أرسلت لهم صورةً بديعةً لوجهها، تمسك فيها السيجارة قرب شفتيها كـ مارلين مونرو عربية، ليأتيها ردٌ ساذجٌ وصادمٌ يتخوف من كون صورتها هذه ترتبط بنوايا عاهرة، قائلين لها “المعذرة، نحن نقدم عروض فاشين نظيفة” و كأنها قدمت لهم عرضاً لتمثيل دور بورنو.
كان هذا رد مجموعةٍ عربية لعرض الأزياء لفتاة يمنية جميلة بعد أن عرضوا عليها العمل كعارضة، وخصوصاً أنها كانت فتاةً لها معرفةٌ واسعة و مختصة في الفنون والأزياء الشعبية و التراثية لمنطقة شبه الجزيرة العربية.
في الأشهر القليلة الماضية، خرج الفنان المصري يوسف شريف تعاطف الجمهور العربي المتدين ظاهراً، ليقول بأنه يشترط عند توقيع عقود عمله أن لا يلمس النساء أو يمثل معهن أدواراً ساخنة، لينجرف تعاطفٌ كبيرٌ يحيي تدينه في جو عملٍ فاسق.
المخيب لأمال هذا الجمهور السطحي الوعي هو أن “الشريف” نفسه بعدها بأشهرٍ قليلة شارك صورةً له مع زوجته وهي غير محجبة، فتنهال عليه التعليقات من شاكلة “كيف تنشر صورة زوجتك وذراعها مكشوفة؟”.
مرت قبلها الكثير من الأحداث في الوسط الفني المصري على سبيل التحديد نقلت تصوراً جديداً حول الواقع الفني المصري و تراجعه بعد أن كان قبلة الفن العربية، حيث تم رفع قضيةٍ على الفنانة رانيا يوسف بتهة خدش الحياء العام بعد ارتدائها لفستان عبر عنه البعض بالفاضح، فيما طالعتنا مؤخراً قضايا فتيات التيك توك المصرية التي انتهت بأحكامٍ وصلت لسنوات سجن و غرامات باهضة تحت تهمة خدش الحياء العام وهدم قيم الأسرة المصرية.
أثيرت هذه القضية مؤخراً تحت مصطلحٍ جديد يحاول التيار الديني المدرن تسميته بالفنون النظيفة عقب نشر فتاةٍ مصريةٍ ترقص البالية صورتها وهي محجبة بلباس البالية، الأمر الذي أثار سخرية الكثير من الفنانين والنقاد.
الحراك الفني الديني الإجتماعي العربي يفتح الباب أمام صراعاتٍ فكرية وثقافية جديدة بعد الربيع العربي و التغييرات السياسية و الثقافية التي ألقت بظلالها على شعوب المنطقة عموماً، بالإضافة لما حملته التقنية من وسائل تواصل ووصول للمعلومة مع التقدم العلمي المتسارع في العقد الماضي.
“مواطن” تتابع هذا الحراك وتفتح الباب أمام تساؤلاتٍ مهمةٍ تكاد تكون العنوان الأبرز جزئيات هذا الصراع الثقافي في المجتمعات العربية حالياً، هل الفن جزءٌ من الدين؟ أم أنه لا علاقة للدين بالفن؟ وهل للتدين الجمعي علاقةٌ بشكل العمل الفني؟ أو ما يمكن التعبير عنه بصورةٍ أخرى هو هل توجد ضوابط اجتماعية تقرر على الفنان شكل عمله الفني؟.
احتقار الجنس و المرأة
إن احتقار المرأة اجتماعياً ورفض الاعتراف بمساواتها بالرجل له ارتباطٌ بمفهوم الشرف الحالي في وعي المجتمعات الإسلامية وربطه مسألة الجنس، حيث تتدوال منصات التواصل جرائم بحق المرأة تحت دعوى الشرف، حيث تكون في الغالب ردود فعل أسر الضحايا تجاه تخوفاتٍ ممارسات الضحايا للجنس.
هذا يعبر من جهةٍ أخرى عن احتقار الجنس نفسه من زاوية احتقار المرأة ورؤيتها كألةٍ جنسية تلطخ شرف الأسرة و قيمها، الأمر الذي ينعكس بدوره على احتقار الفن المحلي الذي يقترب من هذه المسائل، ولما للفن من دورٍ أساسي في تشكيل الوعي الثقافي للمجتمعات تحاول التيارات الدينية السيطرة على مخرجاته وتجييش الرأي العام ضده.
العمل الفني
العمل الفني في حد ذاته يعتبر تخلقاً لا يمكن لعموم الأفراد خلقه، فهو عملٌ إبداعي من حيث تعريفه، أي أنه تمردٌ فرديٌ دون قيود، حيث يقول الناقد فارس العليي لمواطن أنه لا يرى أنه بالإمكان قولبة الفن وتقييده، فهو يظهر متميزاً في اختلافه كعملٍ فني عن محيطه وحتى عن أقرانه.
الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز في تصريحٍ لها على مواقع مصرية تقول بأن مصطلح السينما النظيفة باطلٌ من حيث نشأته و يخنق الإبداع، في إشارةٍ إلى أن منتوجه لا يعتبر عملاً فنياً من حيث التعريف المشهور للفن بأنه العمل الإبداعي.
ويؤكد على ذلك الناقد المصري طارق الشناوي بقوله أن السينما النظيفة توصيفٌ خادع ليس له علاقةٌ بالفن، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه سابقاً في تأويل تصريح الفنانة عبد العزيز، فالعمل الفني وخصوصاً السينمائي يجب أن يكون عملاً إبداعياً مكتملاً، وناقلاً للمشهد الفني بصورةٍ أكثر عمقاً وواقعيةً قد لا يلاحظها المشاهد في حياته اليومية، وإنما يعيشها متجسدةً في العمل الفني أمامه، حيث أن الفرق بين الفن والواقع هو أن الفنان ينقل جمال الصورة الواقعية للمتذوق في حين لا يتذوق لذة الجمال حين يشاهد الواقع خارج إطار العمل الفني كما يرى فان جوخ.
مارتن هايدغر في قصيدته للوحة الحذاء البالي لفان جوخ ينقل لذةً أخرى لجمالٍ لا يمكن أن يرى في القبيح، فمن قد يرى جمالاً في حذاءٍ بالٍ أو يتذوق منه لذةً فنيةً إلا حين يجعل الفنان تلك اللذة متجسدةً في جمال عمله المحاكي للواقع، ولذا يقول فان جوخ في إحدى رسائله أنه يرى الجمال في قبيح ما يراه الناس قبحاً.
نفاقٌ إجتماعي
الغريب في الأمر أن الشد والجذب في الجو العام في وسائل التواصل الإجتماعي وفي الوسط الفني الحالي يقف مع ما يسمى بالسينما والفنون النظيفة، وهو الأمر الذي يثير الغرابة حين رؤية المنطقة العربية المتألفة من مجتمعات توصف بالمحافظة تصنف في رأس قائمة الدول الأكثر مشاهدةً للأفلام الإباحية، الأمر الذي يرى بعض المثقفين العرب أنه يعبر عن حالة النفاق الإجتماعي التي يعيشها المجتمع العربي كنتيجةٍ طبيعية لعقود من تكريس الفكر الديني المتطرف في الوعي العربي عموماً منذ مطلع ما سمي بالصحوة الإسلامية أواخر القرن الماضي، والذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة التنافس الإقليمي بين القوى الأكبر في المنطقة.
ومن الملاحظ أنه مع التقدم التقني الحاصل وسهولة الوصول للأعمال الفنية الغربية والشرقية، نجد عدم رضا المجتمع العربي على المحتوى الفني السينمائي المحلي الذي يعنبره مبتذلاً وتافهاً، فيما تتصدر مواقع التواصل السخط الشعبوي تجاه أي مشهدٍ ساخنٍ أو عملٍ فني عربيٍ يخدش ما يسمى بالحياء العام، فعلى النقيض من ذلك، تظهر مسلسلاتٌ غربية تمتلئ بالمشاهد الساخنة والجنسية التي يتابعها الغالبية من شباب المجتمعات العربية حالياً كما هو مسلسل صراع العروش الذي انتهى العام الماضي.
هل ترى عزيزي القارئ أن هذه الحالة الإنفصامية قد تفضي إلى أن هذه المجتمعات المتناقضة الأحكام والممارسات يفضي بأنها في حاجةٍ لإعادة تقويمٍ نفسي؟.. شاركنا أرائك و تعليقاتك فنحن حتماً نقرأها