة للقناعات الأخرى. وهذا الأمر نراه أيضا في الجانب الاجتماعي، حيث تشهد قضايا الحريات الفردية، كاللباس الحر والحجاب وتناول الخمور، تشهد مزايدات ومضاربات لا حصر لها، وتدل على عمق أزمة مفهوم الحريات في المجتمع وغياب الفردية والاستقلالية. ولذلك تبقى مسألة الحريات في الكويت مشوهة وناقصة للكثير من الحوارات والمعالجات الفكرية والفلسفية والأخلاقية والقانونية.
وربما هنا أدق ناقوس الخطر أيضا، فإذا لم يستأنف الشعب الكويتي، بمختلف توجهاته الفكرية، مسيرة الحرية والتنوير والعقلانية، والدفاع عن جميع الأفكار والآراء، طالما لا تدعو إلى العنف وحمل السلاح وانتهاك مفهوم المواطنة، فإن البدائل الرجعية هي من سوف تسيطر على المشهد السياسي والاجتماعي لتحيل الوضع سوءا أكثر من ذي قبل، وهو ما يحصل تماما اليوم في المجتمع الكويتي.
وعلى الرغم من أن أسرة الحكم، وكما يتضح من سلوكها ونهجها في المجتمع، بأنها تسعى إلى الموازنة ما بين فئات المجتمع، إلا أن ما يطغى على الوجه العام للدولة هو الصورة الدينية القبلية الطائفية الغارقة في التخلف والتراجع الحضاري والمدني. وترجع تلك الأسباب، بالإضافة إلى سكوت أو تماهي الأسرة الحاكمة مع الوضع المزري، وإفشال مجلس الأمة بتحويله إلى مراكز خدمة للمواطنين، وغياب نمط الاقتصاد المنتج، إلى غياب استراتيجيات واضحة للتعليم، وهو الأساس الذي تنطلق منه الأمم والحضارات لبناء الإنسان وتفوقه، فالتعليم في الكويت لا يزال يعاني من الرجعية الدينية وسيطرة الفكر الديني على المناهج والإدارة التربوية، وهو ما أفرز تراجع مؤشرات التعليم بحسب تقارير التنمية البشرية في ظل سكوت حكومي ورضا شعبي يسيطر عليه الإعلام الديني الذي لم يعد مهتما بتنمية الإنسان، بقدر ما هو مهتم بجمع الأموال وتغييب عقول الأجيال.
وهنا وصلت الديمقراطية الكويتية، التي من المفترض أنها تمارس دورها الرقابي والتشريعي لحماية الحريات الفردية والفكرية، والدفاع عن المواطن، ومحاسبة المسؤولين والفاسدين، وتمكين الثقافة الديمقراطية، وصلت إلى أن تكون النموذج الأكبر، في المحيط الخليجي والعربي، في عملية تحصين الفساد السياسي، وتشريع القوانين المعادية للحريات، والدفاع عن المصالح الشخصية والهويات الدينية والقبلية والطائفية أكثر من الاهتمام بالوطن والمواطنة والعدالة الاجتماعية والدستور الكويتي.
لقد طرحت ثورات الربيع العربي بشكل مباشر أخطار الحركات الإسلامية، وخصوصا حركة الإخوان المسلمون، التي ينظرون فيها إلى الإنسان بمنطق السمع والطاعة وعبيد دولة الخلافة. وكامتداد لذلك الأخطبوط الديني (الإخوان المسلمون) لم تخلُ الساحة الكويتية من تواجد ممنهج لحركة الإخوان المسلمين تحت مسميات ديمقراطية خادعة، ولم تخلُ أيضا من خلايا نائمة ناشطة في بعض الأحيان لتيارات دينية أكثر عنفا ووحشية والمتمثلة بالحركات الأصولية مثل داعش والقاعدة وحزب الله.
وجميع تلك التيارات الراديكالية، لا تعترف بجغرافية الدول، ولا بالحدود الفاصلة بين الدول العربية والإسلامية، ولا بالمواطنة المحلية، ولا بالدساتير الوضعية، بقدر ما يؤمنون بفرضية الأمة الإسلامية والخلافة المفقودة، وأن المسلم الصيني أو الهندي أو الأوروبي أو الغربي باستطاعته أن يحكم البلد بدلا عن المواطن المحلي.
ولا يمكن هنا أن ننسى ما قاله مرشد الإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف (طز في مصر وأبو مصر واللي في مصر والجماعة فوق الجميع) في إطار السعي لخلافة إسلامية. كما لا يمكن أن ننسى أيضا، مشروع تصدير الثورة الإسلامية التي قدمها الخميني، والتي لا تعترف بالدول وحدودها بقدر ما تؤمن بإقامة مشروع الأمة الاسلامية على المذهب الشيعي حتى يأتي الإمام المهدي لتسليمه الحكم الكامل.
وفي جانب آخر، لم تسلم المعارضة السياسية في الكويت من التأثر الشديد بالتيارات الدينية وأفكارها، بل وصلت في بعض الأحيان إلى أن تتبنى الأغلبية المعارضة مشاريع بقوانين لوأد الحريات وإشهار لجنة الظواهر السلبية، بالإضافة إلى القانون سيئ الذكر بإعدام المسيء للرموز الدينية، وكذلك تم إزعاج الساحة الكويتية بقضية أسلمة القوانين ومنع الاختلاط في المقاهي والتعليم وغيرها من المراهَقات الفكرية التي تدل على مستوى من الوعي لم يبلغ التطور الحضاري، بل يقبع في كهوف الماضي يعيد إنتاج الأزمات ويحيل المجتمع الكويتي إلى إمارة من إمارات طالبان المتخلفة.
وهو ما جعل المعارضة السياسية في المجتمع الكويتي ضعيفة في الدفاع عن مسألة الحريات والمواطنة والمساواة، بل أصبح ديدنها الرئيسي (أثناء الانتخابات) محاولة كسب العاطفة الدينية والقبلية والطائفية لتحقيق المكاسب الشخصية، أو في التأثير في السلطة السياسية ونظام الحكم (أثناء المقاطعة) في مسألة عودة المدانين في قضية اقتحام مجلس الأمة. وهذا التناقض جعل من مسألة الدفاع عن الحريات مجرد مرحلة يتطلبها المشهد السياسي، وليس مرحلة رئيسية في الانتقال إلى الديمقراطية الليبرالية وإنهاء عصر الريعية والفساد والجهل والاستبداد الحكومي في ملاحقة أصحاب الرأي.
إن الفكر الديني والطائفي والقبلي، المؤسس للمشهد السياسي والاجتماعي في الكويت، لم يقدم مستوًى عاليًا من الحريات المدنية، ولم يقلص التواجد السلطوي في الدولة، ولم ينهِ بالتأكيد تراجع وتخلف الكويت، بقدر ما قدم نفوسا جافة في أعماقها، وانتهى إلى مصادرة النفس البشرية في مشاعرها وعواطفها وقناعاتها الإنسانية، ليخلق مسارات ماضوية وتابوهات مقدسة استمرت إلى يومنا هذا لتشكل طوطميات في السياسة والدين والمجتمع لتشكل مسارات قانونية أعاقت التحضر وقمعت الحريات.
لقد كان لضعف الهياكل المدنية للمجتمع، وتغييب الحواضن الفكرية والسياسية للتحول النهضوي، وسطوة رجال الدين ونواب التأسلم السياسي، الدور الأهم في تغييب التراكم الفكري التاريخي الذي مرت به الكويت منذ بدايات إنشائها كدولة مدنية خالصة ذات رؤية مستقبلية متطلعة إلى المشاركة بالنهضة الحضارية، إلى دولة هشة ينخرها الفساد والجهل واللاعقلانية في التعاطي مع القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لهذا، ما لم تتطور البنية الذهنية الكويتية، عبر وضع إستراتيجيات وطنية حداثية عقلانية، للخروج من مأزقها الفكري والسياسي والاجتماعي الواقع تحت سطوة التحالفات والمصالح والتقاليد الرجعية، فسندفع حينها ثمنَ “الله لا يغير علينا” أضعافا مضاعفة. وطالما أن صانع التغيير في المجتمع الكويتي هو رجل الدين أو رجل السياسة الفاسد، وليس رجل الفكر والتنوير والوطنية، فإن الفشل والتخلف والانحطاط سيكون مآل ذلك التغيير.